الشارع المغاربي : لا يخفى على كلّ متابع لما يحدث من تطوّرات سياسية وميدانية عسكرية في كلّ من السودان والغرب اللّيبي تداعياتها الخطيرة على مجمل المنطقة، عبر رسم أفق جديد لمشهد جيوسياسي إقليمي ودولي وإعادة انتشار أو انحسار للقوى والمحاور المتصارعة وحلفائها في الداخل. سقوط عمر البشير وماتبعه من تسلسل سياسي درامي في السودان من جهة ومحاصرة الجيش اللّيبي بقيادة خليفة حفتر ومحاولة فرض إرادته وبسط نفوذه بقوّة السلاح على العاصمة اللّيبية في الجهة الأخرى يطرح بالضرورة أسئلة واستفهامات تتعلّق بتداعيات هذه الإرهاصات الكبرى على المنطقة عموما ولا سيّما على مستقبل الحركات الإسلامية ومنها حركة النهضة التونسية التي تجد نفسها اليوم على رمال إقليمية متحرّكة وساخنة.
ما يحدث في أم درمان والخرطوم وطرابلس الغرب من تصدّع وزلزال سياسي (السودان) واشتباك عسكري وصراع إرادات بين الجيش اللّيبي وخليط ميليشيوي إخواني سلفي تكفيري( ليبيا) يرمي بظلاله على الداخل التونسي عامّة ولاسيّما على أبرز مكوّناته السياسية حركة النهضة التي تجد نفسها في إحراجات كبرى بسبب تداخلها الإيديولوجي مع القوى السياسية والمجاميع الإيديولوجية المحاصرة اليوم في طرابلس، وقرابتها الفكرية والسياسية مع حزب المؤتمر الشعبي السوداني (حليف عمر البشير) المنقلب عليه في السودان أخيرا.
سقوط “مظلّة الترابي”
سقطت مظلّة حسن الترابي التي آوت شباب حركة النهضة في نهاية عقد الثمانينات وبدايات التسعينات بعد انقلابين عسكريين متتاليين. وصّفها راشد الغنوشي ب”المظلّة” معترفا بجميل المؤسّس الفعلي للحركة الإسلامية في السودان في ندوة في الخرطوم إثر رحيل الترابي مهندس الانقلاب العسكري الذي أوصل عمر البشير إلى السلطة في 1989، قائلا:” مظلّة الترابي آوت شباب النهضة أثناء عثرتهم”.لحركة النهضة ولزعيمها تحديدا وشائج قربى إيديولوجية معلومة، إذ استقرّ فيها الرجل لمدّة بعد خروجه من تونس في 11 أفريل 1989 أين تحصّل على جواز سفر سوداني دبلوماسي. واستمرّ التنسيق والتناصح والوصل دون أن ينفصل مع رؤوس الحركة الإسلامية في السودان بعد 14 جانفي، لمّا قام الغنوشي بزيارة الخرطوم في نوفمبر 2012 بدعوة من الحركة الإسلامية للمشاركة في مؤتمرها كضيف شرف، حيث التقى عمر البشير وحسن الترابي وقادة الحركات الإسلامية في العالم مثل محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين بمصر وخالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس والداعية محمد الحسن ولد الددو وغيرهم…
اليوم إذن تسقط هذه المظلّة الإخوانية السودانية “زمن المحنة”، وتتهاوى الخاصرة المتبقّية من الحركات الإسلامية الحاكمة بعد أفولها في مصر وخسارتها في المغرب وارتجاجها في تركيا. تطوى صفحة الدكتاتور عمر البشير، وتطوى معها صفحات من عذابات السودانيين ومن الفساد والاستبداد والتهميش والتفقير والعبث بالمقدّرات الطبيعية الهائلة للسودان. لقد جثم عمر البشير على صدور السودانيين 30 سنة شاركه فيها المؤتمر الشعبي الذي أسّسه حسن الترابي بعد جولات من المعارضة والاعتقال أكثر من مرّة انتهت بقبول الحركة الإسلامية السودانية ممثّلة في المؤتمر الشعبي دعوة عمر البشير وقاطعتها حينها غالبية فصائل المعارضة الرئيسية.
أشاد الغنوشي بقبول دعوة الانقلابي عمر البشير من طرف حسن الترابي، كما أثنى على هذا النظام العسكري المستبد خلال مؤتمر الرابع للحزب الحاكم في السودان ( المؤتمر الوطني السوداني) خلال مشاركته في أفريل 2017 على رأس وفد من حركة النهضة، عندما اعتبر التجربة السودانية هامّة في التوافق بين مختلف القوى السياسية (والمقصود هنا طبعا التوافق بين الدكتاتور العسكري والحركة الإسلامية).
الحادث في السودان محرج للشيخ إذن، بعد أن بدأ “الصفّ الإسلامي” يهتزّ ويتشتّت تحت إيقاع الحراك الشعبي السوداني وأهازيج “كنداكة” ( اسم الفتاة السودانية أيقونة الحراك) في ساحات الاعتصام المطالب برحيل النظام. تهاوت تقديرات الغنوشي واختلطت عنده الآمال بالأحلام لينتهي إلى استشراف رومانسي واستنتاجات خاطئة، عندما أجاب في حوار لموقع “النيلين” السوداني في 10 ماي 2017 عن سؤال دقيق : كيف تقرأ مستقبل الجماعات الإسلامية خاصّة بالسودان ؟، فكانت الإجابة الواثقة للشيخ: “وحدة الصف الإسلامي مطلوبة خاصّة في ظلّ المتغيّرات التي تحيط بالعالم الإسلامي والعربي. وأنا شهدت فهنالك تقارب بين المؤتمر الوطني الشعبي من خلال المشاركة الفعالة في الحوار الوطني ونعوّل كثيرا على الحركة الإسلامية السودانية التي تمثّل نقطة احتواء يجتمع حولها مكوّنات الجماعات الإسلامية وهي تعتبر نقطة هامة لمواجهة المهدّدات الخارجية التي تحيط بالعالم الإسلامي عامّة والسودان على وجه الخصوص”. لقد اختزل الغنوشي في إجابته هذه عن مستقبل الحركات الإسلامية تشوّش “الرؤية” وانحراف المنهج، فالتنظيم (الحركات الإسلامية) أهم من الدولة والجماعة قبل الأمّة، و”وحدة الصفّ الإسلامي” هي البديل عن الصفّ الوطني الجامع…المهم هو التمكين والبقاء في الحكم حتى ولو تمّ “التوافق” مع حاكم عسكري مستبد !
الصلّابي المحاصر والغنّوشي الحائر !
في تزامن عجيب مع عزل عمر البشير والبيانين العسكريين لبن عوف ثم عبد الفتاح برهان وبدايات رحلة التيه للحركة الإسلامية السودانية، يتّجه الجيش اللّيبي إلى العاصمة طرابلس ل”اقتلاع” المجاميع الإخوانية والقبض على أهم قياداتها ورموزها كعلي الصلّابي وعبد الحكيم بلحاج رئيس حزب الوطن وأمير الجماعة الإسلامية المقاتلة المنحلّة وغيرهم من أمراء الحرب وقادة الميليشيات المتناثرة في طرابلس والمتحكّمة والمتنفّذة في حكومة السرّاج. أمام هذا التمدّد لقوات خليفة حفتر تقف حركة النهضة مساندة لحكومة السرّاج “رافضة الحلول العسكرية” حسب ما جاء في بيانها الذي تضمّن دعوة إلى “رفض الحلول العسكرية وتغليب لغة الحوار والتوافق في إطار حكومة التوافق…والسعي إلى بناء الدولة المدنية والقطع مع أشكال التسلّط على إرادات الشعب اللّيبي مهما كانت عناوينها”.
في قراءة أولى يبدو “البيان” النهضوي حول المستجدّات اللّيبية الأخيرة ديمقراطيا مدنيا ناعما، ولكنّ مقارنة مضامينه مع تعاطي الحركة مع الشأن السوداني يكشف تناقضا وازدواجا في المعايير، كما يفضح الخلفية الإيديولوجية التي تحرّك مقاربة النهضة للمسائل والقضايا الجيوستراتيجية. في السودان أشادت الحركة بالنظام العسكري واعتبرت زعيم الحركة الإسلامية حسن الترابي ملهما وهو المدبّر والمهندس للانقلاب سنة 99، كما اعتبرت التجربة السودانية (حكم البشير) رائدة ونموذجية. في حين ترفض “الحلول العسكرية” في ليبيا وتعتبر أنّ المعركة قائمة اليوم في طرابلس بين ” مشروع العسكرة” الذي يمثّله حفتر ومشروع الدولة المدنية الذي يمثّله الصلاّبي وبلحاج وما دار في فلكهما.
هو تلبيس “إيديولوجي” إذن ليس إلّا، وهو اصطفاف وراء “الشقيق” الإيديولوجي ومن ورائه المحور القطري التركي الدّاعم، وما “العسكرة” أو “الدولة المدنية” إلّا يافطات تخفي إرادة فكّ الحصار عن الصلّابي رأس الإخوان في طرابلس ومساندة ودعم المجاميع الإسلامية في كلّ مكان سواء أسقطها الحراك الشعبي المدني السوداني أو دبّابات وأرتال خليفة حفتر.
إحراجات واستفهامات
تطرح إذن التطوّرات الأخيرة سواء في السودان أو في ليبيا جملة من الإحراجات على حركة النهضة وتجعلها في عين عاصفة إقليمية تلوح في الأفق. فالجيش اللّيبي الذي يتّجه نحو توحيد الدولة وتأكيد سيادتها على مجالها الوطني بدعم مصري واضح ومعلن، ومساندة من مجلس القبائل اللّيبية الذي سينعقد في نهاية أفريل بمدينة سرت سيزيد من انحسار الحركات الإخوانية وانكسارها. كما أنّ سقوط عمر البشير في السودان سيؤثر سلبا على شعبية الإسلاميين المتحالفين مع العسكر لسنوات طويلة، وهو ما يقلّص من نفوذ المحور القطري التركي في المنطقة ظهير حركة النهضة. كلّ هذه الأحداث تجعل الحركة في دوّامة الحراك الجيوسياسي الذي يمكن أن تنفذ منه لو خرجت بالفعل من عباءة “الجماعة” واعتبرت أنّ الدولة الوطنية هي البوصلة والملاذ والمظلّة الحقيقة، وأنّ سياسة المحاور هي ارتهان للقرار “الحزبي” والوطني…إنّ “تيمة” الإفلات من هذا الفخّ الجيوسياسي هي المراجعات الصادقة في العمق في اتجاه بناء حركة وطنية محافظة على قاعدة الانتماء والولاء للدولة قبل التنظيم والوطن التونسي قبل الجماعة…وإلّا فإنّ رحلة التيه ستستمر…
صدر بالعدد الأخير من أسبوعية “الشارع المغاربي”