الشارع المغاربي : لما شاهد إبن السبع سنوات على ركح قرطاج في صيف 1991 عرض النوبة الذي إفتتحه أبوه شاديا بأغنية “نمدح الأقطاب” التي تستعرض أقطاب الصوفيّة، سكنه العرض فأحياه بعد عقود في مسلسل درامي يستند إلى عالم الموسيقى الشعبية التي مثّلت الإطار العام لفكرة السيناريو ومنها تفرّعت أحداثة وتشعبت حكايات موازية وهي مسألة تفرضها تقنية كتابة السيناريو والإنتقال بالفكرة- المنطلق من الوثائقية إلى الدرامية ليصبح عرض النوبة مجرد محمل لخرافة أخرى.
“عشاق الدنيا” وهو العنوان الُمضاف يبدو شاعريا دالّا على أغلب شخوصه من الفنانين والفنان هو عاشق للحياة. يضعنا الجنيريك منذ البداية في عالم النوبة بطقوس الدخان الغامر للمكان والذي جسّده المخرج كخلفية لصور الممثلين المتتابعة ليشدو أول صوت بالغناء – لطفي بوشناق كما فعل عندما إفتتح عرض النوبة منذ ما يقارب الثلاثين سنة بأغنية شعبية أساسها آلة المزود والمزود يُصنع من جلد الماعز والماعز أصل المسرح والمسرح تطور عن أناشيد الديثرامب Le dithyrambe التي تعني الأغاني العنزية فليس غريبا أن جاء كل الممثلين المشاركين من المسرح .
وقد جاء الجزء الثاني من هذا العمل بعد نجاح مُجمَع عليه لجزئه الأول وهو أمر يجعل مستوى الإنتظارات أعلى ويضع السيناريو في صعوبة بناء الأحداث وتفريعها دون السقوط في التمطيط المجاني وهو ما حدث فعلا زاده تأكيدا ضعف الحوار في بعض المشاهد فأصبح قولا دون فعل وإستحال السيناريو لهيثا وراء إستكمال حلقاته الثلاثين فصعوبة الحوار تكمن خاصة في تمثّل الشخصيات على إختلافاتها والتعبير عنها بتناقضاتها رغم إضافة شخصيات جديدة أسست لمسارات جديدة.
ويبدو الإيقاع العام للمسلسل وكأنه كان وفيا للعناصر المُكوّنة للنوبة كنوع موسيقي بإرادته من المتنوّعة التي تنطلق بالاستفتاح هو الجزء الذي يؤدى بطريقة مرسلة لا يخضع لإيقاع ويبنى على المقام الأساسي لها ثم المصدّر المؤسَّس على ايقاع ثقيل فالأبيات بايقاعها البطيء المسبق بمقدمة موسيقية قصيرة ثم البطايحي ثم التوشية التي تتخللها ارتجالات على مختلف الآلات الموسيقية التي تليها غنائية تسمى البراول ثم الدرج بايقاع ثقيل فالخفيف لتنتهي النوبة بالختم المتسارع فالمخرج يبدو ماسكا بأدواته متقنا لتقنيات الإخراج عارفا بأسرار الصورة ومفرداتها من تحكم في الإضاءة ووعي بالمشاهد les plans وزاويا التصوير وحركة الكاميرا فجعلها ثابتة عند اللزوم، محمولة عند تصاعد الحدث، مضطربة مستعيرة لعين المشاهد عند توتره وكان ذكيا في وعيه بالقدرات الأدائية لممثليه التي تحدد زوايا تصويره لهم فكان يعتمد المشاهد المكبَّرة les Gros Plans بالنسبة للممثلين الذين يُجيدون التعبير بالوجه ويتحكمون في إيماءاتهم .
كما يعرف المشتغلون بالسنما أن الإيقاع يكمن أساسا في حركة الكاميرا وتتابع المشاهد ولعل عشاق السينما يتذكرون مقطعا يمكن إعتباره أفضل مثال على هذا وهو مشهد القتل في شريط Psychose للمخرج Alfred Hitchkock الذي إستخدم فيه 78 زاوية تصوير ليختار 52 مشهدا لمقطع لا يتجاوز بضع دقائق ، أما الجانب الذي نرى أن المخرج قد أهمل الإشتغال عليه فهو التقاطع l’intersection على مستوى تماهي الصورة بين النوبة كعرض حي والنوبة كنوع درامي حيث إكتفى بإستدعاء بعض المطربين الذين شاركوا في العرض وكان بالإمكان صناعة مشاهد يتماهى فيها العرض الأصلي بمشاهد حضور هؤلاء في المسلسل ونستحضر هنا المشهد الساحر الذي قدمه مخرج فيلم ” غاندي” Richard Attenborough عند تركيب مشهد حقيقي لغاندي وهو مستلقي على ظهر باخرة وبتماهي مبهر تتلون الصورة شيئا فشيئا لننتقل إلى نفس المشهد بتفاصيله لكن مع الممثل القائم بدور غاندي Ben Kingsley ، لكن بوشناق أبدع في إستعمال تقنية الومضات الورائية flash back بإعتماد الصور بجودة analogique تعميقا لزمن الأحداث الماضية وكانت كاميراه متحركة لا تستكين فلا نعثر بتاتا على مشهد متسلسل Plan-séquence إذ إستغل كل أنواع الحركة والكامرا المحمولة على الكتف وكذلك Le traavelling وحتى عندما تكون الكاميرا ثابته فلا يدع الزوم le zoom كذلك وهذا الإختيار يعمّق الإيقاع ويتناسب مع روح الحدث وطبيعة الإيقاع العام.
بالنسبة للموسيقى التصويرية التي ألّفها حمزة بوشناق ونسيم بن رحومة لم تكتفي بمرافقة الحدث بل كانت معاضدة له ، منبعثة منه لا مبتكََرة من خارجه فيتغيّر روحها حسب فضاء الأحداث ويتحوّل لحنها Sa mélodie تبعا للوضعية الدرامية ورغم الإستناد إلى الموسيقى الألكترونية في بعض الأحيان إلا أنها كانت وفية للمناخ العام كما نلاحظ حرفية عالية فيما يتعلق بمونتاج وميكساج الصوت الذي أمّنه كريم التوكابري في خلقه لعوالم صوتية مُعمِّقة وفي وعيه بنمذجة الصوت le modelage du son المتحوّل تبعا لتغيّر المكان.
أما الأداء كان من أنجح مفردات هذا العمل ساهم فيها وضوح بناء الشخصيات وإتضاح شبكة علاقاتها مما سهّل مهمة الممثلين وأغلبهم أثبت موهبة لافتة وكنا قد كتبنا عن بعضهم في مقال سابق وفي هذا الإطار قد يتساءل البعض عن سبب تشريك كافون وهو مطرب “راب” لم يعاصر زمن العرض-المنطلق كما لا يمتلك موهبة أدائية ولا نعتقد أن المخرج وقد برهن عن ذكاء واع قد شرّكه بشكل إنطباعي ونحن نعتقد أن هذا الإختيار هو إستشعار ماضوي لفن سيسود بعد عقود ليكتسح المشهد مكان الفن الشعبي وهو فن الراب بالإضافة إلى الجانب الدعائي وإستقطاب لجيل مغرم بهذا النوع الموسيقي. لقد أثبت مسلسل النوبة أن الفن موهبة وصنعة وثقافة مشهدية وهي مسائل غير متاحة للجميع أثبت فيه عبد الحميد بوشناق وفريقه الفني ولادة جيل جديد من صنّاع السينما والدراما التلفزية.