الشارع المغاربي: عادت ازمة الهجرة السرية وغير النظامية باتجاه أوروبا عبر البوابة الإيطالية لتتصدر واجهة الاحداث الوطنية المثقلة بسيل لا ينتهي من المآسي المتتالية لآلاف المهاجرين التونسيين والافارقة المتدفقين على السواحل الأوروبية، مفضلين المخاطرة بحياتهم على البقاء في اوطانهم. واللافت انهم يرفضون في الغالب العودة الطوعية الى بلدانهم مثلما هو الحال بالنسبة لمئات الشبان التونسيين المعتقلين في ظروف غير إنسانية بايطاليا واسبانيا حيث تتعرض حقوقهم لانتهاكات جسيمة في انتظار ترحيلهم القسري في خرق واضح لكافة المواثيق والأعراف الدولية المتعارف عليها.الموقف الإيطالي الأوروبي يتسم بالتشدد الواضح ويطالب بتغليب الحلول الأمنية معيبا على تونس عدم التقيد بالالتزامات التي أمضت عليها بموجب اتفاق ما يسمى بـ”شراكة التنقل” او الحركية الموقع سنة 2014 مع حكومة المهدي جمعة بالتوازي مع التوقيع على برنامج العمل الذي فتح المجال لمزيد توسيع التبادل التجاري والاستثماري والمالي بين تونس والاتحاد الأوروبي من خلال اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق.
*جذور ازمة الهجرة غير النظامية باتجاه أوروبا وعلاقتها بالمبادلات الاقتصادية المختلة مع اوروبا
شراكة التنقل هذه لم تحظ بما تستحق من اهتمام والحال أنها لا تقل خطورة عن آليكا من حيث انها تشكل الوجه الخفي للعلاقات غير المتكافئة بين تونس والاتحاد الأوروبي. وقد التزمت تونس بموجب هذا الاتفاق لا فقط باستعادة مواطنيها من المهاجرين غير النظاميين المرحلين من أوروبا، بل ايضا بتنظيم مراكز لإيواء الأجانب المبعدين العابرين من التراب التونسي خلسة الى الأراضي الأوروبية. كما تفتح المجال للهجرة الانتقائية للنخب التونسية من مهندسين وجامعيين واطارات طبية وطلبة وغيرهم علما ان نسق مغادرتهم تونس أساسا باتجاه أوروبا وأمريكا تسارع بعد 2011 ليتجاوز المائة ألف. والملاحظ انهم يجدون كافة التسهيلات من تأشيرات واقامات طويلة الأمد للاستقرار نهائيا بالخارج وخاصة في فرنسا والمانيا وكندا مع الإشارة الى ان هذا النزيف تحول الى نهب مقنن لثروات تونس البشرية الى جانب السطو على ثرواتها المادية والباطنية.
حقيقة الامر ان هذه الاتفاقيات ذات الصبغة الاستراتيجية بحكم اتصالها بالمصالح العليا للبلاد، وقعت من قبل حكومات مؤقتة وذات صلاحيات محدودة فضلا عن كونها لم تكن أصلا محل مفاوضات، كما انها لا تأخذ بعين الاعتبار التداعيات الكارثية لاتفاق التبادل الحر للسلع الصناعية الموقع بين الجانبين سنة 1995 على النسيج الصناعي الوطني في مجال الصناعات المعملية الذي فقد حوالي 400 ألف موطن شغل.
وهكذا فقدت تونس نسيجها الإنتاجي الوطني وتحولت الى سوق استهلاكية للبضائع الأوروبية والآسيوية من ضرورات وكماليات اغرقت البلاد سواء في إطار التبادل الحر غير المتكافئ او عبر بوابة التهريب والسوق الموازية. وبذلك حصل تحول كبير في سوق الشغل التونسية المتسمة أصلا بالهشاشة بحكم انغلاق فرص التشغيل في القطاعات الإنتاجية المنظمة وكذلك في القطاعات العمومية بفعل تقلص دور الدولة الاقتصادي التعديلي وقدراتها على توفير الشغل.
كل هذه العوامل المتضافرة زادت في تعميق معضلة البطالة ومن شعور اليأس والإحباط في صفوف الشباب مما فاقم من ظاهرة الهجرة السرية الى أوروبا التي كانت من افرازات التوقيع على اتفاق 1995 للتبادل الصناعي وكذلك إقرار قانون جديد للاستثمار يفتح المجال لحرية الاستثمار لفائدة المستثمرين الأجانب وخاصة الأوروبيين الذين أضحوا يتحكمون أكثر فأكثر في سوق الشغل الداخلية التونسية.
وبعد الثورة والتدخل الأطلسي في ليبيا ازدادت ظاهرة الهجرة السرية نحو أوروبا تعقيدا واستفحالا بسبب غلق سوق الشغل الليبية التي كانت تشكل متنفسا نسبيا بالنسبة لتونس. وتزامن ذلك مع التضخم المطرد لتدفق اليد العاملة الافريقية التي كانت في البداية تتخذ من الأراضي التونسية معبرا باتجاه أوروبا ولكنها بدأت أيضا تنشد الاستقرار والعمل واللجوء الى تونس وهو ما تؤكده الاحصائيات الرسمية.
والملاحظ ان الجانب الأوروبي، بإصراره على التعاطي الأمني مع قضية الهجرة السرية يتجاهل ان هذه المعضلة هي حصيلة الخلل الجوهري الذي يميز العلاقات شمال جنوب منذ الاستقلال حيث أرغمت البلدان الافريقية على التخلي عن التخطيط الاستراتيجي الموجه نحو بناء اقتصادات إنتاجية قادرة على توفير الشغل القار واستيعاب الثروات المادية والبشرية بكافة اصنافها في الدورات الاقتصادية الوطنية.
وتونس التي نسجت على نفس هذا المنوال الخاطئ مدعوة اليوم الى مراجعة مقاربتها للتنمية وللشراكة مع أوروبا مراجعة جذرية وهو ما يقتضي إعادة النظر في كافة جوانب التعاون التجاري والاستثماري المتداخلة في ما بينها علما انه لا يمكن فصلها عن الخلل الجوهري القائم في مجال التبادل البشري بين الضفتين وما يتصل به من انعدام حرية الحركة والتنقل والعمل مع أوروبا وكذلك استمرار النهب المنظم للكفاءات والنخب التونسية من قبل أوروبا.
*ازمة الهجرة السرية وعلاقاتها بسياسة التهميش والاقصاء التي تبنتها تونس منتصف التسعينات
في انتظار الإعلان عن برنامج الحكومة الجديدة، نشير الى أهمية اجراء حصيلة لأداء الحكومات السابقة للوقوف على أسباب تفاقم مشاكل البلاد الاقتصادية والمالية والاجتماعية ومنها معضلة الهجرة السرية التي تكاد تخرج عن دائرة السيطرة. ولعل من اهم هذه الأسباب الخضوع لضغوط مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي الهادفة للحفاظ على نفس السياسات الاقتصادية والدبلوماسية للنظام السابق القائمة على الانخراط في العولمة الاقتصادية غير المتكافئة من خلال الاندماج في الفضاء الاقتصادي الأوروبي.
وفي هذا الصدد ارتأيت العودة الى المخططات التنموية التي تبنتها تونس منتصف التسعينات تزامنا مع التوقيع على اتفاق التبادل الحر للسلع الصناعية مع الاتحاد الأوروبي حيث تبين ان النظام السابق اختار رسميا تهميش المناطق الداخلية وإعطاء الأولوية لتنمية المدن والمناطق الساحلية بهدف تعزيز قدراتها التنافسية في إطار الاندماج في العولمة. ومن نتائج هذا الإهمال الرسمي والممنهج للمناطق الداخلية، بروز ظاهره النزوح نحو تونس العاصمة والمدن الساحلية التي يفترض انها تحولت الى وجهة جاذبة للاستثمارات الأجنبية المشغلة للعمالة الرخيصة. وهذا ما يفسر تضخم الاحياء الشعبية المشكلة لأحزمة البؤس المحيطة بالعاصمة وهي تشكل احدى المنابع التي لا تنضب للهجرة السرية.
ونشير في ذات السياق الى الكتاب الصادر سنة 2017 بإمضاء الكاتب الصغير الصالحي وهو بعنوان ” الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة، منظومة التهميش في تونس نموذجا”. فاستنادا الى دراسة المخططات التنموية التونسية منذ الاستقلال، يبين الكاتب ان التقارير الرسمية رصدت منذ مطلع الثمانينات “ثنائية التنمية” والتفاوت التنموي الشاسع بين المناطق الساحلية والجهات الغربية والجنوبية مما أدى الى تقسيم البلاد وجعل المناطق المهمشة في تبعية للعاصمة وللمدن الشاطئية الكبرى.
وتزامنا مع انخراط تونس في العولمة بانضمامها الى منظمة التجارة العالمية ودخولها في علاقات شراكة مع الاتحاد الأوروبي منتصف التسعينات، تحولت سياسة التهميش الى خيار رسمي و “أولوية وطنية” املتها مقتضيات “المصلحة الوطنية” التي تقتضي “ضرورة التركيز على المناطق الأفضل موقعا لمواجهة المنافسة العالمية” وفقا لما جاء في المثال التوجيهي للتهيئة الترابية الصادر سنة 1997. وقد تبنى المخطط العاشر 2002-2006 الصادر سنة 2001 هذا الخيار موصيا “بمزيد تأهيل الولايات الساحلية لدعم مكانتها في الأسواق العالمية”. ويخلص الكاتب الى ان تغييب التنمية في المناطق المهمشة وتبعيتها إزاء المدن الساحلية اضحى من “المسلمات والثوابت الاقتصادية والاجتماعية للتوجهات الوطنية”.
اما المخطط الحادي عشر الصادر في جويلية 2007، فانه يركز على معالجة التبعات الاجتماعية لهذه السياسات من خلال ما سمي بتكريس “التكامل والتضامن بين الجهات”. والملاحظ ان الدولة، بدلا من تصويب سياسة التهميش المتعمد للجهات المحرومة أضحت تراهن على المجتمع المدني في تنفيذ السياسات الرامية للنهوض بالمناطق الداخلية والحدودية وذلك من خلال إعطاء الأولوية لآلية “التشغيل الظرفي” بعيدا عن أية رؤية تنموية حقيقية لهذه المناطق المنكوبة. ولا شك ان هذه السياسة هي التي هيأت الظروف لاندلاع الانتفاضة العارمة ضد النظام السابق.
وبعد الثورة اقرت الدولة في “كتاب ابيض” صادر عن وزارة التنمية الجهوية بحالة التفاوت الجهوي الشاسع وربطت هذا الواقع بسياسة التهميش والإهمال المتعمد لمناطق بعينها بإخضاعها الى “الهيمنة الاقتصادية” لفائدة المناطق الساحلية مما وضعها على هامش أي “حركية تعصيرية بفعل تحويلها الى خزان لليد العاملة الرخيصة الموضوعة على ذمة المهن الوضيعة”. وخلص التقرير الى ان هذه الاستراتيجية القائمة على “الانفتاح التجاري وتطوير الاستثمار والمنافسة العالمية وضعت جانبا مناطق كاملة لا يمكنها الالتحاق بقاطرة التنمية الاقتصادية”.
هذه الحقائق الموثقة تبين حجم المسؤولية التي تتحملها الحكومات والرئاسات التي تولت إدارة شؤون البلاد في ظل النظام السابق وبعد الثورة بتعمدها تقسيم تونس تنمويا وجهويا وطبقيا والتفريط في سيادتها والاضرار بمصالحها العليا لفائدة الأطراف والاقليات الأجنبية، وذلك من خلال مأسسة سياسة التهميش والاقصاء التي تمارس بشكل قصدي وممنهج منذ أكثر من ثلاثة عقود ضد مناطق بأكملها تغطي مساحات شاسعة من ارض الوطن وغالبية سكان البلاد.
والجدير بالذكر ان كل هذا التمييز والاقصاء لم يحقق أهدافه المعلنة حيث خسرت تونس رهان الانصهار الناجح في العولمة، كما لم يستفد من هذا الانخراط سكان المناطق الساحلية “المحظوظة”، باستثناء الأقلية المتنفذة المرتبطة بالمصالح الأجنبية. اما الغالبية الساحقة للتونسيين، فإنها لم تجن سوى المزيد من الفقر والتهميش والبطالة فضلا عن التدهور الكبير لظروفها المعيشية، خاصة في الاحياء الشعبية مما ساهم في تفاقم ظاهرة الهجرة السرية فضلا عن تنامي حالة الاحتقان وعدم الاستقرار التي عمت كافة ارجاء البلاد.
*ملاحظات واستخلاصات
-الهجرة السرية والانهيار غبر المسبوق لكافة المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية هما نتيجة حتمية لسياسة التهميش والاقصاء التي تبنتها الدولة التونسية رسميا منتصف التسعينات، وقد مورست بدرجات متفاوتة على الشعب التونسي برمته وبصفة خاصة على المناطق الداخلية والجنوبية. هذا الاقصاء لم يقتصر على استقالة الدولة من واجباتها التنموية والاجتماعية إزاء التونسيين من متساكني المناطق الاكثر حرمانا، بل تجسد في سياسة الامتيازات والإعفاءات المفرطة وحرية الحركة الأحادية الممنوحة حصريا للأجانب مستثمرين او مقيمين، وكل ذلك بحجة جلب الاستثمارات الخارجية. وهكذا أضحت الدولة التونسية تمارس التمييز المقنن ضد الشعب التونسي فوق أراضيه متخلية عن ابسط واجباتها الدستورية المتمثلة في إعطاء الأولوية للنهوض بالمواطن التونسي وتحقيق المساواة بين الافراد والجهات والفئات الاجتماعية فضلا عن تحقيق التمييز الإيجابي لفائدة الشباب والمناطق المحرومة.
– هذا التمييز السلبي جاء بعد تخلي الدولة منتصف الثمانينات عن دورها المركزي في التخطيط الاستراتيجي في المجال التنموي، وكذلك تخليها عن مسؤولياتها في تمويل وتنفيذ المخططات التنموية التي كانت تراعي متطلبات التنمية المتوازنة وضرورة الحد من التفاوت الطبقي والتنموي بين المناطق الساحلية والجهات الداخلية المحرومة والمهمشة. هذا التخلي تزامن مع ابرام اول برنامج لما يسمى بالإصلاح الهيكلي مع صندوق النقد الدولي سنة 1986 الذي كان منطلقا لإدخال تغييرات جوهرية باتجاه إعطاء الأولوية لانخراط تونس في منظومة التبادل الحر واقتصاد السوق وإعادة النظر في دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي. كما كانت منطلقا للتفريط لفائدة الخواص ورؤوس الاموال الأجنبية في عدد هام من المؤسسات العمومية في مجالات حيوية.
– تقر الدولة وفقا لما ورد في الكتاب الأبيض المشار اليه بأن سياسة الاقصاء والتهميش افرزت علاقة “هيمنة” مسلطة من المناطق الساحلية على الجهات الداخلية المحرومة. والمستفيد الأول من هذه العلاقة المختلة، التي أدت عمليا الى تقسيم الشعب التونسي وتفكيك البلاد اقتصاديا واجتماعيا، هو الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع التي نجحت في توظيف الدولة التونسية واقلية من المتنفذين التونسيين لبسط سيطرتها على مفاصل الاقتصاد التونسي وقطاعاته الأكثر ربحية ومردودية. كما نجحت في حصر الدورة الاقتصادية والمالية في المناطق الساحلية على نحو يذكر بالأوضاع التي كانت سائدة بتونس قبل الاستقلال.
– تم تكريس هذه السياسة ومزيد التعمق فيها بعد الثورة والحال انها تتعارض نصا وروحا مع المحاور والبنود السيادية والاقتصادية والاجتماعية للدستور وكذلك بنوده المتعلقة بالدور الموكول للدولة التونسية في هذه القطاعات وفي مجال تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات إضافة لتحقيق التمييز الإيجابي لفائدة المناطق المحرومة. وهذا ما يستدعي ان تبادر الحكومة الجديدة بفتح حوار وطني حول آليكا واتفاق «شراكة التنقل” وسلسلة القوانين الجديدة المعتمدة في مجال تحفيز الاستثمارات الخارجية وتبني المواصفات والقوانين الأوروبية في المجال الصناعي والفلاحي فضلا عن القانون الجديد المنظم للبنك المركزي. وتطالب عدة أطراف تونسية بمراجعة هذه النصوص والاتفاقيات لعدم دستوريتها ولخطورتها من حيث انها تؤدي الى المساس ببغض المكاسب الأساسية للاستقلال ومنها سيادة تونس المالية والنقدية والتشريعية. وفي ذات السياق يفترض ان تشمل هذه المراجعة العلاقات مع صندوق النقد الدولي في جوانبها المتعلقة بالبرنامج الموقع سنة 2016 الذي ينص على خوصصة المؤسسات العمومية العاملة في القطاعات الاستراتيجية كالطاقة الكهربائية والمياه والنقل الجوي وذلك في إطار المحور المتعلق «بإصلاح الدولة واعادة النظر في وظائفها”.