الشارع المغاربي -فالنتين فور (Le Monde, 12 décembre 2020) – ترجمة: محمد عادل مطيمط: تركّز الكاتبة والصحفية بجريدة لوموند الفرنسية “فالنتين فور” في هذا المقال الذي نشر بتاريخ 12 ديسمبر الجاري، على ما تعتبره مسارا ملتويا أدى في النهاية إلى بروز مصطلح نقدي سياسي جديد في الأدبيات السياسية والدراسات السوسيولوجية الفرنسية المعاصرة، هو مصطلح النزعة الإسلامو-يسارية. العبارة في حد ذاتها تدلّ على تشوّه مُخجل بالنسبة إلى التيّارين المعنيّين (اليساري والإسلامي)، فهي تفضح حالة “انحراف” أو “شذوذ”anomalie تتضارب بشكل صارخ مع طبيعة المبادئ التي يرتكز عليها كلّ منهما. ويبدو أن الفضيحة التي تنبري من خلال الواقع الذي تصدق عليه هذه العبارة هي التي جعلت تصريح وزير التربية الفرنسي “جون-ميشال بلانكار” Jean-Michel Blanquer مؤخرا حول تغلغل النزعة الاسلامو-يسارية في الجامعة الفرنسية، مُثيرا لجدل صاخب ولردود فعل متضاربة كانت في قسم منها غاضبة ومُنددة بشدة بهذا التوصيف. وفي الحقيقة، ورغم أن الكاتبة تحاول بيان محدودية مشروعية التسمية ومحدودية موقف من يستخدمها اليوم ضد اليسار ومن يتحالف معهم من الإسلاميين، فإن في الأمر ما يرقى فعلا إلى مستوى الفضيحة للتيّارين على حد السواء، خاصة لليسار -بعض فصائله على الأقل -الذي يبدو أن هاجس الثوريّة والبراغماتية السياسوية قد مَحَوَا لديه ارتباطه الفلسفي والتاريخي بالإرث العقلاني والتنويري وجعلاه يجنح إلى التعاون سياسيا مع أكثر التيارات ظلامية في التاريخ المعاصر. بل أن الأمر يتجذّر في توجهات فكرية “فلسفية” معادية للفلسفة (“دولوز”، “غتاري”، “فوكو”..) أصبحت في مراحل متأخرة إرثا نظريّا يستلهم منه هذا اليسار المنبتّ عن ينابيعه التنويرية والكونية، توجهاته اللاعقلانية الجديدة التي من بينها الانفتاح على التيّار الديني الإسلامي المعادي للأنوار واللائكية. ولا يعني ذلك اتهام اليسار كلّه أو دائما، فالمسار أعقد من أن يختزل في استقطاب واضح كما تبيّن الكاتبة. ولكن ما تسمّيه “فالنتين فور” بالمسار الملتوي لتطور هذه التسمية يمثل دليلا كافيا على شبهة العلاقة بين أطراف يسارية مختلفة وفي مراحل مختلفة مع التيار الظلامي الذي يمثله الإسلاميون. وبعبارة أخرى، فإنه رغم سعي الكاتبة إلى نزع جانب كبير من المشروعية عن التسمية، ورغم محاولتها شق طريق وسط في خضم الاستقطاب القائم، فإن الحقائق التي تحيل إليها بحكم ضرورة البحث تثبت تورّط جزء من اليسار الفرنسي فعلا في هذا الموقف المخجل، تورّط يمكننا تحسّسه أيضا من خلال معطيات ما سمّي بالربيع العربي (الذي غلب عليه صعود التيار الإسلاموي) ومواقف اليسار الأوروبي منه.
فماهي إذن هذه الظروف الجزئية والمعقدة التي تولّد عنها هذا الاصطلاح الذي أضحى اليوم جزءً من ترسانة المفاهيم التي يستخدمها التحليل السوسيولوجي والصحفي للمشهد الاجتماعي والسياسي الفرنسي؟ وما نصيب هذا الاصطلاح من الحقيقة أو من الوهم؟ (يؤسفنا هنا الاقتصار على مقتطفات من نص هذا المقال نظرا لمحودية المساحة)
” كيف يتسنّى أن نضبط معنى هذه العبارة (“النزعة الإسلامو-يسارية”) والحال أنه لا وجود لاتّفاقٍ حولها ولا يتبناها أيّ طرف، رغم تمكنها من افتكاك موقع بارز في النقاش العمومي؟ إنها عبارة غامضة. فنحن لا نعرف ما إذا كان قِسْمُها الأول يشير إلى الإسلامIslam أم إلى التيّار الإسلاميIslamisme (حتى أن الفيلسوف “رفائيل إنتهوفن” يفضّل الحديث عن النزعة “الإسلامويّة-اليساريةIslamismo-gauchismeوليس الإسلامو-يساريةIslamo-gauchisme ). أما القسم الثاني فهو يستوفي دلالتها الازدرائية. (…) بالنسبة إلى “جيل كبل” Gilles Kepel المختصّ في دراسة العالم العربي والإسلامي: يمثل الإسلامو-يساريّون فئةً من “المثقّفين المُكبّلين بعقدة الذنب مابعد الاستعمارية”. أما بالنسبة إلى المؤرخ “جاك جويار” Jacques Julliard فإنّ ” النزعة الإسلامو-يساريّة ترتكز على ضرب من الكراهيّة ضدّ المسيحيّة والكاثوليكيّة خاصّة، وذلك عبر مُمَاهَاتِهِمَا مع الاستعمار ومع الغرب والنزعة الهوويّة Identitarisme، إلخ”. ويرى “مارسيل غوشيه” أن ” يسارا متطرّفا مؤمنا بقضيّة، ولم يفهم أبدا ما كان يمثله الدين في الماضي، بل ولا يعرف شيئا يذكر عن ماضيه المادّي، وجد في نعمة المسلمين عوضا عن البروليتاريا التي يبحث عنها”. ولاحظ “باسكال بروكنر” Pascal Bruckner أن “كل اليسار المتطرف مفتون بالطاقة المتفجرة للتيار الجهاديّ”.
كيف إذن تمكنت هذه العبارة من احتلال هذه المكانة في النقاش العمومي إلى درجة كونها أصبحت اليوم تمثّل خط القطيعة السياسية بين التكتّلات الحزبية؟ ما هي الحقيقة التي يرتكز عليها أولئك الذين يستخدمون هذه العبارة التي يعتبرها آخرون مُشوِّهة وتآمريّة؟ يصرّح “رفائيل ليوجييه”، عالم الاجتماع والمدير السابق لمرصد الأديان، والذي كثيرا ما يُنعت هو الآخر بالإسلامو-يساري، قائلا: “إذا كانت عبارة إسلامو-يسارية تحيل إلى السنوات 1970 – 2001، فأنا أجزم بصحتها. فالصّلة التاريخية بين بعض إيديولوجيات اليسار (العالم-ثالثية Tiersmondistes، الماركسية وتلك المناهضة لمجتمع الاستهلاك) والتيّار الإسلامي لا غبار عليها. لقد تشكّلت الايديولوجية الإسلامية منذ نهاية القرن 19 في جانب منها في صورة نقد للغرب الحديث، ثم في صورة نقد للنزعة الاستهلاكية والاستعمار، وبشكل أوسع في صورة نقد للّامساواة العرقية والاجتماعية.
محرّكات ثورية جديدة
قام المؤرخ “اسماعيل فرحات” بدراسة الصّلات بين اليسار والإسلام منذ الستّينات، انطلاقا من اللحظة التي “سيطرح فيها قسم من اليسار السؤال حول ماهية العامل المحرك للثورة”. فهو يرى أنه خلال “الثلاثون المجيدة” Les Trente Glorieuses، توقّفت الطبقة العاملة التي تمّ استيعابها داخل اقتصاد السوق عن أن تشكّل طبقة ثورية”. لذلك برزت نصوص نقدية شديدة حول هذه المسألة بعد 1968: فالجمهور الذي تحرّك هو جمهور الطلبة وليس جمهور البروليتاريا الذي لم يعد يتظاهر إلا للمطالبة بالزيادة في الأجور وتحسين ظروف العمل وليس من أجل قلب النظام الرّأسمالي.” في هذه الظروف أصبح العمّال المهاجرون الذين يشكّلون قطاعا عريضا من اليد العاملة المختصة التي تشغل الأعمال الأكثر صعوبة، والذين يتضاعف استغلالهم بحالة من الاغتراب الثقافي، هم المحرك الجديد للثورة. الإحالة هنا إلى الإسلام موجودة بصورة ضمنية: فالأمر يتعلّق بصورة العامل التي تسمح بربط هذه الأقلية بالنظرية الماركسية التي يتم تعليقها هنا في الواجهة.
غير أنّ قسما آخر من اليسار يدافع عن الأقلية المسلمة بالارتكاز على خلفية ثقافيّة وليس ثوريّة. و”تتمثل الفكرة، حسب المختص في علم اجتماع النُّظم اللائكية “فيليب بورتييه”Philippe Portier، في أن الفرد، في ما وراء الحقوق المدنية والسياسية، يكون حاملا لثقافةٍ مّا، وأنّه من مهامّ الديمقراطية أن تشرعن المطالبة باحترام تلك الخصوصيّة”. وبهذا الوجه فإن اليسار، خلافا لليسار المتطرّف، يبسط موقفه من خلال التموقع في إطار مطلبيّةٍ كلاسيكية تمثل امتدادا لخطاب حقوق الإنسان والمساواة”. وفي الثمانينات كان الحزب الاشتراكي الموحّد (PSU) أكثر قوى اليسار البديل التي ذهبت إلى الحدّ الأقصى في الاهتمام بالمطالب الثقافيّة والدينيّة في برنامجه. “ليس ذلك من قبيل الصّدفة حسب “اسماعيل فرحات”، إذ يوجد الكثير من المسيحيين اليساريين ممّن يناهضون هم أنفسهم النّزعة المعادية للإكليروس لدى باقي مكوّنات الحركة النقابية والسياسية في فرنسا”. وفي هذا الاتجاه أقرت إدارة حركة الـ ح. إ. م. PSU سنة 1983 ضرورة الدفاع عن فكرة “مجتمع متعدّد الثقافات” يحترم الحقوق الخاصّة للأقليات المتولّدة من الهجرة: حقّها في تعليم لغاتها الأصلية وفي الحصول على التمويلات الخاصة بالمبادرات الثقافيّة والدينيّة.
ويذكّر “فيليب بورتييه” أن ” “جيل دولوز” و”فليكس غتّاري.” و”ميشال فوكو” قد أثاروا خلال الستّينات خطابًا حول تقويض عقلانية الأنوار مقدمين النّزعة الكونية على أنها فعلُ تشويهٍ. وقد دعوا إلى العودة إلى الخصوصيات والهويّات التي يحملها الأفراد”. اليسار من جهته سيستعيد هذه الأفكار خلال السبعينات من خلال دفاعه عن حقوق الأقليات الجنسية المضطهدة وعن حقوق المرأة . صحيح أننا “لم نصل بعد، عند هذا المستوى، إلى الدفاع عن الأديان لأن الرّهان لا يتعلق بذلك. ولكنّنا نلاحظ هنا استخدام مفهوم الهويّة للدفاع عن أقليّات مهمّشة وعرضة للتمييز. أي أنّ البذرة قد زرعت منذ تلك الفترة كي نشهد بروز الرّهان الديني بعد خمسة عشرة سنة. (…)
في يوم 13 أكتوبر من سنة 1994 كتبت جريدة لوموند، بمناسبة قضية أخرى متعلقة بالحجاب، ما يلي: “لقد تمّ استخدام الحق في الاختلاف الذي دافعت عنه غالبية اليسار خلال الثمانينات باسم المساواة، كحجّة فعّالة لصالح أنصار الحجاب، غير أنه اُستخدم أيضا من قبل اليمين المتطرّف الذي اتّخذ من مبدأ استحالة اختزال الاختلافات حجّةً لتبرير الإقصاء[إقصاء المحجّبات من المدرسة العموميّة]. (…)
لكنّ قسما من اليسار الرّاديكالي سيسلك طريقا آخر. ففي سنة 1994 قام الصّحفي البريطاني “كريس هارمان”Chris Harman، العضو في اللجنة المركزية لحزب العمال الاشتراكي S.W.P في مقال بعنوان “الرّسول والبروليتاريا” بالتنظير لـ “ضرورة إقامة تحالف استراتيجي مع الإسلاميين”، حيث يقول إنّ “اليسار قد أخطأ في الماضي عندما اعتبر الإسلاميين فاشيّين ليس بيننا وبينهم أيّ تقاطع”. و يلاحظ أنّ “التيار الإسلامي قد ظهر في المجتمعات التي كانت عرضة للصدمة الرأسمالية”. لذلك سيكون من المفيد تغيير وعي هؤلاء الشباب بفضل مقاربة أخرى تكون “مقاربة “اشتراكية ومستقلة وثوريّة”. وإذا كان “هارمان” لا يستخدم عبارة النزعة الإسلامو-يسارية فإن فكرة تحالفٍ مشروعٍ لمواجهة عدوٍّ مشتركٍ -رأسمالي، صهيوني وأمريكي – هي هنا واضحة وصريحة. في فرنسا،ستتمّ استعادة هذا النص من خلال كتاب بعنوان: التيار الإسلامي والثورةIslamisme et Révolutionنشره فريق صغير يسمى “الاشتراكية من الأسفل” Socialisme par en bas (SPEB)، والذي لن يلبث أن يلتحق بالرابطة الشيوعية الثورية. (…)
وفي مرحلة لاحقة ستتطور فكرة التعاون بين الحركات الاجتماعية والحركات الدينية مع قيام الانتفاضة الفلسطينية الثانية سنة 2000. وحول ذلك يلاحظ “رفائيل ليوجييه” أن “القضية الفلسطينية كانت عاملا حاسما لتقوية الصّلة بين الايديولوجيا اليساريّة والتيّار الإسلامي”. في سنة 2001 قام “جوزي بوفيه” بزيارة الضفّة الغربية حيث تمّت بلورة فكرة ربط المقاومة الفلسطينية بالمعركة ضد “العولمة النيوليبرالية”. وحسب ملاحظة لأستاذ العلوم السياسيّة “تيموثي بيس” Timothy Peace وردت في مجلة ثقافات وصراعات (2008)Cultures & Conflits، فإن “هذه المجموعات قد سجلت انخراطها في فضاء “العولمة المغايرة” L’Alter-mondialisme خلال المنتدى الاجتماعي الأوروبي الأوّل (FSE) المنعقد في فلورانسا سنة 2002 (…). وعند هذا الحد فرض محور الإسلاموفوبيا نفسه. ففي المنتدى الاجتماعي المنعقد سنة 2003 بضاحية “سان دوني” بباريس، وقعت استضافة رجل اللّاهوت المسلم “طارق رمضان” في ما يشكّل أحد العناصر-المفاتيح لفهم ملف النزعة الإسلامو-يسارية. ثم وقعت استضافته مرة أخرى في الدورة اللاحقة بلندن. وقامت الجريدة الساخرة “شارلي إبدو” بوضع عنوان لافت [لإبراز دلالة هذه الحركة]: “م. إ. أ: هناك جهاد آخر ممكن” « F.S.E. : Un autre Jihad est possible » .
نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 29 ديسمبر 2020