الشارع المغاربي- بقلم: د. عبد الحي زلوم (مستشار فلسطيني ومؤلف وباحث):
المال من حقيقة إلى خيال
جاء في الصفحة 239 من كتاب “أسرار المعبد” للكاتب الأمريكي المعروف William Greider : “كان الشيطان حاضراً عندما أُعطيت الحياة لمادة ميتة وتمكنت هذه المادة القذرة من ابعاد الجنس البشري عن آدميته وانسانيته”. لم يقتصر الأمر على الشياطين بل نصب اصحاب المال العالمي أنفسهم آلهة من دون الله، فقال John Buting رئيس المدراء لاحد البنوك الامريكية :”نحن نقرر من الذي سيعيش، ونحن نقرر من سيموت”.
رويداً رويداً طوّرت المجتمعات الانسانية مفهومها للنقود من مادة ملموسة وحقيقية الى مادة من صنع الخيال. وكان مثل هذا التطور والتغيير عبر العصور يبعدها شيئاً فشيئاً من مادة ملموسة كالمعادن من ذهب أو فضة الى اوراق ثم الى مادة من صنع الخيال كنبضات كمبيوتر هذه الايام. ويدير أصحاب الرأسمال العالمي امبراطوريات العصور مثل أدواتهم لتحويل أوهامهم الى أمر واقع.
وتعززت أهمية النقود بتطورها بينما كانت آفاق استعمال المال تتوسع من وسيلة للتبادل الى مخزن للقيمة فأصبحت أكثر أهمية عندما أصبحت وحدة للحساب.
من أين تأتي قوة الرأسمالية الصهيونية
منذ صغري وأنا أريد أن أعرف مصدر قوة المال وأصحابه فتوصلت الى ان المال هو نتاج الطاقة التي كان يبذلها الإنسان والحيوان قبل الثورة الصناعية بالإضافة إلى الآلة والذكاء الاصطناعي في ما بعدها.
فاذا كانت النقود هي التعبير النهائي عما يتقاضى الناس لقاء عملهم الذي يعني الطاقة التي يبذلونها في اعمالهم، فإن الأموال والحالة هذه تكون شكلاً من أشكال الطاقة خلال وسيط يمكن استبداله بأشياء أخرى مثل الطعام الذي يحوله الجسم الى طاقة. ويمكن اساءة استعمال قوة الأموال وطاقتها لتصبح وسيلة للتدمير والتخريب مثلما فعلت قلة من المضاربين لتدمير اقتصادات دول جنوب شرق آسيا ومثلما فعلوا في المكسيك وكما يفعلون اليوم في تركيا وكما فعلوا من قبل بإشعال نيران الحروب. كما يمكن أن تكون الأموال وسيلة للبناء والتعمير اذا احسن استعمالها.
لا قيمة للأموال في غياب الثقة
بعد طريقة المقايضة Barter) ) تقرر جعل الذهب وحدة القياس . ولكن تحديد كمية الذهب التي تدفع لسلعة ما ترك مجالاً واسعاً للتقديرات البشرية. كما اقتضى نوعا من الأمانة والصدق في التعامل. ولإعطاء أصحاب المال المرابين هالة الصدق والامانة اتخذوا المعابد كأماكن لعملياتهم وتدليسهم. وحسب ما جاء في الانجيل (مت 21: 12-19)” وَدَخَلَ يَسُوعُ إِلَى هَيْكَلِ اللهِ وَأَخْرَجَ جَمِيعَ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ، وَقَلَبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الْحَمَامِ، وَقَالَ لَهُمْ: “مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ!”
ويلاحظ أن الكثير من البنوك المركزية يتمّ بناؤها على شكل معابد! وحرص المرابون الصيارفة وبيوت المال على امتلاك الاعلام ليكذبوا ويكذبوا ليصدّقهم الناس. بقي الناس يستعملون الذهب قروناً كمقياس الى أن تم الغاء غطاء الدولار بالذهب سنة 1971 فأصبحت العملات (الدولار) أوراقا تحميها الاساطيل والجيوش وأصبحت وهماً بلا غطاء وتحولت الى خيال يتمثل في نبضات الكترونية يتلاشى حين تصبح الكذبة الكبرى فقاعة تنفجر او عند غياب قوة الامبراطورية الغاشمة.
التأمر على البنوك العربية العالمية
يعيش أصحاب الرأسمالية العالمية الصهيونية في جو من المؤامرات السرية الفائقة في خداع الشعوب لنهب ثرواتها ويقولون أثبتوا ذلك، وإلا فإنها نظرية مؤامرة. ونظرية المؤامرة هي مؤامرة في حد ذاتها من صنعهم لمنع أي بحث جدي لكشف مؤامراتهم.
في 17 ماي 1792 اجتمع 24 من أصحاب مكاتب الصرافة وتجارة الأسهم بعيداً عن العيون تحت شجرة في نيويورك ونتج عن الاجتماع توقيع اتفاقية في ما بينهم تنص على حصر التداول في ما بينهم فقط واتفقوا على نسب العمولات وتم تسمية الاتفاقية (Buttonwood agreement.).
وهذه أمثلة على محاربة بنوك عربية صاعدة
غادر الشاب الفلسطيني يوسف بيدس سنة 1948 وهو في السابعة والثلاثين عاماً مدينة القدس مع والديه إلى بيروت خالي الوفاض. وحيث انه كان يعمل في البنك العربي بالقدس ولديه خبرة في بيع وشراء العملات شارك ثلاثة من اللبنانيين وفتح شركة صرافة وتجارة عامة برأسمال قدره 10,000 ليرة لبنانية. سرعان ما تطورت شركة الصرافة الي بنك تم تسميته بنك انترا. سرعان ما نما هذا البنك نمواً أسطورياً حيث استحوذ على 15% من مجموع حسابات التوفير في كافة البنوك من لبنانية واجنبية أو ما نسبته 38% من حسابات التوفير في البنوك اللبنانية. أسس البنك كبريات الشركات اللبنانية منها شركة طيران الشرق الاوسط و كازينو لبنان وغيرهما.ادعى الحاسدون والحاقدون والمنافسون من البنوك الاخرى ان بنك انترا ويوسف بيدس (الفلسطيني ) يسيطران على الاقتصاد اللبناني برمته.
توجه يوسف بيدس إلى فتح فروع في اكثر الدول العربية ثم الأوروبية ثم الأمريكيتين. ثم توجه للاستثمار في الخارج فاشترى شركة لبناء السفن في فرنسا وناطحات سحاب في نيويورك. في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي وزيادة إنتاج النفط في دول الجزيرة العربية بدأ أثرياؤها ايداع مدخراتهم في بنك انترا مما ساعد في صعوده الاسطوري.
بدأت المكائد ضد البنك بعد ظهوره الكبير في فروعه بالخارج. كان أصحاب البنوك العالمية إياهم يطمحون بل ويخططون لاحتكار عائدات بترودولارات النفط بمصارفهم ووجدوا في مؤسسة مالية عربية تستثمر اموالا عربية خطراً يهدد خططهم ومصالحهم. كما ان هناك بعضاً من الطابور الخامس بدأ يدعي أن يوسف بيدس يقدم المساعدات المالية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
أكثر القصص اعتمادا هي أن مستشاراً أجنبيا تم تعيينه ليوسف بيدس، وعندما لاحظ أن وضع السيولة في البنك كان أقل من المعايير الدولية لأن البنك كان يمارس سياسة استثماريه جريئة، قام بترويج الاشاعات عبر خطط وقنوات ممنهجة أثارت خوف المودعين في دول النفط واللبنانيين على حد سواء، فهرعوا جميعا وفي وقت واحد يطالبون بمدّخراتهم. ومثل ذلك يمكن أن يهدد أي بنك. لذلك جرت العادة بان يقرض البنك المركزي البنك المُهاجَم حتى يستطيع تسييل بعض أصوله. لجأ يوسف بيدس للبنك المركزي اللبناني فرفض رئيسه الياس سركيس، والذي أصبح في ما بعد رئيس جمهورية، ان يقدم لبنك انترا المساعدة المطلوبة فانهار البنك سنة 1966. ذهب يوسف بيدس الى اوروبا لمحاولة الحصول على قرض الا ان الحكومة اللبنانية رفعت عليه دعاوى فهاجر الى البرازيل حزينا بائساً حيث توفي سنة 1968 عن عمر 57 سنة. بقي يصر حتى اخر يوم من حياته على أن بنك انترا تعرّض الى مؤامرة كبيرة جداً.
بنك BCCI بنك الاعتماد والتجارة الدولي
كان آغا حسن عابدي مصرفي باكستاني قدير أسس بنك (united) في باكستان سنة 1959 وأراد أن يؤسس بنكاً عالميا. استطاع ان يُقنع حاكم أبو ظبي الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بالمشاركة بنسبة 75 % و Bank of America بنسبة 25 %. بعد 12 سنة فقط أصبح للبنك 400 فرع في 78 دولة في العالم وأصبحت موجوداته تزيد عن 20 مليار دولار وأصبح بذلك سابع أكبر بنك مملوك كشركة خاصة في العالم. عندها بدت العيون اياها باستشعار خطر مال نفطي عربي يتم استثماره بهذه الطريقة مما يهدد خطتهم للاستيلاء على بترودولارات النفط. فالمال هو لمن يسيطر على طريقة استثماره واستعماله. عندما أراد بنك BCCI شراء بنك امريكي ( first American ) نصحت وزارة المالية بعدم السماح له بشرائه فتم شراؤه عن طريق أشخاص تبين أنهم اقترضوا المال من بنك BCCI . بدأت التحقيقات من دائرة القمارق الامريكية ثم من المؤسسات الرقابية والامنية ومن مكتب التحقيقات الفيدرالية الامريكية واتهموا البنك بأنه يفتح حسابات لكارتيلات المخدرات ولاشخاص مناوئين للولايات المتحدة مثل صدام حسين ومانوييل نورييغا الخ. وقالوا انه يخفي اعماله تحت نظام القوانين السرية. كان البنك يعين اثنين من اكبر شركات المحاسبة الامريكية كمدققي حساباته. ولتقصير القصة الطويلة تمت مصادرة وثائق البنك ثم تجميد عملياته. من الطريف انه تبين ان لوكالة المخابرات المركزية الامريكية حسابات عديدة لدى البنك وان مجلس الامن القومي كان يدير عملية ( ايران كونترا ) عبر حسابات في البنك. ومن الجدير بالذكر ايضا ان مكتب التحقيقات الفيدرالي الامريكي FBI رفع قضية على Bank of America باعتبار فتحه حسابات لكارتيل المخدرات المكسيكي وتم تغريمه ولم تتأثر عملياته.
والخلاصة
ـ ممنوع انشاء بنوك ومؤسسات مالية عربية ذات طابع عالمي.
ـ قوة المال هي بسبب انه يمتلك طاقة نتاج الاعمال البشرية ويتحكم في استعمالها نفر قليل هم المصرفيون العالميون. حتى طاقة النفط تصبح طاقة بترودولارات بأيديهم. ـ
وما العلاج؟ ارجاع المال ليصبح دوره وسيلة تبادل وليس سلعة وهذا يحتاج إلى نظام عالمي مالي جديد وسيقاومه اصحاب المال العالمي وطابورهم الخامس بضراوة.
نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ 4 ماي 2021