الشارع المغاربي: فعلها قيس سعيّد أخيرًا!… فبصرف النظر عن التأويلات القانونيّة، أقرّ رئيس الجمهوريّة تجميد «سيرك باردو» بعد أن عافه جلّ التونسيّين. وهلّلت الجموع في معظم الشوارع الكبرى من شمال البلاد إلى جنوبها لإقدامه على تجميع كلّ السلطات في يده!. فسجّل بذلك منعرجا جديدا في تاريخ الدولة التونسيّة، شكّل مفاجأة كبرى ولا يزال..
وجّه الرئيس قيس سعيّد، عبر قراراته غير المسبوقة في تونس، ضربة قاصمة إلى الطبقة السياسيّة برمّتها، لا فقط إلى حركة النهضة التي كانت تُهيمن على سلطة القرار في البرلمان والحكومة. ضربة موجعة وفي كلّ الاتّجاهات لأنّ رئيس الدولة نزع أصلا إلى تغيير كلّي لطبيعة النظام السياسي في تونس، وحوّله عمليّا من نظام شبه برلماني إلى نظام رئاسوي يغيب فيه الفصل بين السلطات تماما، ولو بشكل مؤقّت يجهل الجميع أوان زواله…
ومع ذلك يبقى حزب راشد الغنوشي الأكثر تضرّرًا من قرارات رئيس الجمهوريّة لأنّه جُرّد قسريّا من آليّات الهيمنة والاختراق الأساسيّة التي كان يعتمدها لخدمة مصالحه، دون أدنى اكتراث لحالة السقوط المدوّي المتصاعد لمختلف مؤسّسات الدولة والواقع المتعفّن للمشهد السياسي وممارسات المكابرة والهروب إلى الأمام.
الأسباب والنتائج
من شاهد، يوم الأحد، بعض فيديوهات اقتحام مقرّات حركة النهضة في شتّى جهات الجمهوريّة قبل إعلان رئيس الدولة لقراراته ومحاولات تخريبها المؤسفة، لا يمكن إلّا أن يستعيد مشاهد تهشيم مقرّات حزب «التجمّع الدستوري الديمقراطي» المنحلّ في بداية عام الثورة، في ظلّ فرار منتسبيه. فعلى امتداد السنوات الماضية لم تُتح حركة النهضة لنفسها، وهي التي لم تغادر دواليب الحكم منذ عام 2011 تقريبا، أيّة فرصة لاستيعاب دروس التاريخ بل هيّأت الظروف لتعميق حالة الاحتقان ضدّها. أوَلم نر كثيرا من التونسيّين البسطاء يعربون عن أملهم في عودة رئيس النظام السابق زين العابدين بن علي إلى الحكم قبل وفاته؟ رغم كلّ ذلك تهالك حلفاء حركة النهضة تباعًا، وغابت المراجعات الضروريّة والنقد الذاتي، وفي المقابل كانت المكابرة والإصرار على الهروب إلى الأمام سيّدة الموقف الحزبي. وإزاء كلّ ذلك، بدا من الطبيعي أن تتصاعد حالة الغضب في الشارع التونسي ضدّ حركة النهضة وضدّ قياداتها وضدّ مقرّاتها وأتباعها وحلفائها المتغيّرين، بل وضدّ معظم الأحزاب الأخرى التي فقدت بدورها الحدّ الأدنى من ثقة التونسيّين…
مظاهر الفرح العارمة ليلة عيد الجمهوريّة تُثبت مسار التهاوي، ولا يمكن لقناة «الجزيرة» أو غيرها تزييف المشاعر التلقائيّة للتونسيّين ولو بدت عابرة. كانت بمثابة عمليّة تنفيس جماعيّة عن سنوات من القهر والغبن والتفقير، وكأنّ «رئيس الفقراء الغامض» سيُغيّر الأحوال بعصا سحريّة ما بين عشيّة وضحاها بعد أن أزاح غُمّة ثقيلة عن صدور جزء لا يُستهان به من أبناء الشعب المسكين. حالة انتشاء انطباعيّة ليس من أولويّات معتنقيها التفكير في المآلات السياسيّة المقبلة وفي تأويلات الفحول النخبويّة للقانون الدستوري وفي مخاطر العودة إلى الحكم الفردي وكذلك في الإصابة بعدوى الوباء اللعين، بقدر ما كانت تحتاج إلى جرعة من الأمل قبل أيّ شيء آخر، وهذا ما عجزت حركة النهضة ومعظم الطبقة الحاكمة وما جاورها عن استيعابه. ما يهمّ تلك الجموع، إذن وقبل كلّ شيء، هو التخلّص أوّلا من معشر الفاسدين والأثرياء الجدد، وممّن لا يكترث بالمحرومين والمفقّرين والمعطّلين والمظلومين بقدر ما يبحث عن تجميع المكاسب والمغانم والتعويضات حتّى والبلاد على مشارف الإفلاس ومثقلة بأكياس الموتى…
بدت تلك المشاهد عميقة الدلالات، بل وأتاحت لرئيس الجمهوريّة الاستفادة من زخم شعبي متعاظم، بعد تزايد الشكوك في تراجع شعبيّته وفق نتائج بعض استطلاعات الرأي الصادرة في بداية شهر جويلية الجاري. استعادة هذه الشعبيّة دفعته إذن إلى المضيّ في تفعيل قراراته والمسك بزمام السلطة بمختلف مفاصلها. وقد نجزم، من باب الاستنتاج، أنّ تلك القرارات كانت شبه جاهزة قبل أوان إعلانها بفترة طويلة، ولم يكن ينتظر إلّا تحيّن فرصة التنفيذ. واليوم يمكن أن نستشفّ من خطابات ألقاها سابقا أنّه كان يعني حرفيّا ما يقول، على الرغم من أنّ لا أحد تقريبا كان يأخذ على محمل الجدّ خطاب التحذير والتهديد والوعيد. مجانب للصواب إذن من أخذ يهذي اليوم بأنّ قيس سعيّد مخبول. فقد أنبأ بأنّه أكثر فطنة ودهاء من الطبقة السياسيّة المتهالكة، حتّى أنّه ترك الأوضاع تختمر إلى آخر رمق، أي إلى أن بات الإصلاح شبه مستحيل، وبعد أن تعفّنت الأوضاع وشاعت العدوى وتضاءلت طاقة الاحتمال لدى التونسيّين إلى درجة غير مسبوقة، حرّك رئيس الجمهوريّة الدبلوماسيّة، فتهاطلت المساعدات الدوليّة لمجابهة الجائحة، ثمّ عاضدها بقراراته الأخيرة.
منعرج جديد
لن نخوض طويلا في التأويلات القانونيّة المختلفة لقرارات قيس سعيّد ومدى احترامها لنصّ الدستور وخصوصا للفصل 80 منه، فذلك من شأن فقهاء القانون الدستوري. فلئن أجازها بعضهم متطرّقا إلى ما يُسمّى بالإجراءات ما فوق الدستوريّة (Supra-constitutionnel) في ظلّ الأخطار التي تُهدّد كيان الدولة التونسيّة، فإنّ البعض الآخر أدانها بشدّة مُتحدّثا عن «انقلاب» صرف وخرق فادح للدستور، على غرار عياض بن عاشور الذي لم يتمالك نفسه فأخذ يتحدّث (في تصريح لإذاعة «موزاييك») عن فشل قيس سعيّد في التأهيل إلى رتبة «أستاذ» باعتباره ليس سوى «مساعد». وهو لا يدري من فرط القصور أنّ هذا الإسقاط اللساني (Enchâssement) قد قوّض طرحه أصلا.
في كلّ الأحوال، لا يمكن الجزم بالصواب المطلق لأيّ تأويل، وخاصّة في ظلّ عدم إمكانيّة تفعيل بعض مقتضيات الفصل 80 من الدستور الذي يوجب إعلام رئيس «المحكمة الدستوريّة» بالتدابير التي تُحتّمها الحالة الاستثنائيّة. والحال أنّ عمليّة تعطيل إنشاء هذه المؤسّسة الدستوريّة ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى عام 2015 والأعوام اللاحقة بسبب محاولة الهيمنة على عضويتها وتوظيفها من قبل حركة النهضة نفسها وحليفتها اللدودة آنذاك حركة نداء تونس.
وفي كلّ الأحوال، يبدو من غير الممكن أن يعود التاريخ إلى الوراء، وخاصّة بعد إصدار رئيس الحكومة المعفى هشام المشيشي بيانا أعلن فيه في المحصّلة قبوله بقرارات رئيس الجمهوريّة، معربًا عن تمنياته بالتوفيق للفريق الحكومي الجديد الذي سيعيّن رئيسه. والواضح أنّ المشيشي قد أدرك في نهاية المطاف أنّه لم يكن سوى ورقة سياسيّة وظّفتها حركة النهضة في صراعها مع رئيس الجمهوريّة، ويمكن أن ترمي بها حالما تقتضي مصالحها الظرفيّة ذلك. وعليه، آثر المغادرة بهدوء وتجنّب السقوط في هذا الشراك المحفوف بالمخاطر الذي نُصب له من دون أدنى مقابل. ومن ثمّة، عمد المشيشي إلى قطع الطريق أمام مواصلة توظيفه، وخاصّة بعد تعدّد تصريحات بعض قيادات حركة النهضة بأنّ رئيس الحكومة متمسّك بشرعيّته وبأنّه سيشرف على اجتماع مجلس الوزراء في أقرب وقت ممكن. وبذلك منح المشيشي الرئيس سعيّد ورقة سياسيّة مهمّة كانت بمثابة صفعة موجعة لحركة النهضة، لأنّه أقرّ نهائيّا بوجود فراغ حكومي وبأنّه سيسلّم المشعل لمن سيخلفه على رأس الحكومة.
سابقة تاريخيّة!
في المحصّلة، عمد الرئيس قيس سعيّد إلى تغيير شبه كلّي لقواعد اللعبة السياسيّة، ولاسيما في ظلّ غياب المحكمة الدستوريّة، ممّا يجعله دستوريّا المؤهّل الوحيد لتأويل الدستور، باعتباره الساهر على احترامه.
ولأوّل مرّة في تاريخ البلاد، ينزع رئيس الجمهوريّة إلى تعيين نفسه ممثّلا للنيابة العموميّة، بالإضافة إلى احتكار صلاحيّات السلطة التنفيذيّة باعتباره هو الذي سيعين رئيس الحكومة ويشرف على مجلس الوزراء وكذلك السلطة التشريعيّة عبر المراسيم التي سيتكفّل بإصدارها خلال الفترة المقبلة.
والأهمّ والأكثر إثارة، في الآن ذاته، يكمن طبعا في مسألة إشراف رئيس الجمهوريّة على النيابة العموميّة. فهذا الظرف الاستثنائي دفعه إلى إقرار إجراءات استثنائيّة، ممّا يُحمّله مسؤوليّات أكبر. تغيّرت قواعد اللعبة إذن، وبات الرئيس سعيّد يحتكم إلى كلّ السلطات. وهو ما سيجعله محلّ اختبار عسير وأمام ضرورة الالتزام بتفعيل وعوده في الإصلاح وخاصّة محاسبة الفاسدين.
وبإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي وعزل وزيرة العدل بالنيابة حسناء بن سليمان ووزير الدفاع إبراهيم البرتاجي لم يعد من المقبول إذن تعطيل إحالة قضايا الفاسدين أو الحديث عن فساد جزء من المنظومة القضائيّة جرّاء هيمنة لوبي حركة النهضة أو غيرها من القوى ولوبيّات الفساد والاحتكار والتهريب والتكفير والتخوين، وخاصّة بعد إقرار قيس سعيّد رئاسته للنيابة العموميّة.
وأمام ذلك ليس غريبًا أن ترتعد فرائص بعض السياسيّين والنوّاب ورؤساء الأحزاب خشية محاسبتهم الوشيكة، مثلما يفترض الأمر. وربّما لن يدّخر بعضهم الغالي والنفيس خلال هذه الأيّام في البحث عن سبل الفرار خارج البلاد، دون إيقافهم في المعابر الحدوديّة وقبل بدء إجراءات مقاضاتهم. ولا نستغرب قطّ أن يكون بعض من يُعوّل على إثارة الفوضى وتغذية الصراع وصبّ الزيت على النار قد أطلق بعد مفاوضات مع جهات أجنبيّة بعينها لحمايته من التتبّع القضائي…
والأهمّ إذن أن يُثبت رئيس الجمهوريّة، عمليّا وبالفعل الملموس لا فقط بالخطابات الرنّانة، ما عُرف عنه ويروّج له من نزاهة ونظافة اليد واستقلاليّة شخصه عن كلّ اللوبيّات. وهو ما يدعوه خصوصا إلى المضيّ في إعادة الألق إلى المنظومة القضائيّة المهترئة، لا النزوع إلى ارتهانها لمشيئته، وبذل كلّ الجهود من أجل تطبيق القانون على الجميع على قدر المساواة دون محاباة أو محسوبيّة أو ظلم أو تشفٍّ.
تبديد المخاوف
وفي المقابل، لا يخفى أنّ السلطة المطلقة غالبًا ما تؤدّي بدورها إلى الفساد المرتبط بالحكم الفردي. فالتطوّرات الأخيرة تبعث الأمل في إجراء تحرّكات على طريق الإنقاذ الوطني، غير أنّها تُثير كذلك مخاوف بشأن احتمال الانحراف والمسّ بالحريّات العامّة والفرديّة، بدليل غلق قوّات الأمن مكتب قناة «الجزيرة» القطريّة، ممّا يُعدّ خطوة لا تبعث على الاطمئنان ويُثير القلق بشأن احتمال السقوط في إجراءات انتقاميّة..
يبدو من الضروري إذن أن يبادر رئيس الجمهوريّة، اليوم قبل الغد، إلى مصارحة التونسيّين بمنتهى الوضوح بشأن نواياه وما يعتزم القيام به من إجراءات وتدابير استثنائيّة خلال الفترة المقبلة. فمن شأن ذلك أن يُبدّد المخاوف، لاسيما أنّه من الصعب جدّا الالتزام بفترة الثلاثين يوما التي أعلن عنها، وفق ما يقتضيه الدستور. وفي المقابل، لا بدّ أن يسارع الخطى بالإنصات إلى مقترحات مكوّنات المجتمع المدني والمنظمات الوطنيّة من أجل تجسير الهوّة بين الفرقاء السياسيّين وتشكيل حكومة إنقاذ وطني، لا فقط حكومة مجرّدة من الصلاحيّات تُقاد كالدمى المتحرّكة من قصر الرئاسة، وذلك في انتظار تحديد خارطة طريق تُعبّد الطريق لإرساء ديمقراطيّة حقيّقيّة البلاد لا تقصي أحدا ولا تمسّ بالحريّات وتقطع مع الفساد والفاسدين على خلاف ما كان عليه الحال خلال الأعوام الأخيرة.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 27 جويلية 2021