الشارع المغاربي-العربي الوسلاتي: الجهاز السرّي لحركة النهضة ملف يٌطرح على الطاولة كلّما حثّ الشارع خطواته نحو التغيير. والحديث عن هذا الملف أو الخوض في بعض تفاصيله المحرّمة كان مرتبطا أساسا بموازين القوى التي تتحكّم في الخارطة السياسية والتي تحكم قبضتها على كبرى الملفات والقضايا الوطنية. وبما أنّ رئيس الجمهورية قيس سعيد سحب البساط من تحت أقدام الجميع صار لزاما على الجميع الدخول في مربّع المساءلة والمحاسبة دون قيد أو شرط خاصة أولئك الذين أجرموا في حقّ تونس والتونسيين على امتداد عشرية الدمار والخراب.
موضوع الجهاز السرّي عاد ليطلّ برأسه من جديد على الواجهة. وإطلالته هذه المرّة كانت أكثر وقاحة وفظاعة. فالكلام الذي صدر عن الاميرال المتقاعد كمال العكروت مستشار الامن القومي للرئيس الراحل الباجي قائد السبسي وأكثر العارفين بخفايا البلاد والعباد يكشف عن حقائق خطيرة تمسّ الأمن القومي وتكشف أكثر من ذلك أنّ ذلك الجهاز الخفي لم يكن مجرّد فزّاعة نراقص بها شياطين الانس والجان.
الأميرال المتقاعد وصف خلال حضوره أمس في برنامج «هنا تونس» على إذاعة «الديوان» ما ورد في الملفات الخاصة بالجهاز السري لحركة النهضة المقدمة من قبل هيئة الدفاع عن الشهيدين شكرين بلعيد ومحمد البراهمي بالخطير جدا مشددا على انها تحتوي على تُهم تتعلق بالتلاعب بالدولة وبأمنها. كلام الأميرال كان واضحا وصريحا ومباشرا وفيه اقرار صريح بوجود خطر كبير كان يحدّق بالدولة في فترة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي.
العكروت قال بالبنط العريض « دون الخوض في تفاصيل ملفي التسفير والجهاز السري لحركة النهضة ..بالنسبة للجهاز السري الذي لا أعلم ان كان موجودا ام لا ..اطلعت على عديد الملفات المقدمة من قبل محامين تحت عنوان “خطير جدا” تحمل ادعاءات واثباتات ..هذه الملفات تحتوي على معطيات خطيرة جدا». وأضاف أنه قدم الملفات لرئيس الجمهورية السابق الباجي قائد السبسي وأنه اقترح عليه عرضها على اجتماع مجلس الامن القومي واتخاذ القرارات المناسبة مشيرا الى أنه تمّ عقد الاجتماع والى أنه تقررت بالفعل احالة الملفات الى القضاء وتعهد وزير العدل آنذاك بالتسريع في اجراءات النظر في الملفات ومستدركا بأنه «كان هناك تأخير في النظر فيها».
وشدّد الأميرال على أنه كان على تواصل مع لجنة الدفاع عن الشهيدين وعلى أنه درس جيدا ملف الجهاز السري ممّا يضفي جانبا أكبر من المصداقية على روايته. موضحا أنه حرص على احالة الملف الى القضاء قبل أن يقترح على الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي إحالة الأمر على القضاء العسكري بسبب البطء في إحالة الملف وكذلك نظرا لخطورة التهم ونظرا لان الملف يمس من الامن العسكري.
العكروت حاول عدم الدوس على الألغام وهو يمشي فوق رمال النهضة المتحرّكة لذلك لم يجزم بأنّ ما اطلّع عليه في الملف من معلومات وتهم صحيح او خاطئ ولكنه في المقابل لم ينف أنّ ما ورد بالملف المقدم من هيئة الدفاع عن الشهيدين «خطير ويحتوي على تهم تتعلق بالتلاعب بالدولة وبأمنها».
وبرّر مستشار الامن القومي للرئيس الراحل الباجي قائد السبسي عدم تحرّك الباجي بالسرعة والحكمة اللازمتين لفتح الملف بوضيعته الصحية في ذلك الوقت. فرمى بالكرة في ملعب رئيس الجمهورية الحالي قيس سعيد متسائلا لماذا لم يُفتح الملفّ الى حد الان رغم أنه بين يديه مستدركا بالقول الاّ إذا كانت لرئيس الجمهورية معطيات أخرى على حدّ تعبيره.
كلام الأميرال العكروت مفهوم وقفزه سريعا في الحوار الاذاعي من مرحلة الباجي الى حقبة قيس سعيّد له ما يبرّره فالرجل حاول قدر الامكان سحب المسؤولية من رئيسه السابق مستعينا بأعذار قاهرة منها الوضع الصحّي للرئيس الراحل والحال أنّ الجميع يدرك أنّ ملفّ الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي تفجّر في 2016 بواسطة لجنة الدفاع عن الشهيدين التي استماتت في التعريف بالقضية وفي كشف حقائق مدويّة من خلال العشرات من الندوات الصحفية. في ذلك الوقت كان الباجي رحمه الله في أوج عافيته الذهنية والسياسية وكان الرجل يخوض أشرس معاركه الوجودية مع رئيس حكومته «الانقلابية» آنذاك يوسف الشاهد. لذلك فإنّ ربط التأخير في فتح هذا الملف الخطير بالوضعية الصحية للباجي هو في ظاهره حجّة مرفوضة وغير مقبولة على الأقلّ بالنسبة للعقلاء الذين كانوا شاهدين على فترة التوافق المغشوش بين الباجي والغنوشي. فالتوافق الذي حكم البلاد على امتداد خمس سنوات منذ صعود النداء والى حين اندثاره كان يقوم على عديد الاتفاقات والمعاهدات منها قبر بعض الملفات التي شكّل بعضها في وقت من الأوقات ورقة مهمة وأساسية لصعود الباجي الى واجهة الأحداث السياسية.
الحديث عن الجهاز السرّي لحركة النهضة يبقى دائما مغلّفا بالحبر السرّي. فحتى الذين كانوا يمسكون بمقود القيادة في البلاد ويعتبرون خطّ دفاعها الأوّل في وجه المؤامرات والمكائد التي تحيط بالأمن القومي يحافظون دائما في حديثهم عن مثل هذه الملفات على مسافة الأمان. فلا هم يصدعون بالحقيقة مثلما هي ولا همّ يفنّدون نظرية المؤامرة. ولكن مهما يكن من أمر فإنّ ملّف الجهاز السرّي لحركة النهضة ان صحّت رواية وجوده يستوجب فتحا سريعا وعاجلا. فإمّا تثبيت الإدانة أو كسر هذه الاسطوانة نهائيا والى الأبد… والكرة الآن في ملعب رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي يملك كلّ الأدوات الشرعية والسلطوية للحسم في الموضوع وهو الذي لا يخشى في الحق لومة لائم.
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 5 اكتوبر 2021