الشارع المغاربي:
إلى زميليّ فاتن بن سلامة والصحبي بن سلامة
I
ما كان لي أن أنتظر أيا كان لأكتشف أن “الخوانجية” كما كنا نسميهم منذ نشأتهم في أحضان شق ظلامي من الحزب الاشتراكي الدستوري، إنما هم خطر على الوجود الوطني ثقافة وقيما وفكرا وعقيدة وأمنا. وقد تبين ذلك لعموم التونسيين اليوم بالتحاق منتحلي الانتساب الى ”الدستوريين” أمس بكتائب ”الخوانجية.
وما كان لي أن أعجب لما جرى اليوم لزميلي الصحبي بن سلامة لأني عانيته في حياتي وحياة عائلتي وعاينته في ما جرى أمس لزميلي المولدي بن حميدة ذات مساء، وهو عائد من عمله بمعهد منزل تميم إلى مسكنه بشاطئ المدينة. لقد كاد يقتل على أيدي الخوانجية لولا أن مرت صدفة سيارة أسعفه من كان فيها. وكان من المنتظر أن يحين دوري، ولكني حميت نفسي، إضافة إلى ما وجدت من تعاطف لا مزيد عليه من دساترة شرفاء في مقدمتهم رئيس شعبة المدينة زميلي ”سي الهادي حمادة ” ورفيقه سي حسين بن رحومة رحمهما الله رحمة واسعة .
وما كان لي أن أعجب لما تتعرض له زميلتي فاتن بن سلامة من محاكمة ما كان لها أن تكون أصلا، والغريب فيها أن يتطوع لنهش لحم مربية فاضلة عشرون محاميا في إشارة الى إرادة غريبة لم تتوفر لي عناصر فهمها. وأغرب ما في الأمر أن يطلب الدفاع –على ما يبدو – من الأخت المتهمة بدم يوسف أن تعتذر عما اتهمت به باطلا !!! فهل هو تطوع للتنكيل بمربية فاضلة أم للعفس على ظلها أو للشماتة باسمها العائلي؟ وهل من الصدفة أن يحمل الضحيتان ذات اللقب العائلي؟ وهل من محض الصدف أن يقع في لحظة واحدة الاعتداء على سيدة مربية وأخرى سائقة مترو؟ أم هي الدعوة مجددا الى أن ‘تلزم المرأة ” قعر بيتها ” فلا تفارق ”مغزلها” كما يقول الغزالي حتى لا يخلتط الديك بـ”الفرخة” كما قال عبقري الخوانجية المستورد ذات يوم من حكم الترويكا في حشود جُمعت له بملعب المنزه؟ والأخطر من تلك الحشود أن العبقري المستورد تلقى وعدا من أحد كبار الخوانجية الأقدر على تقليد الحرباء أن أطفال تونس ”بين أيديهم” وانهم اعدوا لهم محتشدات لا تقل نجاعة في عملية تحطيم مكاسب دولة الاستقلال عن محتشد الرقاب أو قرضاويات ” الجمعية العالمية لعلماء المسلمين”…
*II*
ولا عجب في ذلك زميلتي فاتن فقد عشت وضعا شبيها بهذا يوم طالب ”الخوانجية بقليبية” في أواخر سبعينات القرن الماضي بطردي من العمل بواسطة تنظيم مظاهرة ضدي استقبلوا بها وزير التربية المرحوم محمد مزالي الذي جاء للإشراف على مؤتمر شعبة المكان. وقد دفعته قوة الاحتجاج داخل مؤتمر الشعبة الى أن يزور المعهد ليسأل عن سيرتي وليجمع ما استطاع من كراسات التلاميذ والنصوص المعتمدة في التدريس حتى ينظر في المسألة بنفسه. وبعد أسبوع يطلبني سي محمد الحمزاوي مدير المعهد أبقاه الله، لأمضي وصل تسلم مراسلتين من الوزير نفسه: الاولي موضوعها شكر على التفاني في أداء الواجب التربوي والثانية إعلام بنقلة وجوبية أي ”عقاب” تلبية لطلب ”الخوانجية” بقيادة أميرهم بقليبية الامين باشا رحمه الله وغفر له. وكانت تلك العقوبة هي الثانية في عام دراسي واحد. فتسلمت ”العقاب” ورفضت “الشكر” لأني احترم الدولة ولا ارضي للمؤتمن عليها أن يتظاهر بالمسالمة ويضمر الحقد…
وفي السنة الموالية 1977/1978 كان من المتوقع ايضا أن أمثل أمام مجلس التأديب مع زوجتي الدكتورة بن جاء بالله –الزقلي بتهمة افساد الشباب وبنشر الزندقة بتعليم الفلسفة الديكارتية ومسرح موليير. وللسيد وزير التعليم العالي المحترم أن يضع -عند الاقتضاء -ملفي على ذمة كل من أراد، كما للباحث أن يراجع مجلة ”’ المعرفة ” الخوانجية عدد جويلية أو أوت لسنة 1978 وقد كانت تطبع بدار الحزب الاشتراكي الدستوري بالقصبة، وتوزع على نفقة الدولة على جميع المكتبات العمومية… وهذه المرة أنقذني المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة رحمه الله من مخالب هبل المعبد الأزرق اذ كنت ناقشت اطروحة الدكتورا في شهر ماي ونجحت بتفوق في مناظرة التبريز في شهر جوان. كما نجح في الباكالوريا جميع تلاميذي بمعهد مجاز الباب. وما كان أحد يجرؤ على معلّم نال شرف تكريم الزعيم … المعلم الأكبر …كان ذلك في عهد وجود الدولة …اما اليوم فقد آلت الى وهن حزين بمكر ”الخوانجية” وانتهازية من ساندهم بأي شكل من الأشكال .ولهذا السبب أنت تحاكمين يا سيدتي على أداء الواجب… فلا تنسي أن للتآمر على أمن تونس وعلى هويتها تاريخ طويل وأن ما تعانين اليوم من الظلم حلقة منه …
لذلك كله ما كان لي اليوم أن أباغت بما تتعرض له مدرسة الجمهورية من تحطيم لا حصر لوجوهه. ذلك انه مترتب على خط اخوانجي أساسي هو خط تدمير دولة الاستقلال. وقد كنت حذرت من ذلك قبل انتخابات 2011 المشؤومة وبعدها، عبر جميع وسائل الإعلام التي تفضلت مشكورة بأن أتاحت لي فرصة إبداء الرأي في الشأن الوطني ،فضلا عن بعض المسؤولين السامين في الدولة ، وفي مقدمتهم المرحوم الباجي قائد السبسي برغبة منه، سواء يوم كان وزيرا أول، أو يوم أصبح رئيس الجمهورية، ولكن ما من سميع فهيم في جميع الحالات ومما يلفت النظر حقا أن من قذفت به الأيام الكالحة من ”الخفافيش الصغار” في دهاليز السلطة ”إلا وظنّ أمثاله في الدنيا قلائل” كما كان يقول المرحوم الميداني بن صالح …
ذلك ما يجعلني اليوم كمواطن ملزم أخلاقيا وسياسيا بالاعتراف بالجميل للسيد قيس سعيد رئيس الجمهورية الذي بادر يوم عيد الجمهورية بإنقاذ الوطن من براثن الاستعمار الداخلي ، وبوضع حد لمهازل ما كان لها إن تتواصل .وليس من المهم أصلا النظر في تلك البادرة التاريخية من جهة مطابقتها أو تناقضها مع قوانين البلاد اذ انه من طبيعة البادرة الثورية حين يكون مطلبها تحرير البلاد من الاستعمار، الخارجي منه والداخلي، أن تغيّر القوانين السائدة لا أن تخضع لها ،إذ أن معيار التقييم عندها حرية الشعب وسلامة الوطن في إطار الالتزام التام بمدونة حقوق الإنسان في كونية معانيها وشمولية مضامينها، بعد أن اختارت تونس أن تجعلها من مدوناتها الوطنية.
وأجدني كذلك ملزما أخلاقيا وسياسيا بالاعتراف للسيدة عبير موسي رئيسة الحزب الحر الدستوري بالدور الأساسي الشجاع الثابت في فضح مخططات الخوانجية ومن لف لفهم حتى أيقظت الكثير من غفلتهم ، وأكسبت مسألة التحرر الوطني، البعد السياسي المتأكد العاجل الذي تسحقه ،فكان حزبها بحق معبرا عن ضمير الشعب وأعماق الوجدان الوطني وهو ما جعل الاستجابة لبادرة رئيس الجمهورية استجابة مباشرة وحقيقة لا وجه للتصنع فيها فضلا عن أنها عمّت جميع أرجاء الوطن .
واليوم –وقد أدرك الشعب التونسي- أن الإسلام السياسي مجرد سحاب مخلف، ورياح حائلة فانه لا سبيل الى مواصلة اعتباره مجرد عنصر في ”المشهد السياسي” بل المسؤول الأوّل – اجتماعيا وأخلاقيا وسياسيا – عن الضرّ الذي مسّ الوطن في أعماق وجوده . فمن يرضيه أن يترك تونس نهبا لمن وقف ذات يوم من شهر أوت 2013 ببطحاء القصبة ليقول للمغرر بهم من المهمّشين ”:إن هذا الحشد العظيم( يذكره) بحشد فتح مكة على يدي رسول الله”؟ فهل خيانة للوطن أظهر من هذه وهل إهانة أبعد ضلالة من هذه ؟ وهل له أو لأمثاله ان يطالبوا بالمشاركة في أي عمل وطني غايته استكمال تحرير الوطن منهم هم أنفسهم ؟ تلك مفارقة لا يأتيها إلا من تعوّد سفساف الامور.
**III **
ذلك ما يحمل التونسي على الإيمان بأن الأسوأ وراءه، أو هكذا يجب أن يكون الأمر، اليوم لا غدا. وليس مما يحتاج إليه بيان أن مسؤولية استكمال تحرير البلاد تقع اليوم كاملة على كاهل رئيس الجمهورية الذي كلف نفسه تحمل جميع السلطات بحكم المرسوم 117 بتاريخ 22 سبتمبر 2021. ويقيني ان السيد الرئيس يعلم ان ألد أعداء الحقيقة ليس الخطأ ولا هو الكذب وانما الوهم الذي يزداد خطره على قدر ما تزداد ضحيته عنادا ومكابرة. وبالتالي فهو يعلم علم اليقين أنه لن يستطيع إبلاغ ثورة 25 جويلية غايتها بمفرده . لذلك حق للتونسي أن ينتظر منه في القريب العاجل بادرة الانفتاح الضروري على مؤسسات المجتمع التونسي وفي مقدمتها اتحاد حشاد واتحاد الأعراف ونقابات الفلاحين والاتحاد الوطني للمرأة التونسية وجمعية النساء الديمقراطيات وجميع الهيئات الفنية الحقوقية والمهنية القائمة ليشكل منها طرفا مسؤولا يعين الإعانة الصحيحة على استكمال مسيرة الوطن في اتجاه التحول الثوري الشامل .
ولا ريب أنه تنتظر الأحزاب الوطنية أدوار أساسية في هذا المشروع التاريخي . فلا مطمع في حياة ديمقراطية دون أحزاب وطنية الهوية والهوى. وبالتالي وجب العمل جديا على اعانتها على أداء رسالتها في مزيد إحكام تأطير الشعب سياسيا ومدنيا في مجرى التربية الجماعية على فضائل الديمقراطية من ناحية والاستعداد –من ناحية أخرى- الى انتخابات تشريعية مشفّة لا يجب أن يطول انتظارها . ولئن لم أشك يوما في حب السيد الرئيس لتونس فاني أستأذنه في أن أهمس له :سيدي الرئيس ”لست وحدك حبيبها” !!!
والحق أنه ليس هناك ما يدعو البتة الى الارتياح أن يجمع شخص ما –كان شأنه ما كان – جميع السلطات الى أجل غير معلوم. فحتى الدكتاتورية الرومانية كانت تسن لمجابهة خطر داهم بتوسط تفويض قانوني لستة أشهر قابلة للتجديد مرة واحدة، وتعقبها ضرورة محاسبة قضائية صارمة. وذلك ما يميز الدكتاتور في التراث السياسي الروماني Dictator أي ”الأمير” عن المستبد او الطاغية Tyran/ τύραννος في التراث السياسي السلبي اليوناني .فالاول شرعي واستثنائي وبالتالي مؤقت ومسؤول، والثاني انقلابي لاشرعي ودائم ولا من يسأله عما يفعل بحكم عصاه الطويلة. وللسيد الرئيس أن يختار مصيره بنفسه. ويقيني أن ساعة الاختيار الصعب قد أزفت ولا تكفي فيها الأقوال بل الافعال !!! ومهما يكن من أمر فالمحاسبة آتية وستكون شعبية !!! والأمل معقود على أن تكون في اقرب موعد انتخابي.
والمؤسف حقا أن تلك النقائص خولت للبعض و-خاصة الأحزاب التي حكمت البلاد منذ 2011 -التشكيك في معاني البادرة الرئاسية في اتجاه تأويلها على معنى ”الانقلاب” أو إرادة الاستئثار بالحكم قصد تقزيم الخصوم السياسيين المحتملين وهو تأويل غبي لما ينطوي عليه من معنى رفع المحال إلى مصاف الممكن. ومما زاد الواقع الوطني غموضا لا يرضاه التونسي الوطني قبل الأجنبي الاخ والحليف ، تكاثر الهمهمة بالاستفتاء وهي لا يكون -في الظرف الحالي – إلا دعوة مبطنة للاستبداد في غلف شعبوي، إضافة إلى تفشي أصوات الترويج لخرافة ”التأسيس القاعدي ” والدعوة الى إيديولوجيا ”اللجان الشعبية ” مما يدل على ان الآخذين في هذا التهريج الأخرق يجهلون التاريخ الوطني بما يعتمل فيه منذ القرن التاسع عشر من طموح الى دسترة الحياة السياسية حتى أن شهداء 9 افريل 1938 لم يضحوا إلا من أجل ”برلمان تونسي ”. لذلك كان الخروج عن مطالب ذلك التاريخ ، ومضامين تلك التضحيات الجسيمة، خيانة موصوفة للتاريخ الوطني ولدماء الشهداء .
وفي تقديري أنه يحسن بالسيد الرئيس –دفعا للشبهات والتأويلات الفاسدة – أن يحدد علنا علاقته بهذه الحركات الغبية. فليس أضر بالكريم من السكوت عن حمق من ادعى انتسابا له وليس عقوق أبعد من نكران تضحيات الأجيال في سبيل عزة تونس ومناعتها. ويقيني أن أزكى آيات النضال الوطني اليوم ، إنما هو العمل على الارتقاء بالدولة الوطنية، دولة الاستقلال، إلى معالي الدولة الوطنية الديمقراطية، وما خلا ذلك فزبد يذهب جفاء، ولا معنى له عند شعب أصرّ على المطالبة بحقه في ”الشغل والحرية والكرامة الوطنية”.
نشر بأسبوعية”الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 16 نوفمبر 2021