الشارع المغاربي: جوابا علـى هذا السؤال وغيره من الأسئلة المحرجة هناك من سيتمسك بسياسة الإنكار.
نعم هناك من بين المسؤولين في الدّولة (ولا أقول المسؤولين في الحكومة فقط) من سينكر أن هناك دخولا فعليا في دوّامة إعادة جدولة الدّين العمومي، أو أن هناك لجوءا لطبع الأوراق النقدية (ونحن لا نعني هنا الطبع المادي للأوراق النقدية ولكن نعني التمويل المباشر أو غير المباشر لعجز ميزانية الدولة من قبل البنك المركزي)، أو أن هناك حتى صعوبات اقتصادية ومالية، أو تأخير في صرف أجور الوظيفة العمومية، أو نقص في المواد الغذائية الأساسية والأدوية، إلخ…
في التمسك بسياسة الإنكار مغالطة كبرى وحرمان تونس من تشخيص حقيقي لأوضاعها وإيجاد الحلول الجدية لمشاكلها وصعوباتها.
وكالة موديز (Moody’s) للتصنيف الإئتماني (أو الترقيم السيادي) تقول في تقريرها الأخير الصادر منذ أسبوعين أنها بصدد مراجعة التصنيف الإئتماني لتونس. وفي هذا الاطار طالبت السلط التونسية بتوضيح مصادر تمويل ميزانية 2022. في الحقيقة لا أحد، لا في الداخل ولا في الخارج، يعرف كيف ستموّل الدولة التونسية ميزانيتها أو نفقاتها لسنة 2022. لا بد من التذكير هنا بأن ميزانية 2022 تنص على تعبئة قروض جديدة لسنة 2022 بمبلغ 20 مليار دينار، منها 12,7 مليار دينار من الخارج بالعملات الأجنبية و7,5 مليارات دينار من الداخل بالدينار التونسي. وهذا كلّه مرتبط بفرضية توصّل تونس إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي حول الحصول على قرض جديد قبل موفى شهر مارس 2022. فمن أين ستأتي تونس بمبلغ 12,7 مليار دينار من القروض الأجنبية والحال أننا لم نقدم إلى حدّ الآن أي برنامج إصلاحات لهذه المؤسسة؟.
ومن أين ستأتي تونس بمبلغ 7,5 مليارات دينار من القروض الداخلية بينما استنفدت الدولة كل إمكانيات الاقتراض من الجهاز البنكي والمالي التونسي؟ إلاّ إذا كانت هناك نية، طبعا غير معلنة، لتمويل مباشر أو غير مباشر من قبل البنك المركزي (طبع أوراق نقدية).
دوامة إعادة جدولة الدّين
1) بتاريخ 2 فيفري 2022 كان على الدولة التونسية تسديد قرض بمبلغ 651 مليون دينار لفائدة البنوك والمؤسسات المالية التونسية. وهذا القرض يأتي في شكل رقاع خزينة قصيرة المدى (26 أسبوعا). ولكن هذا المبلغ لم يكن متوفرا لدى الخزينة. وكحل وقتي طلبت الدّولة من البنوك والمؤسسات المالية المعنية إمهالها إلى تاريخ 3 أوت 2022 (26 أسبوعا آخر) وأصدرت بمقتضـى هذا التأجيل رقاع خزينة جديدة قصيرة المدى كتعويض عن رقاع الخزينة المستحقة في 2 فيفري 2022.
2) بتاريخ 9 فيفري 2022 الدولة مطالبة بتسديد قرض بمبلغ 910 ملايين دينار لفائدة البنوك والمؤسسات المالية التونسية. وهذا القرض يأتي هو الآخر في شكل رقاع خزينة قصيرة المدى (13 أسبوعا). الدولة أخبرت البنوك والمؤسسات المالية المعنية بأنها تطلب أيضا التأجيل. في حقيقة الأمر الدولة لا تطلب التأجيل ولكنها تفرضه على البنوك والمؤسسات المالية التونسية المعنية.
3) بتاريخ 11 فيفري الدولة التونسية مطالبة بتسديد قرض بمبلغ 808 ملايين دينار لفائدة البنوك والمؤسسات المالية التونسية. وهذا القرض يأتي في شكل رقاع خزينة متوسطة أو طويلة المدى (من خمس إلى عشر سنوات). ولكن خزينة الدولة لا تملك هذا المبلغ. وقد عرضت الدولة (أو أجبرت) على البنوك والمؤسسات المالية المعنية تأجيل موعد التسديد إلى نوفمبر 2025 أو ديسمبر 2028 أو مارس 2033 مع إغراء البنوك والمؤسسات المالية المعنية بنسب فائدة مرتفعة حسب تاريخ الاستحقاق والاقتراح.
والبقية تأتي.
إن لم يكن هذا دخولا فعليا وبقوة في دوامة إعادة جدولة الدّين العمومي فماذا يكون يا ترى؟ وهل بمثل هذا الوضع ستتمكن الدولة من تعبئة قروض إضافية من الداخل في إطار ميزانية 2022.
الدول التي تمر بصعوبات اقتصادية ومالية وتتأخر في القيام بالتشخيص الحقيقي وإيجاد الحلول تجد نفسها من حيث لا تدري وقد دخلت في دوامة إعادة جدولة الدّين. والبداية تكون دائما من الدّاخل لأن الدولة تفرض على الدّائنين، أي المؤسسات البنكية والمالية المحلية، القبول بحلول التأجيل المعروضة. ثم بعد إعادة جدولة الدّين الخارجي. ولكن إعادة جدولة الدّين الخارجي تقتضي التفاوض مع الدّائنين الدوليين والأجانب. دوامة إعادة جدولة الدّين الخارجي صعبة ومضنية ومهينة وفيها حتما مسّ من السيادة الوطنية.
سياسة الإنكار سياسة سيئة ولا تجدي نفعا بل تزيد في تأخير الحل وتعميق الأزمات.
منذ سنوات عديدة تلهث تونس وراء القروض وتعبئة الموارد عوض الدخول الفعلي في عملية إنقاذ شامل للاقتصاد التونسي وللمالية العمومية وللتجربة التونسية برمّتها.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 8 فيفري 2022