الشارع المغاربي: لا فائدة تُذكر من العودة إلى تفاصيل الصراع بين رئيس الجمهوريّة والمجلس الأعلى للقضاء. فقد بات هذا المجلس من وحي الماضي مثلما توعّده سعيّد منذ أيّام. السؤال الأهمّ اليوم هو ماذا بعد حلّ المجلس؟، هل ستنصلح أحوال القضاء وتتحسّن أوضاع البلاد وتُكشف الأسرار المطمورة لقضايا الاغتيالات السياسيّة… سؤال المستقبل أهمّ بكثير إذن من اجترار صراع مروّجي الأوهام!.
أخيرا حسم رئيس الدولة مسألة حلّ المجلس الأعلى للقضاء. فقد كشف، خلال لقائه برئيسة الحكومة نجلاء بودن، أنّ مجلس الوزراء سيستعرض خلال اجتماعه المقبل مرسومًا يتعلّق بحلّ المجلس، مبرّرا قراره بأنّه أصبح ضرورة لأنّ «الشعب يريد تطهير البلاد» وأنّ «الواجب والمسؤوليّة التاريخيّة اقتضت أن يوضع حدّ لهذه المهازل». وصف الرئيس سعيّد المجلس الأعلى للقضاء إذن بـ”المهزلة”، وفسّر ذلك باعتبارات عديدة تتّصل بالهنات والتجاوزات المتعلّقة بأداء المجلس. فعدّد مثلا الخروقات التي شابت الحركة القضائيّة، مشيرا إلى «نقل قضاة وإيقافهم عن العمل تعسفيّا تنكيلا بهم لأنّهم لم ينساقوا خلف التيّارات التي عبثت بالملفّات داخل قصور العدالة».
اعترافات في منتهى الخطورة
تطرّق رئيس الدولة أيضا، وبأسلوب تعميمي مغلّف، إلى التوظيف السياسي والحزبي للجهاز القضائي، محذّرًا من أنّ «من اعتبر القضاء أداة لتحقيق غاياته السياسيّة والقضائيّة، فليعلم أنّه لن يتمكّن من التسلّل لقصور العدالة». وفي هذا المضمار أشار سعيّد إلى أنّه «ما زال يوجد تستّر في قضية شكري بلعيد، وأحد القضاة تستّر على قضايا اغتيال بلعيد والبراهمي ورفض مدّ لجنة الدفاع بالأدلّة، تمّ التستّر على اغتيال أمنيّين وقضايا إرهابيّة، هل يمكن أن يقبل القضاة بهذا؟». هي المرّة الأولى إذن التي يُفصح فيها رأس هرم السلطة عن وجود «تلاعب قضائي» بملفّي الشهيدين شكري بلعيد ومحمّد البراهمي. وهو تصريح في منتهى الخطورة لأنّه يُعدّ اعترافًا من الدولة وعلى لسان الممثّل الأوّل لها بمسؤوليّة أحد أجهزتها عن قبر قضيّة الشهيد بلعيد وعدد من القضايا الإرهابيّة الأخرى. تكمن الخطورة تفصيلا في هذا الاعتراف الرسمي أوّلا، وفي الربط بين التلاعب بملفّات تلك القضايا الإرهابيّة ومسؤوليّة المجلس الأعلى للقضاء في عدم التصدّي لتلك التجاوزات الجسيمة ثانيًا. هذه أخطر «الحيثيّات» التي جعل منها رئيس الجمهوريّة حجّة لاتّخاذ قراره بحلّ المجلس، باعتبارها تُشكّل ممارسات قد تبدو في أذهان الجمهور بمثابة وقائع ملموسة.
أمّا سوى ذلك من تأكيدات الرئيس قيس سعيّد على عدم رغبته في تجميع السلطات وعلى أنّه «لن يتدخّل في سير القضاء أبدا».. و»في أيّ قضيّة» وبشأن سعيه إلى أن يكون «الدستور نابعا من الإرادة الشعبيّة»، فتلك لا تعدو أن تكون إلّا محسّنات لفظيّة من شأنها تعويم الخطاب السياسي، سواء أكانت مقصودة أم لا. ومن ذلك أيضا تأكيد رئيس الدولة على أنّه تمّ اللجوء إلى حلّ المجلس «لتطهير البلاد والتطهير لا يتحقّق إلّا بقضاء عادل الجميع متساوون أمامه». ولنا أن نتساءل، في هذا الصدد، كيف يغيب عن مستشاري القصر أن ينبّهوا رئيس الجمهوريّة إلى أنّ مصطلح «التطهير» الذي تعوّد على استخدامه تشوبُه تاريخيّا شحنة عنصريّة على صلة بمسألة النازيّة والإبادة العرقيّة وما إلى ذلك…
اختلال الموازين
أمّا عن الجدل السائد بشأن غياب الشرعيّة والمشروعيّة عن قرار رئيس الجمهوريّة بحلّ المجلس الأعلى للقضاء، فهو مجرّد لغو سياسي يهدف بالنسبة إلى أصحابه إلى تحسين شروط التفاوض ومحاولة تكثيف الضغوط السياسيّة على الرئيس قيس سعيّد داخليّا وخارجيّا من أجل عدم المضي نحو ما هو أعمق وربّما أخطر من مجرّد حلّ المجلس في حدّ ذاته. فمسألة حلّ هذا الهيكل محسومة لأنّها تعود إلى اختلال موازين القوى لصالح رئيس الجمهوريّة.
ومن هنا تبدو بعض ردود الفعل بمثابة رقصات بهلوانيّة لا معنى لها، على غرار تهديد روضة القرافي الرئيسة الشرفيّة لجمعيّة القضاة التونسيّين منذ فترة بأنّ «القضاء خطّ أحمر»، وأنّه «لا يمكن المساس به في الأوضاع الاستثنائيّة… باعتبار أنّ السلطة التنفيذيّة ليست محايدة في الصراع السياسي»، وكأنّها تُبشّر بوجود سلطة تنفيذيّة ما التزمت «الحياد» في زمن ومكان ما. والحال أيضا أنّ كلّ الخطوط الحمر المتّصلة بحرمة القضاء واستقلاليّته باعتباره ضامنًا دستوريّا لـ»إقامة العدل، وعلويّة الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريّات» قد هوت في قاع بلا قرار منذ أعوام عديدة. في السياق ذاته تندرج أيضا الدعوة التي وجّهتها «الجمعيّة التونسيّة للقضاة الشبّان» سابقا إلى القضاة والهياكل القضائيّة إلى «الاستقالة الجماعيّة أو اتّخاذ قرار الإضراب المفتوح في صورة حلّ المجلس الأعلى للقضاء». فمع ضرورة احترام القضاة المتعفّفين عن السقوط في متاهات التوظيف السياسي والحزبي للأزمة الراهنة، فإنّه يبدو من المستبعد أوّليّا أن ينساق جلّ القضاة والمحاكم وراء تلك الدعوات، نظرا إلى توقّع أو رغبة الكثير من «ضحايا» الممارسات السابقة للمجلس سقوطه منذ زمن، وكذلك خشية الانعكاسات الماليّة التي تقضي باقتطاع آلي لأيّام الإضراب من الأجر الخام، أسوة بما أقدمت عليه الحكومة الحاليّة في أكثر من قطاع.
نضال للحساب الخاص
لا يخفى طبعًا أنّ مواقف بعض ذوي الصلة بالجسم القضائي تعود إلى اعتبارات غير مبدئيّة، كالانسياق وراء القطاعيّة الساذجة التي تغمر البلاد أو من قبيل الدفاع عن الذات واستباق ما هو آت عملا بمَثَل ابن المقفّع المأثور القائل «أُكِلتُ يومَ أُكِل الثورُ الأبيض»… فمن المضحكات المبكيات أن يصرخ أحد القضاة قائلًا، في أحد البرامج التلفزيونيّة، إنّ «القضاء أشرف وأطهر قطاع في البلاد، وإنّ ما يُروّج عن انتشار الفساد في الجسم القضائي هو أبعد ما يكون عن الحقيقة والواقع، وإنّ ذلك من قبيل الشيطنة التي يمارسها المتضرّرون من إعمال العدالة».
وحتّى لا نُقرّ بأنّ المجلس الأعلى للقضاء شكّل منذ إرسائه أحد أهمّ علل الانتقال الديمقراطي والأسباب العينيّة للأزمة الراهنة، فإنّه من الثابت على الأقلّ أنّ المجلس بهيئته الحاليّة لم يُقدّم شيئا لا لخدمة المرفق القضائي وضمان إقامة العدل وترسيخه ولا لاستقلاليّة القضاء والقضاة ولا لمصالح البلاد عموما.
من الأجدى طبعًا ألّا نقف عند ردود أفعال بعض الجهات الحزبيّة والسياسيّة، على غرار جماعة «مواطنون ضدّ الانقلاب»، باعتبار أنّ مواقفها وآراءها ومرجعيّاتها وحساباتها السياسيّة معلومة حتّى قبل أن تجمع شتاتها لإصدار بياناتها ذات المضامين المألوفة. فعلى الرغم من أهميّة حراكها في فرض ضغوط على رئيس الجمهوريّة لتحذيره من مغبّة ضرب الخيار الديمقراطي والانحراف بالبلاد نحو منوال الحكم الفردي المطلق، فإنّها ما انفكّت تسقط في بيع الأوهام للحساب الخاص، حتّى بدت بمثابة من يستبق احتمال هطول المطر باتّهام خصومه بأنّهم تسبّبوا في حالة الجفاف السائدة.
لا غرابة إذن في القول إنّ قضيّة حلّ المجلس الأعلى للقضاء برمّتها لا تعدو أن تكون سوى «زوبعة في فنجان»، بل تشكّل في صميمها السياسي والسياسوي أحد الأخطاء التكتيكيّة التي ارتكبها رئيس الدولة. وعلى الأرجح أنّه دفع اليوم ثمنها، ضجّة سياسيّة جديدة تبدو البلاد في غنى عنها، وتدخّل أجنبي لا يخدم مصالح الدولة على غرار تصريح الناطق باسم وزارة الخارجيّة الأمريكيّة نيد برايس أمس، عبّر فيه عن القلق العميق للولايات المتحدة من قرار رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد حلّ «أعلى سلطة قضائيّة في البلاد». الإشكال القائم ههنا أنّ البلاد برمّتها بصدد دفع فاتورة باهظة لأخطاء جسيمة متكرّرة. فلو أقدم الرئيس سعيّد على حلّ المجلس الأعلى للقضاء، يوم 25 جويلية 2021 أو خلال الفترة القليلة اللاحقة، لمرّ الأمر من دون تعميق الأزمة الراهنة…
ثمن الصلاحيّات المطلقة!
هكذا مَكّن الرئيس قيس سعيّد نفسه إذن من تجميع كافّة الصلاحيات الممكنة لممارسة الحكم، انطلاقا من ضمّ الصلاحيّات التنفيذيّة لرئيس الحكومة، ومرورا بممارسة السلطة التشريعيّة عبر المراسيم الرئاسيّة التي يرتئيها، ووصولا إلى استبعاد الهياكل المنافسة التي يراها بمثابة حجر عثرة أمام تفعيل مختلف خياراته السياسيّة، على غرار الهيئة الوقتيّة لدستوريّة القوانين والمجلس الأعلى للقضاء.
والأكثر من ذلك أنّه، على خلاف تحرّكات معارضيه القلّة، أبدت العديد من الجهات تفهّمها الضمني لقرار رئيس الدولة بشأن المجلس، مثل عميد المحامين إبراهيم بودربالة ورئيسة نقابة القضاة التونسيّين أميرة العمري التي شدّدت على أنّ «القضاء ليس في معركة مع رئيس الجمهورية قيس سعيد»، وأنّ النقابة «مع إصلاح حقيقي للسلطة القضائيّة بما يتماشى مع مصلحة البلاد ومصلحة الشعب»… وأنّها «لا تدافع عن الأشخاص، ومن قام بشيء يجب أن يحاسب، وليس هناك أيّ أحد فوق القانون قاضٍ كان أو سياسي أو رجل أعمال أو أصحاب نفوذ».
هكذا رمت رئيسة نقابة القضاة الكرة في شباك رئيس الجمهوريّة نفسه، علّه يُظهر للتونسيّين اليوم قدرته غير المرئيّة على ضرب أوكار الفساد ومحاسبة الفاسدين وتفعيل شتّى الإصلاحات الأخرى التي كثيرا ما تعهّد بها، دون أن يستشعرها «الشعب الذي يريد» إلى حدّ الساعة.
ففي اللقاء ذاته الذي جمعه برئيسة الحكومة أمس وأعلن خلاله عن حلّ المجلس الأعلى للقضاء، توعّد رئيس الجمهوريّة مجدّدا من يقف وراء «مسالك تجويع التونسيين» و»من يحتكر السميد والفارينة والأدوية سيعلمون أي منقلب ينقلبون»، مؤكّدا من جديد ومرّةً تلو المرّة أنّه لن يترك هؤلاء «يعبثون بقوت الشعب وسيتم قريبًا النظر في مراسيم تاريخيّة» للغرض.
وفي المحصّلة، فإنّه لم يعد يخفى عن الجميع أنّ الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة لعموم التونسيّين لم تتحسّن، ولو قيد أنملة، بعد قرارات 25 جويليّة وما تلاها. فبالإضافة إلى العجز البيّن عن مكافحة الفساد وضرب كبار الفاسدين، بات من الثابت أنّ العديد من الخدمات والمواد الحيويّة قد التهبت أسعارها وارتفعت بشكل جنوني غير مسبوق وأدّت إلى ارتفاع نسب التضخّم وتراجع مهول للقدرة الشرائيّة سواء للطبقة المتوسّطة أو للفئات الفقيرة والمحرومة. وحتّى إن حدثت تلك المضاربات بفعل فاعل وخطط مدروسة بهدف إفشال مساعي الإصلاح التي يرومها رئيس الدولة، فإنّ سعيّد الماسك لوحده بصلاحيّات ما أنزل الله بها من سلطان أمسى اليوم يتحمّل المسؤوليّة الأولى والأخيرة للإيفاء بتعهدّاته وإخراج البلاد من عنق الزجاجة، لاسيما في ظلّ ما يلوح من تراجع خطير للحريّات الفرديّة والعامّة. وهو ما يلزم رئيس الدولة نفسه بالالتزام بتفعيل مقتضيات العبارة التي ردّدها أمس في اتّجاه أن يكون كما القضاء «في مستوى اللحظة التاريخيّة»…
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 8 فيفري 2022