الشارع المغاربي: نشر الأستاذ أحمد نجيب الشابي مؤلّفا جمع فيه نتفا من مسيرته السياسيّة الى جانب آرائه حول مستقبل البلاد في حوالي 415 صفحة. واللافت للانتباه أن الكتاب يتميّز عمّا نشر سياسيو ما بعد 2011 من نواح متعدّدة أبرزها الناحية التاريخية حيث كشف الكثير من المواقف التي اتُّخذت والتي كان لها تأثير كبير على مستقبل البلاد وعلى الهوان الذي عليه الوطن اليوم بحيث صحّحت تقييمنا لبعض الذوات من ناحية. ومن ناحية أخرى كشف الكتاب عن امتلاك صاحبه خلفية ثقافية لا نجدها لدى الذين احتلّوا المنابر الإعلامية خلال العشرية الأخيرة. وإن لم يذكر المؤلف مصادره وهي نقيصة كان من الممكن تلافيها فإن تناوله المفاهيم وسرده للأحداث التاريخية والربط بينها كفيل بتأكيد ما أقول.
ولأن الكتاب ثري فإن مناقشة بعض ما ورد فيه تصبح ضرورية وحتمية خصوصا منها ما يتعلق بحركة النهضة، حيث أورد الأستاذ جملة من المواقف والآراء التي تحتاج إلى تصويب في ما يلي بعضها:
1) في حديثه عن بدايات حركة الاتجاه الإسلامي ذكر في الصفحة 291 ما يلي: “وكان الغنوشي في تلك الفترة يشدّد على أنه ضدّ العنف والعنف المضادّ مما جعل السلطة تغضّ الطرف عن تحركاته، لكنها ظلّت ترصدها للتحقق من حقيقة أهدافه”. أما الوثائق فإنها تفيد بأن الغنوشي كان داعية للعنف منذ بداياته وإن لم يصرّح بذلك علنا فإن كتاباته ومنشورات دار الراية التابعة لحركته تؤكد ذلك. ففي مقال له ورد ما يلي: “ويبدو أن ما يطلق عليه اليوم بلجنة الخميني وهي القائمة على حراسة النظام والتصدي لأعداء الثورة من اليساريين وملاحقة أنصار النظام السابق هو صورة من صُوَر الجهاز السري للإمام، وكما كان للخميني تنظيمه السري كان للبنّا كذلك”(1). وقال في حديثه عن السلفية: “ونعني بها استمداد الإسلام من أصوله دون تعصّب لِما جدّ عبر التاريخ من نظريات وفهوم… ومن مقتضيات هذه السلفية محاربة العقائد الباطلة والخرافات ممّا يعرّض أبناء الحركة الإسلامية لتهمة الوهابية”(2). وغير ما ذكرنا من استشهادات تعجّ به منشورات الحركة كما أن ممارساتها منذ البداية كانت عنيفة تجاه مخالفيها سواء كانوا من المنتسبين للفضاء الإسلامي كالمرحوم طيب الذكر حسن الغضباني(3) أو من مخالفيها والجميع يذكر أن أوّل من أدخل العنف إلى الجامعة ومارسه حتى ضدّ الأساتذة هم طلبة الاتجاه الإسلامي واحتجازهم يوم 20 فيفري 1981 العميد علي الحيلي رحمه الله مثال على ذلك، علما أن مجرّد التلويح باستعمال الدين في السياسة يؤدّي حتما إلى التشريع للعنف وإباحة استعماله لأننا في هذه الحالة نخرج من دائرة الخلاف في المواقف التي تقبل الأخذ والردّ إلى دائرة الإيمان الذي لا مفاصلة فيه فإما أن يؤخذ جملة أو يرفض جملة وهو المعنى الذي تفطن اليه عبد الله بن المقفع فصاغه في قوله: “إن الدين يسلم بالإيمان، وإن الرأي يثبت بالخصومة، فمن جعل الدين خصومة، فقد جعل الدين رأياً، ومن جعل الدين رأياً فقد صار شارعاً (مشرّعاً)، ومن كان هو يشرّع لنفسه الدين فلا دين له”. والذي نخلص إليه أن العنف ليس اختيارا لدى الحركات التي تخلط الدين بالسياسة بل هو النتيجة اللازمة والحتمية لهذا النوع من الخلط بين الثابت الذي هو الدين والمتغيّر الذي هو السياسة، والحركات الإسلامية جميعها تسعى إلى تثبيت المتغيّر ضمن عقيدتها كرها وإجبارا والأمثلة على ذلك تندّ عن الحصر.
2) في حديثه عن آثار الثورة الإيرانية على حركة النهضة قال الأستاذ: “ومن نتائجه أيضا تحوّل الموقف من اتحاد الشغل ومن الإضرابات وغدت الحركة تقيم الاحتفال بعيد العمال في الجوامع فانتظم حفل بجامع صاحب الطابع في غرة ماي 1980 حضره أكثر من خمسة آلاف شخص…”(4). ونجيب الشابي ينقل في ما ذكر عن راشد الغنوشي(5) حرفيا دون تثبت لأن الأخير دلّس الأحداث وافتعل التواريخ ليصل إلى نتيجة مفادها أنه تصالح مع النقابة والحال أن الحفل المتحدّث عنه لم يقع سنة 1980 بل سنة 1981 يوم السبت 2 ماي ولم يكن للاحتفال بعيد الشغل بل كان بمناسبة إلقاء الغنوشي محاضرة عن الملكية الزراعية في الإسلام وفي هذا الاحتفال لم يرد ذكر للعمال أو حقوقهم أو أي من متعلقات العمل النقابي لأنها قدّت على عجل استجابة لِما فرضت الثورة الإيرانية من ضرورة الخروج من الخطاب الدعوي الأخلاقي إلى خطاب يلامس الحاجات المادية والاقتصادية للمؤمنين وهو المعنى الذي ذكره الغنوشي في ذات المقال بتخف واحتشام اذ قال: “وتبنت المساجد القضايا الاجتماعية والسياسية في إطار إسلامي يرسخ الإيمان”(6) . وللعلم ما زالت هذه المحاضرة مخطوطة لحدّ الآن وهي تقع في 11 صفحة مكتوبة على الآلة الراقنة بحرف صغير ولم تنشر إلا مرة واحدة في الكويت سنة 1992. أما بالنسبة لعلاقة الحركة باتحاد الشغل فهي علاقة عداء للعمل النقابي عموما ولاتحاد الشغل خصوصا وموقفها من “الخميس الأسود” معلوم للجميع ولم تعتذر عنه الحركة لحدّ الآن. ففي مقال لراشد الغنوشي عنوانه “نظرات حول الديمقراطية في المغرب العربي” نُشر في العدد الأوّل من مجلة “الإنسان” الصادرة بباريس سنة 1990 أي بعد خروجه من تونس كشف سبب عدائه لاتحاد حشاد و: “والحركة النقابية حركة قديمة شريكة في النضال الوطني، وعلى أساس التحالف بين الحزب الدستوري وبينها قامت الدولة، فالدولة الحديثة في تونس هي أساس نتيجة تحالف على أساس ثقافة التغريب بين الاتحاد النقابي وبين النظام البورقيبي”(7) الأمر الذي يعني أن موقف الفرع المحلي للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين من الشغالين ومنظمتهم ليس إلا امتدادا لعدائه لدولة الاستقلال. هذا المعنى يؤكده الغنوشي مرة أخرى حيث يعتبر أن قيم التحرر في تونس تستلزم أن “يتخلص الإسلام من الإعاقة الزيتونية كما يتخلص الإتحاد من الإعاقة التغريبية”(8). وحتى بعد سنة 2011 لم يتوقف هذا العداء إلى يوم الناس هذا رغم تغير الأوضاع والمعادلات السياسية. فهل ننسى رمي الأوساخ أمام مقرات الاتحاد والهجمة الجاهلية عليه سنة 2012 ولجنة التحقيق التي أنهت مهمتها دون التوصل إلى نتيجة وإنشاء المنظمة التونسية للشغل التي وضعت الحركة على رأسها أحد المنتسبين اليها ولأنها ولدت لغير مصلحة الوطن بقيت كسيحة ولم يتجاوز تأثيرها حدود الوقفات الاحتجاجية التي ينظمها الأيمة التابعون لحركة النهضة الذين لم نسمع لهم حسًّا إلا عندما عزل الجوادي أو عندما عُيِّن الشيخ بطيخ وزيرا. لذا لا يمكن أن نصدّق أن تغييرا ما حصل في المسألة إلا بعد نقد ذاتي علني وصريح واعتذار عمّا ارتكب هذا التنظيم في حق اتحاد الشغل وفي حق العمال قبل سنة 2011 وبعدها وعلى الاتحاد أن يكون حذرا في تعامله مع هذه النحلة فجانبها لا يؤمن له.
3) أمّا ثالثة الأثافي وأخطر ما جاء في الكتاب فقول الأستاذ في الصفحة 306: “يمكن للقوى الحاملة للمشروع الديمقراطي أن تواصل حتى تتحرّر الحركة الإسلامية من موروثها السلفي فتتحوّل حقا إلى حزب محافظ ذي خلفية دينية متناغم مع القيم التحررية للديمقراطية الحديثة”. وجب في البداية أن نحدّد معاني المصطلحات المستعملة ودلالاتها وحدودها. فـالحركات الإسلامية جميعها وبلا استثناء لا يمكن تصنيفها ضمن الأحزاب لأنها جمعيات دينية يقوم الانتماء فيها على الإيمان أوّلا وعلى طاعة الشيخ ثانيا وهو المعنى الذي ذكره لطفي زيتون عند حديثه عن شروط العضوية في الحركة اذ قال: “القيادة هي التي تختار من ترشحهم وكل منطقة ترشح مجموعة من الأعضاء وفي ما بعد تقع الغربلة على المستوى المركزي وتختار مجموعة تطرح عليهم المسألة وهي أنهم مرشحون لأداء البيعة والالتزام ومن يريد أن يرفض يرفض منذئذ …. وهناك من حصلت لهم صدمات فهم يظنّون أنفسهم ملتزمين في الحركة ثم تبيّن للواحد أنه ليس عضوا فيقوم برد فعل سلبي ينفعل ويقول (ماذا كنت إذن لأصبح الآن عضوا !!)”(9). أما الأحزاب فهي تنظيمات يجتمع فيها المنتسبون اليها على أساس برنامج تتمّ مناقشته والنظر فيه بالإضافة أو بالإنقاص أو التغيير. فمبنى الانخراط في هذه الحالة القناعة وليس الإيمان، المخالف في التنظيمات الدينية كافر أو مرتد لأن الإيمان إما أن يقبل كله أو يرفض كله. فتطبيق الشريعة قضية إيمانية وآيات المواريث عقيدة لا مجال لتغييرها والتكفير وصف رباني لكلّ من خالفهم ووثيقة “الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة النهضة التونسية” التي أجيزت في مؤتمر سنة 1987 وما زالت لحد الآن معتمدة كواحدة من أهم وثائق الحركة ترفع سلاح التكفير في وجه كل مخالف. بعد كل هذا هل يمكن لعاقل أن يتصور أن حركة النهضة يمكن أن تتخلص من عقيدتها؟ ألا يعني ذلك أنها تهدم البيت على من فيه؟.
والذي نعيشه اليوم يؤكّد أن الإخوان لم يتغيّروا ولكن الذي تغيّر هم الذين يُسمّون أنفسهم بالقوى الوسطية والمدنية والديمقراطية وغيره من ساقط القول الذين توهّموا أن دفاعهم عن حقوق الإنسان يجب أن يشمل الجميع دون استثناء والحال أن الحركات الدينية لا تؤمن بحقوق الإنسان بل بحقوق المؤمن بما تعتقد هي. ذلك أن التكاليف والحقوق جميعها هي للمؤمن بحكم إيمانه وليس للإنسان بحكم إنسانيته وتأملوا مليّا دستور 2014 وخطاب حركة النهضة الذي يشترط الإسلام ليستقيم معنى المواطنة، وما لم يفكّ الارتباط بين الدين والفضاء العام فإن الخروج من هذا المأزق التاريخي مستحيل.
————–
الهوامش
1) مجلة المعرفة العدد 4 السنة الخامسة، أفريل 1979.
2) المصدر السابق.
3) انظر دراسة لنا بعنوان “حقيقة الخلاف بين حسن الغضباني وراشد الغنوشي (قراءة في الوثائق)” في “أعلام وقضايا” دار آفاق برسبكتيف للنشر تونس 2015 ص186 وما بعدها.
4) “المسيرة والمسار، ما جرى وما أرى” أحمد نجيب الشابي، نشر كلمات عابرة تونس 2022، ص293.
5) “من تجربة الحركة الإسلامية في تونس” راشد الغنوشي، دار المجتهد للطبع والنشر، طبعة تونس الأولى 2011 ص56.
6) المصدر السابق نفس الصفحة.
7) مجلة الإنسان، شهر مارس 1990 ص68.
8) “من الفكر الإسلامي في تونس” راشد الغنوشي، دار القلم الكويت 1992، ج2 ص121.
9) “سيرة ابن نقابي عاشوري أصبح نهضويا” لطفي زيتون، دار آفاق برسبكتيف للنشر، تونس 2017، ص89.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 12 مارس 2022