الشارع المغاربي-أنس الشابي: أعلن وليد جلاد في “جوهرة أف أم” عن وفاة حزب “تحيا تونس” متحدّثا في ذات الوقت عن جزئيّات وتفاصيل آنيّة متوهّما أنها السبب في ما آل إليه حزبه من هوان كحديثه عن خلاف داخله حول قرارات 25 جويلية ومراسيم 22 سبتمبر وغيرها والحال أن الأحزاب لا تندثر إلا لأسباب وجيهة ومعلومة لدى الجميع كأن تخون منظوريها وتنكث بتعهّداتها أو أن تعقد تحالفات أو جبهات غير مبدئية مع من هو نقيض لها. جملة هذه الأسباب وغيرها توفّرت في عدد من الأحزاب التي لم يعد لها حتى مجرد الذكر في الساحة السياسية اليوم خصوصا منها تلك التي تحالفت أو تعاملت مع حركة النهضة بعد سنة 2011. وقد مثّلت النهضة لعنة الفراعنة التي تؤدي إلى وفاة كل من يقترب منها والأمثلة على ذلك لا عدّ لها ولا حصر. يكفي أن نذكر الأحزاب التي شاركتها في الحكم خلال العشريّة السوداء وما عليه حالها اليوم التي تتراوح بين الموت السريري أو التشرذم كأحزاب التكتل والمؤتمر والتيار وحزب العيادي وحزب النداء وما تناسل منه كالمشروع وتحيا ونداء الحمامات ونداء المنستير والمبادرة وقلب تونس وغيرها من المسمّيات التي لا يعرف عدّها حدّا. والتساؤل الذي يطرح نفسه لماذا تنهار الأحزاب التي تتعامل مع حركة النهضة بسرعة؟ ولماذا لم يصمد أي واحد منها رغم رفعه شعارات تجد القبول لدى الناخبين مثلما حصل مع حزب النداء في انتخابات 2014 ؟ وهل أن سبب السقوط يعود إلى طبيعة البنية الفكرية التي تصدر عن حركة النهضة أو إلى الأحزاب التي تهرول للتحالف معها ؟
في تقديري أن أسباب ذلك متعدّدة منها ما يتعلق بالبناء الحزبي ذاته ومنها ما يهمّ حداثة التجربة الحزبية العلنيّة في البلاد ومنها ما يلامس ضعف الفكر السياسي ومحاصرة النخب الوطنية ومنعها من الظهور ومن التواصل مع المواطن العادي لتبسيط المفاهيم وتقريبها منه والإصرار على إظهار ذوي البضاعة الفكرية والسياسية المتواضعة تسطيحا للخطاب وانحرافا بالوعي الجماعي إلى مشاحنات سياسية توهم بوجود معارك ولكنها لا تنتهي إلى نتائجها المنطقية والعلمية. فقد عرفنا خلال العشريّة السوداء ارتفاعا في منسوب العراك مع النهضة ولكنه لم يخرج عن إطار السباب والشتم ولم يتجاوز ذلك إلى تعرية الخطاب وتفكيكه وردّه إلى أصوله حتى يكون الموقف مبنيّا على معرفة وتقدير سليمين. لكل ذلك بقيت المواقف السياسية للذين تعاملوا مع حركة النهضة مبنيّة على ما هو آني ومتغيّر وسطحي مكتفية بقولهم الملفوظ والمتغير حسب الظروف دون تثبت أو ردّ إلى أصوله. فمنذ أن أنشأ حسن البنّا حركة الإخوان المسلمين سنة 1928 اتخذ موقفا معاديا للأحزاب جميعها وهو الموقف الذي تتبنّاه كل الحركات الإسلاميّة ومن بينها حركة النهضة. يقول الغنوشي: “إن المتتبّع بقلب سليم جملة نصوص الإمام حول موقفه من الأحزاب يدرك بجلاء لا غبش فيه أن التعدّد الحزبي – على الأقل بالنسبة إلى الأمم الناشئة – غير جائز وأنه إذ يدعو إلى اعتماد النظام النيابي لا يرى ضرورة للتعدّد الحزبي، فهو لا يدعو إلى حل أحزاب فاسدة لإحلال أحزاب وطنية فاعلة محلّها بل يدعو إلى حلّ الأحزاب وإحلال حزب واحد محلّها يجمع قوى الأمة…. إن حديث الإمام ولئن تنزل في ظروف خاصة بمصر فإن سياقه العام يتجاوز الظرف ليندرج ضمن قواعد النظام الإسلامي… وإن الأحزاب المذمومة يقابلها حزب واحد هو حزب الله”(1)هذا الحزب الذي سمّاه الغنوشي بحزب الله هو الذي يدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويشمل مختلف التنظيمات الإسلامية كحزب التحرير والقطبيين والقاعدة والدواعش وبوكو حرام والسلفيين الذين يذكرونه بشبابه وغيرهم يقول: “وأولئك هم حزب الله وإن تنوّعت أساليب عملهم وكثرت جماعاتهم واجتهاداتهم وتناءت بهم الديار…. فهم جميعا إذن حزب الله”(2) وحزب الله مأمور بإحياء دولة الخلافة يقول: “إن الخلافة…. هي الثمرة الطبيعية لعقيدة التوحيد الإسلاميّة تبقى هدفا لجهاد الأمة ولا يصحّ لها التنازل عنه بل ينبغي السعي إليه بتدرج عبر أشكال مرنة من الوحدة”(3) ومن الجدير بالملاحظة أن الحركات الإسلامية جميعها وبدون استثناء تخفي حقيقة أهدافها ولا تظهرها خصوصا لمّا تكون في حالة ضعف ولكنها إن استقوت بالسلطة مثلما حدث لدينا فإنها تظهرها حسب الظروف وهي في مختلف الأحوال تتّجه إلى التلبيس على خلق الله وإظهار غير ما تبطن. يقول الغنوشي وانتبهوا إلى ذلك جيدا: “إن الديمقراطية ليست أداة وصول إلى الحكم الإسلامي وإنما تقدّم إطارا جيدا للدعوة والمشاركة وإنضاج البديل الإسلامي… قد يكون شعار (الحرية وحقوق الإنسان) مدخلا أنسب للتغيير من شعار الشريعة”(4) وهو الكلام الذي أعاد نشره بين الناس في خطاب شهير له بتطاوين أثناء مناقشة مسودّة الدستور حيث اعتبر أن الإصرار على إضافة فصل تطبيق الشريعة أو التنازل عن بعض المواقع الوزارية في غير محله لأن المعارضة قوية والأفضل ترك ذلك مؤقتا إلى أن تنضج الأمور لصالحهم(5). فإحياء الخلافة أيا كانت تسمياتها كأن تكون تطبيق الشريعة أو تكفّل الدولة بممارسة الشعائر الدينية أو محاولة إعادة الأوقاف وإنشاء صناديق الزكاة وغير ذلك مثلت جميعها المهمّة الإستراتيجية التي تستهدف تحقيقها كل الأحزاب التي تخلط الدين بالسياسة أيا كانت تسمياتها وتقوم على:
1) تقسيم المجتمع السياسي إلى فسطاطين فسطاط حزب الله وفسطاط حزب الشيطان وهو ما يمثل الترجمة العمليّة لتكفير المخالف بحيث ينتقل هذا الحكم من وصف الأفراد إلى وصف الجماعات ومن إطاره الديني إلى إطار آخر لا علاقة له به وهو الإطار السياسي حيث الخطأ والصواب وليس الإيمان والكفر قاعدة التعامل بين مكوّناته.
2) التعامل بانتهازية كاملة مع كل القضايا والمسائل بما يحفظ أساسا الجماعة ويمكنها من مواقع القوة والنفوذ ولو كان ذلك على حساب الدين والأخلاق والتعهدات.
على هذين الأساسين والقاعدتين تعاملت حركة النهضة مع الآخرين ولم تلتزم بأي وعد من وعودها في مختلف المراحل التاريخية التي مرّت بها. من ذلك أن جماعة 18 أكتوبر نشرت وثيقة التزمت فيها النهضة باحترام مجلّة الأحوال الشخصية ولكنها لما وصلت إلى الحكم بعد سنة 2011 تراجعت ونكصت على عقبيها. وقد نشر حمة الهمامي أحد محرّري هذه الوثيقة بكائية ذكّر فيها الحركة بالتزاماتها قائلا:”إن حركة النهضة ترتدّ أيضا بموقفها الحالي عمّا كانت التزمت به منذ سنوات صلب هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات التي تكوّنت إثر إضراب جوع أكتوبر 2005. وقد كانت هذه الهيئة أصدرت عام 2007 بمناسبة اليوم العالمي للمرأة (8 مارس) إعلانا حول حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين وقّعه من جانب حركة النهضة بعد مصادقة قياداتها في المهجر والداخل عليه كل من علي العريض وزير الداخلية الحالي وزياد الدولاتلي الذي يشغل حاليا منصبا قياديا بالحركة وعضوا بالمجلس التأسيسي”(6). أما توافق الغنوشي مع النداء فقد لخصه بعد موت الباجي قائد السبسي بقوله إن حاله فيه يشبه حال الملاكم الذي يحتمي بجسد خصمه الأقوى حتى يتفادى ضرباته. هكذا تتعامل النهضة مع الآخرين ممّن يكتفون بقول من هنا وتصريح من هناك حتى يبنوا تحالفات أو توافقات هي في واقع الحال تبعيّة مبنيّة على جهل مطبق بحليفهم وبمصادره الفكرية، ولهذا السبب بالذات اندثرت كلها بلا استثناء وأفضلها حالا تشرذمت وأصبحت طرائق قددا.
فهل يدرك الذين يسارعون اليوم إلى الارتماء في أحضان حركة النهضة أنهم إلى حتفهم سائرون لأن الشعب لفظها بلا رجعة يوم 25 جويلية الفارط؟ وهل يعي قيس سعيد أن مشروعه القاعدي لن يجد السند من بؤرة القرضاوي وغيرها من البؤر الشبيهة لأنها لا تشتغل إلا لحسابها الخاص ولحساب مشغّليها وأنه في طريقه إلى فشل محتم ظهرت بوادره في الخيبة التي مني بها الاستفتاء الالكتروني وفي رفض النخب المشاركة في لجنة كتابة دستور جديد لجمهورية ثالثة في انتظار رابعة قادمة على مهل بعد انتخابات 2024.
————————
الهوامش
1) “الحريات العامة في الدولة الإسلامية” راشد الغنوشي، دار المجتهد للنشر والتوزيع، طبعة تونس الأولى 2011، ص289 و290.
2) مجلة “منبر الحوار”، العدد 19، السنة الخامسة خريف 1990، مقال “معالم في استراتيجية الدعوة الإسلامية” راشد الغنوشي ص9.
3) الحريات العامة، ص364.
4) مجلة “قراءات سياسية”، السنة الثالثة، العددان الثالث والرابع، صيف وخريف 1993، مقال “الإسلاميون والخيار الديمقراطي” راشد الغنوشي، ص124 و125.
5) رابطه كالتالي:
https://www.facebook.com/100053713693469/videos/1888676284528881
6) جريدة “المغرب”، بتاريخ 8 أوت 2012، ص6.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 31 ماي 2022