الشارع المغاربي: مرة أخرى تخفق تونس البلد الاستثنائي في تجربته الإصلاحية في تجاوز إشكالات القرن التاسع عشر في إعادة ترتيب العلاقة مع الدين وكان المؤمل أن تكون تونس هي رائدة هذا العالم العربي بسبب ما فتحه مؤسس الدولة التونسية الحديثة الحبيب بورقيبة وأجيال من المصلحين قبله من آفاق نحو روح المشروع الإصلاحي التونسي أي قيام دولة مدنية عمادها الديمقراطية والعقلانية وكان نص الدستور الذي أفاق عليه التونسيون موجعا ومؤلما ومحبطا في محاوره الأساسية من الفصل بين السلطات وسلطات رئيس الجمهورية والقضاء علاوة على ما شابه من سوء العبارة وسقم التوطئة التي لا تليق البتة بنص بمثل هذه الأهمية .
غير أنى سأتوقف عند باب اعتبره من أخطر الأبواب في هذا الدستور وأعنى المسألة الدينية التي نبهت منذ دستور 2014 إلى أن فيها مقتله إذ جمع وقتها بين الشيء ونقيضه بكيفية جعلته بمثابة سفينة نوح عاكسا توازنات تلك المرحلة السياسية ولم يشذ هذا الدستور الجديد فوقع في نفس المطب ولكن بكيفية أفدح وأخطر خصوصا في الفصل الخامس الذي جاء فيه أن «تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الاسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض والمال والدين والحرية” . وكأنه لم يكف ما عانت البلاد في زمن مضى من رغبة في توجيه البلاد إلى العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي وطريقة الجنيد السالك ومحاولة فرضها عقيدة للدولة حتى اطلت علينا هذه المرة مسألة مقاصد الإسلام ومقاصد الشريعة التي يجهل التونسي العادي أنها ظهرت بالأساس عندما أدرك المسلمون الازمة التي وصل اليها علم أصول الفقه وأسسه الاربعة وهي القرآن والسنة والاجماع والقياس بعد أن فشلت كل المحاولات لإيجاد الحلول لهذ النوازل التى لا تتناهى وأدركوا أخيرا مثلما قال السيوطي ” أنه لما نعلم قطعًا ويقينا أن الحوادِث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعد، ونعلم أيضًا أنه لم يرد في كل حادثة نَص ولا يُتصَوَّر ذلك أيضًا. والنصوص إذا كانت متناهية والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى؛ عُلِم قطعًا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار؛ حتى يكون بصدد كلِّ حادثةٍ اجتهادٌ” فتم اللجوء إلى القياس وكان يسميه الشافعي في بداية الامر بالاجتهاد ولكن فتح القياس بابا كبيرا أيضا للاختلاف بسبب مبحث العلة في تحديد الاحكام أو ما يسمى بلغة أصول الفقه بالمناط وطرق تحقيقه باليات السبر والتقسيم أي محاولة حصر العلة التي تؤدي إلى التحريم والحلية مثلا لأن هذه العلة هي بالأساس علة ظنية وليست برهانية أو منطقية فكان البحث في المقاصد التي اعتبرت بمثابة العلة القطعية وما كان مبحثا قديما وتطورا منطقيا لأزمة الأصول وجد فيه رجال الإصلاح ضالتهم حينما فاجأهم السياق التاريخي الجديد وأوروبا الثانية :أوروبا الرأسمالية في مرحلة الاستعمار واعتبروها العصا السحرية لإمكان مجاراة الإسلام للعالم الحديث في سياق البحث عن التقدم ومنذ تلك اللحظة صار الموضوع المفضل للإسلاميين بمختلف تلويناتهم فقد كتب فيه القرضاوي منظّر الاخوان والغنوشي في بعض خربشاته ونور الدين الخادمي وزير الشؤون الدينية السابق وصار من الوجهة السياسية بمثابة الحيلة المفضلة لهؤلاء للتهرب من استحقاقات الدولة المدنية القائمة على مبدأي الديمقراطية والعقلانية افقا وحيدا لخروج العالم العربي وتونس تحديدا من مناخات القرون الوسطى.
لقد جاءت نظرية المقاصد في الأصل لحل إشكالية نظرية وتقنية تتعلق بالبحث عن تعليل الاحكام ضمن التصور الإسلامي من خلال البحث عن العلة القطعية لوضع الاحكام الشرعية ولم يكن هدفها البتة الخروج عن الثوابت والكليات المستقرة التي تحكم المدينة الإسلامية من نوع هيمنة المسلم على غير المسلم وعلوية الإسلام على غيره من الأديان والقبول بقسمة العالم إلى دار إسلام ودار حرب ودار ثالثة مركبة كما يسميها ابن تيمية أو التفرقة بين المسلم والذمي الخ …. وهذا عين ما يلبس فيه المتمسكون بالمقاصد على خلق الله وهذه بعض الأمثلة على سبيل الذكر وقدر ما يتحمله المقام .
ففي ما يتعلق بمقصد حفظ الدين مثلا لا يجادل المتمسكون بنظرية المقاصد في باب الردة مثلا بوجوب قتل المرتد بعد الاستتابة ولمن لا يعرف فإن الردة عن الفقهاء الكلاسيكيين «حكم شرعي» يرجع كما يقول الغزالي إلى «اباحة المال وسفك الدماء» ومما يوجبه عند الفقهاء «كفر مسلم بصريح من القول أو قول يقتضيه أو فعل يتضمنه ….. أو أنكر مجمعا عليه مما علم بكتاب أو سنة أو جوز اكتساب النبوة أو سب نبيا أو عرض أو ألحق به نقصا وإن ببدنه أو وفور علمه وزهده». وقد اتخذ «قتل المرتد عند القدامى اشكالا عديدة كالحرق حيا وهو ما فعله أبو بكر ببعض المرتدين أو قطع الرأس بالسيف وعموما فمنهم – كما يقول الطبري – من أُحرق ومنهم من رضخ بالحجارة ومنهم من رمى به من رؤوس الجبال ورتب الفقهاء على هذا الإعدام أن تزول عصمة ماله عنه لأن المرتد تزول عصمة نفسه بالردة وكذلك تزول عصمة ماله لأنها تبع لعصمة النفس فتزول ملكيته عن ماله ولأنه معرض للقتل والقتل يؤدي به إلى الموت والموت تزول به الملكية مع خلاف بين الفقهاء هل يكون ذلك بأثر رجعي أم لا ، ويخضع ميراثه بعد قتله أو موته إلى ما يخضع له الموتى فيبدأ بقضاء دينه وضمان جنايته ونفقة زوجته» لأنها عند الفقهاء «حقوق لا يجوز تعطيلها وما بقي يكون فيئا لبيت مال المسلمين ولا يدفن في مقابرهم ويفرق بينه وبين زوجته بل يذهب بعض الحنفية والمالكية إلى انه إذا ارتد أحد الزوجين فلا حاجة لتفريق القاضي وإنما ينفسخ الزواج بينهما فسخا وهو ما لحق بالمفكر المصري نصر حامد أبو زيد في حادثة شهيرة ويعتبر في حكم الأموات اذا لحق بدار الحرب أي هذه الدار التي لا سلطان للمسلمين عليها. وعموما فهو بمنزلة الكافر الأصلي في ما يتعلق بالميراث. ولا يشذ الشيخ الطاهر بن عاشور شيخ المقاصديين في هذا الزمان وآخر الكلاسيكيين الكبار ومن أضاف مقصد الحرية إلى المقاصد الخمس السابقة المشهورة عن ذلك إذ يقول “وحكمة تشريع قتل المرتد- مع أن الكافر بالأصالة لا يقتل- أن الارتداد خروج فرد أو جماعة من الجامعة الإسلامية فهو بخروجه من الإسلام بعد الدخول فيه ينادي على أنه لما خالط هذا الدين وجده غير صالح ووجد ما كان عليه قبل ذلك أصلح فهذا تعريض بالدين واستخفاف به، وفيه أيضا تمهيد طريق لمن يريد أن ينسل من هذا الدين وذلك يفضي إلى انحلال الجامعة، فلو لم يجعل لذلك زاجر ما انزجر الناس ولا نجد شيئا زاجرا مثل توقع الموت، فلذلك جعل الموت هو العقوبة للمرتد حتى لا يدخل أحد في الدين إلا على بصيرة، وحتى لا يخرج منه أحد بعد الدخول فيه، وليس هذا من الإكراه في الدين المنفي بقوله تعالى.. لا إكراه في الدين [البقرة: 256] على القول بأنها غير منسوخة، لأن الإكراه في الدين هو إكراه الناس على الخروج من أديانهم والدخول في الإسلام وأما هذا فهو من الإكراه على البقاء في الإسلام”.
وقس على ذلك في مسائل كثيرة أخرى مثل أهل الذمة وتعارضها مع المواطنة وتولي الولايات العامة وغيرها من المسائل الحساسة رغم كل بهلوانيات المقاصديين ولهذا حق لنا أن نتساءل أية صلة يمكن ان تنشأ بين هذا الذي قاله الطاهر بن عاشور وبين حرية الضمير التي يجهلها الفكر الإسلامي والإسلاميون مطلقا؟ هذه الحرية التي كانت في الأصل مطلبا من مطالب الأقليات الدينية المنبثقة عن حركة الإصلاح اللوثري. ومن فشلها في انتزاع اعتراف الكنيسة الكاثوليكية ستنشأ مطالبتها بهذه الحرية حرية الضمير التي ستجد دعما قويا لها من فلاسفة القرن الثامن عشر ومن البرجوازية والأرستقراطية ذات المنحى الليبرالي والعقلاني التي ستجد انتصارها الفعلي بدءا من الثورة الفرنسية وميلاد المجتمع الحديث.
كما حق لنا أن نتساءل أية صلة يمكن ان تنشأ بين هذا الذي قاله الطاهر بن عاشور وبين حرية الاعتقاد التي نجدها في الفصل 27 ؟ فهل يحتاج هذا الدستور في كل فصل إلى ثان يسد ثغرات فصل سابق حتى يصير كعروس النبط كما يقولون؟ ألم يكن من الأجدر أن تتضح خارطة طريق النخبة السياسية التي تسيّر هذه الدولة وتقرر في أي مسار ستصير هل هو مسار الشريعة ومقاصدها؟ أم مسار حقوق الانسان وكونيتها وما اتصل بها من فلسفة ثاوية علما وان هذا الموقف من شيخ علماء المقاصد يعتبر أضعف تعليلا مقارنة بمذهب ابي حنيفة او تلميذه السرخسي الذي عاش قبله بقرون حينما اعتبر أن قتل المرتد لا توجبه الردة في نفسها وانما خوف الفقهاء من أن يتحول إلى محارب أو باغ خارج على سلطة الدولة وان الارتداد متى كان فرديا فلا خوف منه وانما الخوف أن يتحول إلى تنظيم مسلح ضد الدولة بمساندة.. التأول» أي أيديولوجيا مضادة للسلطة القائمة في لغتنا اليوم على ما وضحته في دراسة لي سابقة.
ثم إن من عيوب هذا الفصل الخامس الخطيرة تشديده على القول إن الدولة وحدها من تتولى تحديد الفهم الصحيح للمقاصد وفرح كثيرون بذلك واعتبروه فتحا عظيما اذ يقطع هذا في نظرهم الطريق على التكلم باسم الإسلام على الحركات الاسلاموية من الاخوان ومشتقاتهم كما يقف سدا منيعا ضد الجمعيات المتمعشة من هذا الرأسمال الرمزي وفاتهم أن هذا وهم. فالدولة ليست كيانا ماديا وانما ستوكل هذه المهمة إلى أجهزتها وأي أجهزتها قادر على ذلك إلا أن يكون مؤسسة الإفتاء والكل يعرف ما هي عليه من الضعف وقلة الحيلة وعدم القدرة على النهوض بهذا العبء ولم يبق الا أن يوكل ذلك إلى وزارة الشؤون الدينية وهي وزارة عشش فيها خريجو المؤسسة التي لم تقبل يوما بالخضوع إلى قيم النظام الجمهوري وهي مرتع للفكر الاخواني وبعض منتسبيها مشهورون بالكتابة في هذه المقاصد ومنها مقصد حفظ الدين والجهاد سنام الدين أرفع معانيه وتبعا لهذا المقصد عد الجهاد في سوريا وتدميرها واجبا دفعا للظلم والجور الذي قام به نظام كافر وفاسد ولقد قلنا اكثر من مرة أن النظام الجمهوري لا يمكنه أن يعول مطلقا على هذه المؤسسة بل عليه أن يصنع مؤسساته الاكاديمية الدينية التي منها سيولد اسلام جديد سيكون سندا لهذا النمط من التنظيم السياسي إسلاما لا يتنافى والدولة المدنية ولكنه إسلام لما يولد بعد مع الاسف
وعموما فعلى من يفكر بهذه الطريقة أن يدرك للمرة الأخيرة أن آخر محاولة لاحتكار الدولة للإسلام قد فشلت مع المأمون في محنة خلق القرآن التي انتهت زمن المتوكل الذي أدرك أن حمل الناس على مقالة في الدين رسمية أمر فاشل فقد كانت المحنة صراعا داخل الفضاء الديني الواحد من أجل “ميراث النبوة” صراع حول من يكون وريث الأنبياء هل هم الخلفاء أم العلماء. وما فشل المأمون ومن جاء بعده إلا دليل على فشل رجال الدولة في بلورة ما هو الإسلام؟ وتقديم تحديد له وما فشل الاعتزال هو أيضا في فرض تصور معين للإسلام إلا إيذان بفشل كل محاولة لتماهي العلماء بالسلاطين مستقبلا وإيذان باستقلال كل منهم بسلطته، فالصراع في المحنة كان في الواقع صراعا حول السلطة في مفهومها الواسع فتخلى العلماء للسلاطين عن الحكم Pouvoir في مقابل حصولهم على الحاكمية Autorité بمعنى أنه إذا كان السلاطين حكاما على الناس فان العلماء هم الحكام على السلاطين والناس جميعا. باعتبارهم ورثة الأنبياء. وإذا استطاع السلاطين ترويض العلماء مستقبلا فقد يفعلون ذلك بسلطة موازية لا بجزء من ماهية سلطانهم هم بالذات.
إن عيب هذا الدستور الأساسي هو أنه لا يزال يعكس التيه الذي عليه العالم العربي في المسألة الدينية ولا يزال اللاوعي العربي يفكر في وضع دستور لدولة حديثة بمنطق دستور المدينة وروح الدولة السلطانية والعقيدة القادرية ولم يفهم بعد معنى القانون الطبيعي وانبثاق الدولة الحديثة منه ومعها فكرة القانون ولا يزال يسعى إلى خلط المرجعيات ليخلق دولة مسخا ودستورا مسخا منذ قرنين من الزمان وهذه المقاصد التي يريدون تخديرنا بها لا علاقة لها بالحرية والمواطنة وحقوق الانسان ومن يريد دولة مدنية ديمقراطية وعقلانية فليرجع الدين إلى قمقمه ويكف عن وضع الحمل إلى جانب الذئب.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 5 جويلية 2022