الشارع المغاربي: تعالت الأصوات في المدّة الأخيرة وبتواترٍ مُمَنْهج مناديةً بضرورة الرجوع إلى العمل بدستور 2014، لأنّه هو المُنْقذ من “الضلال” الذي نعيشه، وهو “واحة الأمان” من الزيْغ عن المبادئ السامية، فَدُونَه خَرْط القَتَاد والحِياد عنه خَطيئة أصلية!
وما كانت هذه الأصوات لِتَرْفَع عَقِيرتها بذلك لوْلا المأزق الكارثي الذي نتخبّط فيه حاليا، لكن أن تسعى هذه الأطراف مجتمعةً، وإنْ تناسقت في توزيع الأدوار، إلى محاولة إحْياء العظام وهي رميم ، عظام دستور 2014 البالية، فهذه مسألة تستدعي التوقف فيها مليّا!
وذلك، لأنّ هذه الأصوات اعتقدت واهمةً أنّه بالإمكان استنساخ “أهل الكهف” من جديد ولو مؤقتا والرجوع بعقارب الساعة إلى الوراء!
لكن، ما فات هذه الأصوات أنّ زمن دستور 2014 كما زمنها قد ولّى وانتهى، وأنّ ما تقوم به حاليا من النفْخ في عظام المَوَات، إنّما رغبة يائسة منها في إعادة “عشرية الخراب” إلى الواجهة، وذلك للتدْليل المُضَلّل بأنّ الخراب الذي نعيشه اليوم لم يكن سببه أبدا حصيلة “مُنجزات” هذه الأصوات، بل يتحمّل وزْره قيس سعيّد، وأنّ عشريتها الفارطة هي الخلاص حاليا من خراب 25 جويلية 2021!
كذلك، ما فات كلّ هذه الأصوات مجتمعةً ودون استثناء، أنّ التونسي، وهو يعايش هذا الخراب الفارط / الحالي، فلا يعني ذلك، أنّه مستعدّ حَتْمًا ومجدّدا كي يَرْتميَ في أحضان الخراب السابق، والذي لم يسْتحِ بعد، ظنّا منه أنّ التونسي بإمكانه أن ينْسى أو يَغُضّ الطرَف عن “مصائب” العشرية الفارطة عندما يقارن وضعه الحالي بالسابق!
واعتقادنا أنّ التونسي “لا يُلْدغ من الجُحْر مرّتين”، فقد ولّت العشرية السابقة وانتهت وقُطع دابرها بكلّ ما تمثله من شخوص كانوا مُتَمَتْرِسِين فيها، ولا يمكن للتونسي أن ينْسى حجم “الجرائم” التي ارتكبت في حقه وفي حقّ أبنائه، ولن ينسى حتما حجْم الوهم الذي بِيعَ له، فناله منه العناء والتفقير، ولن ينسى التونسي أبدا، البعض على الأقلّ، كيف أنّه انساق مع هؤلاء الشخوص في معاول الهدم التي انهالوا بها منذ 2011 على كلّ البناء الوطني الذي شيّده آباؤنا وأجدادنا بتضحياتهم، فإذا به في الخراب “يتمرّغ” الآن!
وأَنَّى لنا أن ننسى أنّ دستور 2014 “المقبور”، كما يحلو للبعض من هؤلاء نعْت الزعيم الحبيب بورقيبة ناسين أنّ الأيّام دُوَلٌ، كان مفخّخا إلى حدّ التفجير، تفجير الدولة الوطنية باسم إنهاء الدولة المركزية، توهّما خاطئا أو عن قصْد منهم للتسويق بأنّ المركز صنْوٌ للاستبداد، وأَنَّى لنا أن ننسى أنّ دستور 2014 “المخلوع”، كما يحلو لشيخهم نعْت الرئيسين الراحليْن بورقيبة وبن علي، كان قد قُدّ بالإقفال المُطْبق، فأُغْلقت كلّ منافذه، وسُدّت كلّ فتحاته، هذا إنْ وُجِدَتْ أصْلاً، حتى لا يقع أيّ تعديل كان أو تغيير، إلاّ إذا ما وافقت “الذات العليّة” عليه، وحتى الاستفتاء حوله ممنوع، فكان أن حصل الذي حصل، لأنّ هؤلاء الذين تعوّدوا بالغلْق والانْغِلاق في سرائرهم وطبائعهم وسلوكياتهم، كانوا يظنّون ساذجين أنّ الأمر سيّان مع الدستور الذي قُدّ على المقاس ناسين أنّ وقْع الظرفية أقوى منهم جميعا!
وأَنَّى لنا أن ننسى أخيرا، بأنّ الخراب الذي عشناه وما زال متواصلا إلى الآن، بل استفحل أكثر، إنّما سببه الجوْهري دُسْتورهم، دستور 2014 الذي شَرَّع لعدم الاستقرار السياسي بل قَنّنه، فكان أن مكّن الأجيال القادمة من إمكانية محاسبتنا يوْمًا مَا حسابا عسيرا، وذلك على جيوش الوزراء والمستشارين وكتّاب الدولة والانتدابات…طيلة هذه العشرية التي مرّت علينا، والتي يُتبيّن من خلالها حجْم الهدْر ومدى الجُرْم والعبث الذي اقْتُرِف بِحَقِّ تونس، وستسْتحضر هذه الأجيال بالتأكيد صورة ألقاب جنرالات الجيش المكسيكي المفتقدين للجنود، أو “ألقاب مملكة في غير موضعها، كالهرّ يحكي انتفاخا صوْلة الأسد”!
وإِنْ كنّا نتفهّم دوافع تمسّك حركة النهضة بـ”أهْداب” دستورها، وعدم قدرتها إلى حدّ الآن على استيعاب أنّ زمنها كما زمن مرشدها قد انتهى فعلا، ولن يعود أبدا، لأنّه، ومثلما سبق أن أشرنا في الإبّان، قد “أُطردت” من أفئدة التونسيين التي حُصّنت تماما منها، ولن تتمكّن دعاية النهضة أو أيّ فصيل ينحدر منها من اسْتدراج التونسيين مرّة أخرى إلى مربّعهم، فهي قد جُرّبت فخَرّبت، إلاّ أنّنا نتفهّم أيضا تمسّك البعض الآخر بـ”أطْلال” دستور 2014، لأنّه لا معنى لوجوده دونه، أي هذا البعض، وذلك، كما كان طيلة العشرية السابقة. لذلك، التقى البعض موْضوعيا أو فعليا مع حركة النهضة حول هذه العظام الرميم يتباكون وينوحون حُكْمًا مُضَاعًا وامتيازات ولّت لم يحافظوا عليها تمامًا مثل بني الأحمر في غرناطة!
ومَنْ لم يستوعب هذه الحقيقة، حقيقة نهاية حقْبة كاملة بكلّ ما فيها وخاصّة بدستورها لسنة 2014 فسيستوعبها بالتأكيد يوما ما، لكن بعد فوات الأوان، وذلك على وقْع الطوفان الجارف، ومن الجليّ أنّ المناداة بإحْياء المَوَاتِ حتى مُنَاكَفَةً، إنّما يعبّر عن قِصَرِ نَظَرٍ واضح وعدم قدرة على تبصّر حقيقة ما يجري، والأهمّ من كلّ ذلك، تَعُدّ هذه المناداة حنيناً من أصحابها إلى سلوكيات لا واعية مترسّخة في وجداننا الجمْعي تقوم على البكاء على الأطْلال واللطْم والنحيب والعَويل على الماضي الذي لن يعود، أو على الميّت الذي لن يُبعث للوجود!
وينطبق ذات الأمر على هذه الحقبة التي نعايشها، ففي اعتقادي أنّها قاب قوسين أو أدنى من نهايتها، لكن لا يعني ذلك بالمرّة الرجوع القهقرى إلى ماضي دستور 2014 مهما كانت المواكب التي رأيناها منذ مدّة والتي تذكّرنا بمواكب لطْم الشيعة ندمًا على خذلان الحسين بن علي يومًا مَا، فهل نفعت هذه المواكب في إحياء عظام الحسين بن علي وهْي رميم؟!
صحيحٌ أنّ المنظومة النهضوية كما منظومة قيس سعيّد تقومان على إلغاء ما سبق واعتبار أنّ “التاريخ” يبدأ من 2010 / 2011، فكان أن أُلْغيت النهضة في انتظار منظومة قيس سعيّد!
صحيحٌ أنّ النهضة تعدّ الدولة المركزية والنظام الرئاسي عدوّها اللدود، لذلك اعتمدت النظام البرلماني/ المجلسي الذي إن تواصل وقتها، فإنّه كان سيفكّك حتما أوْصال الدولة ذاتها بعد أن بدأ في ذلك، وأحْيا النعَرات العشائرية والجهوية، عندئذ، ستقف النهضة فعلا على خرابها، وصحيحٌ أيضا أنّ قيس سعيّد يحبّذ الدولة المركزية ومشروعه القاعدي أيضا، وإن واصل في التقدّم حثيثا لتجسيمه على أرض الواقع، فإنّنا سنصل حتما إلى ذات النتيجة التي لاحت لدى نهاية حكم النهضة، وهي إذْكاء متزايد للنعَرات التي أيقظتها حركة النهضة ومن لفّ لفّها، لكن هذه المرّة مع نهاية الدولة في شكلها الحالي!
صحيحٌ أكثر أنّ حركة النهضة ظنّت نفسها مُخوّلة بتمْكِين ربّاني كي “تجْثم” على تونس إلى الأبد في سنة 2011، فكان أن أُطْردت، وصحيحٌ آخِرًا أنّ الرئيس قيس سعيّد يعتبر نفسه مفوّضا كي ينقذ تونس، لكن ممّن؟ من النهضة التي لن تعود؟ أم من مشروعه الذي سينهي حتما الدولة المركزية ؟ حتى وإن كان يعتقد العكس!
وذلك، ومثلما أسلفنا أكثر من مرّة في الإبّان، فإنّ قدرة قيس سعيّد الوحيدة على البقاء في الحكم والتفاف التونسيين من حوله، مرتبطة بتحسّن الوضع الكارثي للاقتصاد والمالية التونسييْن، لكن شيئا من هذا لم يحدث، بل ازداد الوضع الكارثي حِدَّةً على حِدّةٍ، وهو ما استغلّه معارضو قيس سعيّد أيّما استغلال، وإذا ما أضفنا إلى ذلك، رغبته الجامحة في المضيّ قُدُمًا في “مشروعه”، وفي “تمرير” دستوره الذي لا يمكن أن نعتبره إلاّ رئاسويا، وفي مواصلة إنكار ما أسميته في حينها بـ:” العزوف العقابي” خلال الدور الأوّل من انتخابات 17 ديسمبر 2022، وفي الرفض الحتمي لمبادرة بعض المنظّمات الوطنية، فإنّ أبواب المجهول ستُفْتح على مِصْراعيْها.
وذلك أخيرا، لأنّ استفتاء 25 جويلية 2022، لم يكن استفتاءً على الدستور قدْر ما كانت الفرصة الأخيرة التي منحها جزء كبير من التونسيين إلى الرئيس قيس سعيّد، كي يحقق المرجوّ منه آنذاك، والذي كان بسيطا جدّا، ألا وهو بصيص من الأمل والنور في العَتَمَة، وسبق أن قلنا في الإبّان أيضا بأنّ التونسيين سيحاسبون مستقبلا قيس سعيّد ولم تعد تعنيهم “أدبيات” عشرية الخراب…لأنّهم ، وببساطة، حسموا بعد في هذه العشرية ويتأمّلون أن تكون العشرية الحالية أفضل، فكان الإحباط منذ الاستفتاء وإلى الآن!
لذلك، ما الحلّ؟ هل يكمن في إحياء عظام العشرية الفارطة أو في التشبّث بأهْدَاب التوجّهات الحالية إلى الآخر؟ أيْ إلى المجهول!
في نظرنا، التغيير آت لا محالة! ولن يكون بالتأكيد من “الرميم” أو من “المشروع القاعدي”، فالفرْز قد بدأ بعد وإن لم تتوضّح ملامحه كثيرا، ولن يذهب بعيدا كسابقيْه وسيكون مصيره مثلهم إنْ لم يكن مؤمنا بالتراكم الإيجابي.
في الأثناء، “نرْجو لتونس رُحْمانا رحيما”! ونكتفي بذلك!
افتتاحية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 12 جانفي 2023