الشارع المغاربي: اليوم –وقد جد الجد –علينا نحن معشر التونسيين – هوية وهوى – أن نتدرع بالصبر، ونتحلى باليقظة والحزم وجميع الفضائل التي توجبها اللحظة التاريخية الراهنة. فيا تونس احذري !.و”جزى الله الشدائد كل خير”. فما ألمّت بالإنسان–فردا أو جماعة- مصيبة دون أن تفنيه إلا وكان له فيها خير كثير، إذ تهيئ له فرصة اختبار قوته الذاتية، وقدرته على التحمل. ومن لم يكن اليوم من أهل الصبر لن يكون غدا من أهل النصر. ولا ريب أن الشعب التونسي بلغ أرقى الدرجات في سلم المكابدة من أجل ثلاثيته المقدسة، الدفاع عن سلامة الوطن، وحفظ الدولة الوطنية، والسعي الجاد الى الارتقاء بها الى مصاف الدولة الوطنية الديمقراطية. وهو ما لا سبيل إليه الا بانجاز المطالب العالية التي رفعتها ثورة شباب مدرسة الجمهورية، في”الشغل والحرية والكرامة الوطنية ”.
*I*
أما حفظ سلامة الوطن فأمانة موكولة لجميع قواتنا المسلحة يتقدمها الجيش الوطني، وهي على العهد بإيمان واقتدار. وأما الدولة الوطنية، دولة الاستقلال فما زلنا نعيش في حماها، وقد أنجزت الكثير وان كان ما بقي عليها انجازه أكثر وأخطر. وفي مقدمة ذلك تجاوز مصاعبها، وتلافي سلبيات مسارها التاريخي، في اتجاه الارتقاء بالحرية الى مرتبة القانون الاسمي الذي يرأس جميع مؤسساتها، وهو ما اصطلحنا على تسميته بالانتقال الديمقراطي.
والوعي السياسي الصحيح إنما هو قبل كل شيء وعي بأنه لا معنى للحرية وبالتالي للديمقراطية الا بفكر ينشره نظام تربوي متين الأركان عالي الغايات. وعدالة مستقلة قائمة، واقتصاد مزدهر يقوده نمط تنموي يزرع الخير في جميع إرجاء الوطن.فلا مستقبل لشعب لا يأكل من مزارعه، ولا يلبس من مصانعه، ولا يذود عن حياضه بسلاحه. وذلك هو المعنى الحق لما نسميه بسيادة الدولة منذ غروتيوس Grotius، كبير علماء القانون الدولي في بدايات العصر الحديث. وما خلا ذلك فهذيان يتخذه العاقل وراءه ظهريا، وعنتريات لا يرجو عاقل منها خيرا.
وحين نتدبر هذه المسائل مجتمعة، دون انسياق الى خصومات سياسية ليست على شيء، او الاستسلام الى السهولة وقصر النظر، ندرك إدراك اليقين، انه قلّ أن توفرت لدولة من دول ما بعد الاستعمار ما توفر لتونس من أسباب الرقي الشامل، بفضل جهد وطني خالص يهتدي بقيادة سياسية لم يفل في عزمها تواضع الإمكانات وسوء الأوضاع الموروثة عن العهد الاستعماري.فقد واجهت الدولة الوطنية وضعا كان فيه أكثر من 50 بالمائة من الشعب تحت عتبة الفقر المدقع، فنزلت بها إلى 4 فاصل 6 بالمائة سنة 2011. وكان الأمل في الحياة عند الولادة –في ذات الفترة – لا يتجاوز 40 سنة، فارتقت به إلى 75 سنة. ويعود الفضل في هذا التحسن في الوضع الصحي -قبل أي كان – إلى بعث مدرسة الجمهورية. فقد تطور عدد المعاهد من 15 معهدا فقط سنة 1960 الى 1403 سنة 2011. وتبعا لذلك ازداد عدد الأطباء، فمر من 430 طبيبا في كافة التراب التونسي سنة 1960 الى 12932 سنة 2011. وهكذا توفر 122 طبيبا لكل 100 ألف ساكن بعد أن لم يكن ذلك يتجاوز 10 اطباء فقط لكل 100 الف ساكن سنة 1960. وعلى هذا فليُقس –دون أي إسراف– ما لم يُقل في بقية مجالات الحياة الوطنية كما نتبين ذلك من محاضر القاها الاخ العزيز عفيف شلبي ببيت الحكمة منذ سنتين. فهل من دليل أوضح من هذا –وغيره كثير -على قدرة شعبنا على تحقيق المعجزات الواقعية؟ وهل من دليل أوضح على خراب ضمير من ادعى ذات يوم من حكم الإسلام السياسي انه ”وجد تونس خرابا ؟”لله في خلقه شؤون !
وليس أدل على سلامة ما ذهبنا إليه من صمود الشعب التونسي لعشر عجاف شهدت فيها البلاد ألوانا من التخريب الفكري والأخلاقي والاقتصادي والسياسي بتدبير ماكر من ”الخوانجية” والتائهين في دائرتهم. ومما يشير بجلاء الى ما نومئ اليه ان مصاريف الدولة بلغت سنة 2010 مقدار 18مليار دينار وانها قفزت الى 43 الف مليار سنة 2020 دون تحقيق اي تحسن في الخدمات العمومية ولا حتى المحافظة على مستواها بما فيه من نقائص، بل شهدنا تدهورا مفزعا في جميع مجالات الحياة الاجتماعية. وقفزت كتلة الاجور في الفترة ذاتها من 6 فاصل 8 الى 17 الف مليار دينار مع الحاق اضرار فادحة بالمرفق العمومي خاصة بحكم اندساس الاف الموظفين غير المؤهلين فيه.
**II**
لذلك وجب الاعتراف –رغم أنف هواة تقزيم الذات الوطنية – بأن صمود الشعب التونسي أمام عشرية تخريب الوطن – يعد من قبيل المعجزات في تاريخ الشعوب وهو ما يقوم شاهدا عدلا على متانة الاسس التي انبتت عليها الدولة التونسية على أيدي بناتها وابنائها البررة، وفي مقدمتهم الزعيم الحبيب بورقيبة رحمه الله رحمة واسعة. وفي صبرنا دليل واضح على ارادة تجنيب الوطن كل ما يمكن ان يسيء اليه والى أمن المواطن عاجلا او آجلا.
لذلك أيضا كانت بادرة 25 جويلية تتنزل تلقائيا في مسار انقاذ الوطن. ويدعو الواجب الوطني الى التنويه بجميع الوطنيين الذي هيؤوا للسيد الرئيس الفرصة السانحة لاتخاذ ذلك القرار التاريخي في الوقت المناسب، وفي مقدمتهم مناضلو الحزب الحر الدستوري –نساء ورجالا – بزعامة السيدة عبير موسي التي أشهدت العالم على فساد حكم ”الاسلام السياسي ”عامة فسادا لا تدارك له، وعلى بؤس مجلس النواب المُحلّ بؤسا لا بؤس بعده.لذلك كنا على يقين من ان الاسوأ وراءنا، دون أن نغفل عن أن الأصعب أمامنا.
***III***
والحق ان أصعب ما في الأصعب المشار اليه التفرد بالحكم والبقية تفاصيل منجرّة عنه. فحكم الفرد حكم مطلق، والحكم المطلق مفسدة مطلقة ولو تظاهرت له جيوش من النوايا الطيبة. فهو الاستبداد وما من شيء يمكن ان يدنيه من الحكم الملكي او الارستقراطي، فضلا عن الديمقراطية. إذ أن كلا من النظام الملكي او الارستقراطي يشتغلان حسب قوانين معلومة، وبموجب معروف سائد يعلي قيمة الشرف والمروءة. وقد بين الشيخان، أفلاطون وأرسطو، أنّ الاستبداد دال قطعيا-عند الفرد- على نفس غير سوية ودخيلة شريرة، وفي المدينة على شعب من العبيد. وخير ما أثرى به الشيخ ابن رشد اجتهاد الشيخين، ان الحاكم المستبد يحكم عبيدا، فهو إذن سيد العبيد أي أكثرهم عبودية وأغرقهم في حبائل نفسيته اللاسوية، في حين ان حاكم شعب من الأحرار هو سيد الأحرار، على معنى انه أبصرُهم بقيمة الحرية، وأحرصُهم على حفظها، حقا مقدسا من حقوق الإنسان، فردا وجماعة، لا تنازل عنه ولا مقايضة فيه.
ولما كنت اريد لشعبي– من موقع المواطنة وهو دائما أعز المواقع وأبقاعها- ان يكون شعب الأحرار، ولرئيسي ان يكون رئيس الأحرار، فان الواجب يدعو الى مزيد التمسك بالثلاثية المقدسة، حفظ سلامة الوطن، والذود عن سيادة الدولة الوطنية، واستئناف مسيرة الانتقال الديمقراطي، دائما في اتجاه انجاز مطالب شباب مدرسة الجهورية في الشغل والحرية والكرامة الوطنية. ويقيني أننا اقدر شعوب الارض على الارتقاء بانفسنا الى موضع مشرف بين شعوب الدنيا، وحيثما أشرقت شمس الله.
ولا بد في هذا الاتجاه من الاعراض عن المشككين في البديهيات، والكف عن سماع مهاترات المتقيّسين، وغمغمات المتظلمين. فمما لا شك فيه، أن تاريخنا بيّن بما يعلو عن الشبهات والريب، اننا شعب تعود ضرب المواعيد الكبرى مع التاريخ الإنساني. ثم ان ما لحق تونس من أضرار فادحة جراء حكم الخوانجية يلغي جميع معاني تظلمهم في الداخل والخارج. ومن غريب الأمر انه ما من أحد ممن يسمعون تظلمهم سأل التونسيين عما يقاسون اليوم من مآس، هي نتاج مكرهم المباشر طيلة العشرية الماضية، وسعايتهم المتخفية منذ عشرات السنين. أما هذيان المتقيّسين وغمغمات المتحلّمين فسحاب كاذب، سواء بحكم ما في انتصار البعض للسيد قيس سعيد، من خطأ واضح ووهم مكين. وليس لذلك كله، ان يطول أكثر مما طال، بل ان الواجب يقضي بالتنبيه على مخاتل مواقفهم والتعرية على مكامن أوهامهم.
والحق انه لا سبيل الى ذلك ما لم يتضح خطاب رئيس الجمهورية لقارئه وما لم تقم جميع مؤسسات الدولة بإعلام المواطنين بجميع ما يتخذ فيها من قرارات وما تأتيه من أفعال، لاسيما حين يتعلق الأمر بأمن المواطن وحريته أو بالقضاء والاقتصاد والتربية والثقافة الخ.. حتى لا يبقى التونسي عالة على ما في المصادر غير الرسمية من اخبار زيفها أحيانا اكثر من صحتها.
وعلى المتقيّسين خاصة أن يدركوا انه لئن كانت جميع المسائل التي يتحدث عنها رئيس الجمهورية على طريقته مثل استشراء الفساد أو العبث بقوت الشعب الخ هي مسائل حقيقية وإن ” سبقه إليها عكاشة” أي لا فضل له في الأمر، فانه ما من مسألة واحدة، وقعت معالجتها بطريقة سليمة بحكم التفرد بالحكم من ناحية أولى وبحكم ما يعيش القضاء من أوضاع لا يرضاها الكريم المدرك حق الادراك لمعنى القضاء، من ناحية ثانية، وبفعل فساد المناخ السياسي –الاجتماعي من ناحية ثالثة.
غير أنه كفى الاوطان فخرا ان تعد مصاعبها. فلا وجود عندنا لما يسميه البعض ”ازمة” أو ”معضلة” اي مصاعب لا حل لها. لذلك كانت طريقنا الى غدنا واسعة، واضحة، مستقيمة. وأول الخطوات إلى غدنا، وعلى منهجنا، ووفقا لما تُوجب الثلاثية المقدسة، تنقية المناخ السياسي وهو ما يوجب ضرورة الشروع اليوم وليس غدا في حوار مجتمعي باشراف رئيس الدولة، على ألّا يُمنع منه أحد باستثناء من دمّر الحياة الوطنية خلال العشرية الماضية، دون أن يفضي ذلك إلى إلغاء حق أي كان اعتباطيا في المشاركة مستقبلا في الحياة السياسية. ومما يحمل على التفاؤل في هذا الاتجاه، التقارب الكبير بين رئيس الجمهورية والاتحاد العام التونسي للشغل في التمسك المتين بالسيادة الوطنية، وفي التعامل مع المُقرضين الأجانب. وثاني تلك الخطوات اتخاذ ما يجب من تدابير شاملة معمقة لسلامة العلاقة بين السلطتين القضائية والتنفيذية. فلا محاسبة دون قضاء عادل مستقل، تُحترم فيه جميع الإجراءات ’الشكلي منها والمادي. وثالث تلك الخطوات المبادرة حالا بايقاف التدهور المستمر حتى اليوم في الكثير من مؤسسات الدولة. فلا اصلاحات -لاسيما في المجال التربوي والثقافي -الا بعد درء المضار.
ذلك طريقنا إلى غدنا : ثلاثية مقدسة موجبة : سلامة الوطن وحفظ دولة الاستقلال ومواصلة مسيرة الانتقال الديمقراطي وثلاثية مؤلمة ولكنها ضرورية، تجاوز الحكم الفردي واصلاح القضاء ووقف تواصل تدهور مؤسسات الدولة. وما عدا ذلك يُترك للحوار الوطني ويمكن في اتجاه البحث عن كلمة سواء اعتبار ما تلا 25 جويلية بما في ذلك البرلمان الحالي مما اقتضاه الانقاذ الوطني من مبادرات مؤقتة يقع الاتفاق بين المتحاورين على مستقبلها. قد يبدو الامر صعب المنال الى درجة الطوباوية. ولكن يقيني انه لا شيء يعظم على الهمة الوطنية العالية وما من تضحية تثقل على شعب أصرّ اليوم على المطالبة بالشغل والحرية والكرامة الوطنية.
*نشر بأسبوعية”الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 9 ماي 2023