الشارع المغاربي: نشرت وزارة الشؤون الدينيّة على صفحتها أن كلفة الحج هذه السنة تقارب 20 ألف دينار للشخص الواحد وهو ما أثار استغراب الكثير من الناس الذين دعوا إلى تأجيل أداء هذه الشعيرة اعتبارا للوضع المالي الذي عليه البلاد مقدّمين في ذلك من الحجج ما يؤكّد أن هذا الطلب يصبّ في خانة الحفاظ على الوطن وحمايته من إفلاس هو على الأبواب. غير أن البعض الآخر اعترض على ذلك قائلا بأن الأَوْلى هو التوقّف عن توريد الموز وعلك اللوبان وغيرهما من المواد الاستهلاكيّة بدل استهداف شعيرة الحج. وفي تقديرنا أن دعوتهم إلى التوقف عن استيراد هذه المواد صحيحة ولكنها مخطئة عند قرنها بشعيرة الحج واشتراط التلازم بينهما. فأمر السلع يسيرٌ ويكفي فيه قرار حتى يتمّ تنفيذه. أمّا بالنسبة للحج فالمسألة معقّدة إذ تحتاج أوّلا وقبل كل شيء إلى البحث عن المسوّغ الشرعي والدليل الذي يمكّن من اتخاذ قرار التأجيل حتى تستقيم أوضاعنا المالية والاقتصادية علما أن صدور قرار مماثل ممكن إن أحسنّا الإنصات إلى النصوص الدينيّة التي تقدّم مصلحة العباد على العبادات وإن قدّرنا تقديرا سليما ما علينا القيام به لمعالجة الخراب الذي عمّ البلاد منذ سنة 2011 وضبطنا سلّم الأولويات باعتبار المصلحة العامّة لا الخاصّة.
فرض الله تعالى الحجّ مرّة في العمر. وقد ذهب الفقهاء المعتبرون إلى أن هذا الوجوب ليس على الفور وإنما هو وجوب مُوَسَّع على التراخي أي أنه يبقى في الذمّة دَيْنا إلى أن تتوفّر الظروف المساعدة على أدائه. قال الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور:”وذهب جمهور العلماء إلى أنه على التراخي وهو الصحيح من مذهب مالك ورواية ابن نافع وأشهب عنه وهو قول الشافعي وأبي يوسف واحتجّ الشافعي بأن الحجّ فُرض قبل حجّ النبي صلى الله عليه وسلم بسنين فلو كان على الفور لما أخّره ولو أخّره لِعُذر لبيّنه أي لأنه قدوة للناس”(1) وبيّن ممّا ذكر أنه لا حرج في تأخير الحجّ إن توفّرت أسباب ذلك وهي متوفّرة لدينا الآن.
واشتُرط لوجوب الحجّ الاستطاعة أي القدرة على الفعل، وقد تناول الفقهاء القدامى هذا الشرط بالبحث فذهبوا إلى القول بأن الاستطاعة الموجبة للحجّ هي القدرة على الوصول إلى مكة وتتمّ:
أ) بقوة البدن وتوفّر الصحّة المعينة على تحمّل مشاق السفر.
ب( وجود الزّاد وهو أن يجد الحاج ما يكفيه ويكفي عياله حتى يرجع.
ج( السبيل وهو الطريق المسلوكة ويُشترط فيها الأمن فإذا غلب على الظنّ حصول المكروه سَقَط الوجوب وفي هذا المبحث تفصيل يخرج عن نطاق بحثنا.
إلا أن هذه الشروط كانت صالحة سابقا أيام كانت المجتمعات مفتوحة تغيب فيها الحدود الموجودة اليوم وتقوم فيها الدولة بدَوْرَيْن دور عسكري يستهدف بسط السيادة وحمايتها ودَوْر مالي لا يتعدى جباية الجزية والخراج دون أن يكون لها مدخل في توجيه النشاطات الاقتصادية والمالية والإشراف عليها كما هو الحال اليوم. لذا أضيفت شروط أخرى يستحيل أداء شعيرة الحجّ دون توفّرها وهي الشروط التي أوجدها التطوّر من ناحية الوصول إلى البقاع المقدّسة والمرور بين الدول الذي يستلزم وثائق أمنيّة وصحية الى جانب العملة الصعبة التي يجب توفيرها للحاج وهذه كلّها من مسؤوليات الدولة وبنوكها ومؤسّساتها، الأمر الذي يعني أن الاستطاعة التي اشترطها القدامى وتسمّى استطاعة بالنفس لم تعد كافية اليوم لوجود متدخّل آخر هو الدولة لتصبح الاستطاعة استطاعة بالغير وهو ما يجعل من شرط الوجوب شرطا غير متحقّق إلا بموافقة الدولة التي عليها أن تقدّر المنافع والمخاطر وما قد ينتج عن صرف الأموال والجهد لتحدّد على ضوء ذلك السماح بأداء الفريضة وضمن أي حدود عدديّا وماليّا أو المنع المؤقّت بما يحفظ توازناتها المالية ولا يهدّدها بالانخرام لأنها مكلّفة وفق العرف والقانون بالحفاظ على سلامة الأمّة والتصرّف الحكيم في ثرواتها. هذا الدور المنوط بعهدة الدولة في الحفاظ على بيضة الأمّة يأمر به الشرع ولا التفات لمن يقول بغير ذلك وممّا يدلّ على صواب ما اتّجهنا إليه:
1) المصلحة العامة مقدّمة على المصلحة الخاصة. قال الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور (ت 1973) في تعريفه للمصلحة العامة بأنها:”ما فيه صلاح عموم الأمّة أو الجمهور ولا التفات منه إلى أحوال الأفراد إلا من حيث أنهم أجزاء من مجموع الأمة”(2) وقال كذلك:”فلو فُرض أن الصلاح الفردي قد يحصل منه عند الاجتماع فساد فإن ذلك الصلاح يذهب أدراجا ويكون كما لو هبّت الرياح فأطفأت سراجا”(3). أما ابن نجيم (ت 1563م) فقد لخّص المسألة كلها بتفريعاتها في قوله:”يُتَحَمَّلُ الضرر الخاص لأجل دفع الضرر العام”(4) الأمر الذي يعني أنه إن قدّرت الدولة أن شعيرة الحج يمكن أن تؤدّي إلى الإضرار بالشأن العام جاز لها أن تؤجّلها إلى حين انتفاء الأسباب الموجبة لهذا القرار.
2) قال الفقهاء إنّ حقّ العبد مقدّم على حقّ الشّرع، فكلّما تعارضت الأحكام الشّرعيّة مع مصالح المكلفين إلا وقُدّمت هذه الأخيرة لأن المقصود من الشّرع هو حفظ الجماعة وتمكينها ممّا ينظم حالها ويؤدّي بها إلى القوّة والمناعة. وقد عقد العزّ بن عبد السلام (ت 1262م) فصلا في المسألة عنوانه “في ما يُقدّم من حقوق العباد على حق الربّ رفقا بهم في دنياهم” جاء فيه:”ومنها ترك الصلاة والصيام وكلّ حقّ يجب لله على الفور بالإلجاء أو الإكراه”(5). وقال خاتمة المحققين ابن عابدين (ت1836م):”قوله لتقدّم حقّ العبد أي على حقّ الشّرع لا تهاونا بحقّ الشّرع بل لحاجة العبد وعدم حاجة الشّرع. ألا ترى أنه إذا اجتمعت الحدود وفيها حقّ العبد يُبدأ بحقّ العبد لِما قلنا ولأنه ما من شيء إلا ولله تعالى فيه حقّ فلو تقدّم حقّ الشّرع عند الاجتماع لبَطُلت حقوق العباد، كذا في شرح الجامع الصغير لقاضي خان. وأمّا قوله عليه الصلاة والسلام فدين الله أحقّ فالظاهر أنه أحقّ من جهة التعظيم لا من جهة التقديم”(6). هذا المعنى في وجوب اعتبار المصلحة شرحه باستفاضة الإمام نجم الدين الطوفي (ت 1316) قال: “أما المعاملات ونحوها فالمتّبع فيها مصلحة الناس كما تقرّر، فالمصلحة وبقية أدلّة الشّرع إمّا أن يتّفقا أو يختلفا، فإن اتّفقا فبها ونعمت…. وإن اختلفا فإن أمكن الجمع فاجمع بينهما… وإن تعذّر الجمع بينهما قُدِّمت المصلحة على غيرها لقوله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) وهو خاصّ في نفي الضرر المستلزم لرعاية المصلحة فيجب تقديمه ولأنّ المصلحة هي المقصودة من سياسة المكلّفين بإثبات الأحكام وبقية الأدلة كالوسائل والمقاصد واجبة التقديم على الوسائل… ولا يقال إن الشّرع أعلم بمصالحهم فلتؤخذ من أدلته لأننا قد قرّرنا أن رعاية المصلحة من أدلة الشّرع وهي أقواها وأخصّها فلنقدمها في تحصيل المصالح”(7). وبيّن أن كلام الطوفي يتناول المعاملات وليس العبادات لأن هذه الأخيرة تُؤدّى كما أمر المشرّع بلا زيادة أو نقصان أو تغيير غير أن شعيرة الحجّ لم تعد كما كانت سابقا منفلتة من أي قيد بل تغيّر حالها بعد أن أوجدت التنظيمات الحديثة شروطا جعلت أداءها لا يتمّ إلا بموافقة الدولة اعتبارا لتأثيرها على الصالح العام وهو ما اصطلح على تسميته بالاستطاعة بالغيروقد ذهب مالك وأبو حنيفة إلى: “اعتبار المستطيع بغيره لا بنفسه عاجزا وغير مستطيع لأن المرء يكلّف بقدرة نفسه لا بقدرة غيره”(8). هذا المعنى في تدخل الدولة لتنظيم الحج وفق قدراتها جائز شرعا إذ سبقتنا إليه المملكة العربيّة السعوديّة التي لاحظت تكاثر عدد الحجيج مع بقاء مساحة الرقعة الأرضية التي تقام فيها الشعائر ثابتة ولا يمكن توسعتها. لذا قامت بتحديد عدد الحجيج بنسبة واحد إلى الألف وهو أمر لا نجد له سندا شرعيّا ولكن المصلحة اقتضت ذلك رغم أن الدعوة إلى الحج قرآنيّا مفتوحة للجميع ومُحرَّض عليها قال تعالى: “وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فجّ عميق”(9).
3) نصّ الأصوليّون على قاعدة فقهيّة هامة هي ان درء المفاسد أولى من جلب المصالح وهي قاعدة يقع الاستئناس بها عند تعارض المصالح والمفاسد. يقول ابن نجيم:”فإذا تعارضت مفسدة ومصلحة قُدِّم دفع المفسدة غالبا لأن اعتناء الشّرع بالمنهيّات أشدّ من اعتنائه بالمأمورات.… ومن ثمّ جاز ترك الواجب دفعا للمشقّة…”(10). أما الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور فإنه يذهب أبعد ممّا ذهب إليه ابن نجيم حيث يرى إباحة الفعل المحرم شرعا إن اقتضت المصلحة ذلك. يقول:”وذلك أن يعرض الاضطرار للأمّة أو طائفة عظيمة منها تستدعي إباحة الفعل الممنوع شرعا لتحقيق مقصد شرعي مثل سلامة الأمّة وإبقاء قوّتها أو نحو ذلك… ولا شك أن اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدر من اعتبار الضرورة الخاصة وإنها تقتضي تغييرا للأحكام الشرعيّة المقرّرة للأحوال التي طرأت عليها تلك الضرورة”(11).
تأسيسا على ما ذكر أعلاه ندعو الدولة إلى رعاية الله في هذا الوطن ونحثّها على تأجيل أداء فريضة الحج هذا العام لأن عكس ذلك سيؤدّي حتما إلى الإضرار بالاقتصاد وإفساد الخطط وإهدار الثروة العموميّة وهي في ذلك تستجيب للمقاصد الأساسيّة للشّرع. فقد ورد في الأشباه النظائر لابن نجيم:”أما المشقّة التي تنفك عنها العبادات غالبا فعلى مراتب الأولى مشقة عظيمة فادحة كمشقّة الخوف على النفوس والأطراف ومنافع الأعضاء فهي موجبة للتخفيف وكذا إذا لم يكن للحج طريق إلا من البحر وكان الغالب عدم السلامة لم يجب”(12). وقال العز بن عبد السلام في نفس المعنى في فصل عنوانه “في المشاقّ الموجبة للتخفيفات” ما يلي: “الضرب الثاني من مشقّة تنفك عنها العبادة غالبا وهي أنواع، النوع الأول مشقّة عظيمة فادحة كمشقّة الخوف على النفوس والأطراف ومنافع الأطراف فهذه مشقّة موجبة للتخفيف والترخيص لأن حفظ المهج والأطراف لإقامة مصالح الدارين أولى من تعريضها للفوات بعبادة أو عبادات ثم تفوّت أمثالها”(13). وأيّة مشقة أعظم من أن يكون الوطن مهدّدا؟ اليوم والوضع على ما هو عليه ليس لنا إلا أن نلجأ إلى تخفيفات الشرّع وأوّلها:”تخفيف الإسقاط كإسقاط العبادات عند وجود أعذارها”(14).
الهوامش:
1) التحرير والتنوير” ج4 ص24، وبداية المجتهد ج1 ص324 والقوانين الفقهية لابن جزي129.
2) “مقاصد الشريعة الإسلامية” الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، نشر الشركة التونسية للتوزيع، تونس 1978، ص65 و66.
3) مقاصد الشريعة الإسلامية، ص139.
4) “الأشباه والنظائر” لابن نجيم، تح محمد مطيع الحافظ، دار الفكر، سوريا 1983، ص96.
5)”القواعد الكبرى الموسوم بقواعد الأحكام في إصلاح الأنام” للعزّ بن عبد السلام، تح نزيه كمال حمّاد وعثمان جمعة ضميرية، دار القلم، دمشق 2000، ج1 ص255.
6)ردّ المحتار على الدرّ المختار” ج2 ص144 .
7)”المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي” مصطفى زيد، دار الفكر العربي القاهرة 1945، نص رسالة الطوفي ص46 و48.
8) “أحكام الاستطاعة في الحج في ضوء المستجدات المعاصرة” يوسف عبد الرحيم سلامة، جامعة النجاح فلسطين 2003، ص17.
9) سورة الحج الآية 27.
10) الأشباه والنظائر، ص99 و100 .
11) مقاصد الشريعة الإسلامية، ص125.
12) الأشباه والنظائر ص91.
13) قواعد الأحكام للعزّ بن عبد السلام ج2 ص13 و14 .
14) الأشباه والنظائر ص92.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 23 ماي 2023