الشارع المغاربي-كريمة السعداوي:شهدت صناعة الحليب في تونس تحديات كبيرة خلال السنوات الأخيرة إذ يعاني القطاع من تراجع واضح في الإنتاج. وتؤثر هذه الأزمة على توفير هذه المادة الغذائية الأساسية في البلاد.
غير أنّ أسباب هذه الأزمة تتنوّع بين ظرفية مرتبطة بالتقلبات المناخية والسياق العالمي وأخرى هيكلية صارت تهدد وجود القطاع.
أسباب الأزمة
يُرجع خبراء قطاع إنتاج الألبان أسباب هذه الأزمة إلى عدة عوامل منها ارتفاع أسعار الأعلاف التي أصبحت تشكل عبئًا ماليًا لا يطاق على مربيّي الأبقار بالإضافة إلى تراجع كبير في الإنتاجية مما أثر على كميات الحليب المنتجة وتوفرها في السوق. وأكد في هذا الاطار مدير عام ديوان تربية الماشية وتوفير المرعى عز الدين شلغاف أن قطاع تربية الأبقار يعاني من عديد الإشكاليات وأن ثمة مؤشرات تدل بصفة ملموسة على تراجع عدد الأبقار.
وقال على هامش ندوة عقدت ضمن فعاليات الدورة 14 للصالون الدولي للاستثمار الفلاحي والتكنولوجيا بعنوان “الموارد العلفية والرعوية في ظل التحديّات المناخية” في موفى أكتوبر 2022 إن قطيع الأغنام والماعز يعدّ 5 ملايين رأس أنثى في تونس وأن عدد قطيع الأبقار يبلغ 410 آلاف رأس أنثى . وصرح بأن عدة عوامل أثرت على قطاع تربية الماشية وتوفير المواد الغذائية للحيوانات أبرزها الجفاف.وشدد على أن العوامل المناخية أثرت على حالات المراعي وإنتاج الزراعات العلفية المرتبطة أساسا بتهاطل الامطار.
كما أفاد شلغاف بأن ظهور جائحة فيروس كورونا أثّر على مستوى ارتفاع أسعار الأعلاف عالميا وأن اندلاع الأزمة الروسية – الأوكرانية فاقم أزمة الأسعار إضافة إلى تشديد الرقابة على تصدير المواد الغذائية والذي تسبب في تعطيل سلاسل الإمداد الغذائية. وأوضح أن تونس تعيش عجزا هيكليا في الموارد العلفية والرعوية في ظل التحديات المناخية تتراوح نسبته بين 25 بالمائة و30 بالمائة مبرزا أن تونس تستورد 30 بالمائة من حاجات القطيع وخاصة حبوب الصوجا كمصدر للبروتين والذرة والشعير كمصدر للطاقة . واعتبر شلغاف أن ذلك يجعل تونس في ارتباط كلي بالخارج في ما يتعلق بالتغذية الحيوانية وأنه كان وراء الدفع إلى العمل على إيجاد بدائل من المصادر البروتينية والطاقة على المستويين المتوسط والبعيد.
تراجع عدد القطيع بـ 30 بالمائة
حسب مصادر رسمية يبلغ عدد رؤوس الأبقار في تونس حوالي 646.2 ألف رأس في عام 2021 . وفي عام 2023 يقدر ديوان تربية الماشية وتوفير المرعى قطيع الأبقار بنحو 410 آلاف رأس أنثى في تونس. في الأثناء نقلت وكالة تونس افريقيا للانباء مؤخراً عن مصادر في وزارة الفلاحة قولها إن ظاهرة التهريب تُضعف سوق اللحوم المحلية مشيرة إلى أن عدد رؤوس الأبقار التي يتم تهريبها عبر ولاية جندوبة الحدودية مع الجزائر يقدر بنحو 250 بقرة يومياً.
العلف النادر
تشير مصادر متطابقة إلى ان الفلاح كان يشتري قبل عشر سنوات كيس العلف البالغ وزنه 50 كيلوغراما بعشرة دنانير (حوالي 3,5 اورو) وذلك قبل أن يرتفع الثمن إلى 81 دينارا (حوالي 24 اورو).
ويوضح أنيس خرباش مساعد رئيس الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري أنّه تم تسجيل “ارتفاع جنوني” في أسعار الأعلاف منذ أكثر من عام بمعدّل سنوي يتراوح بين 30 و40 بالمائة مرجعا الأمر الى تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا التي تمثل أهم مصدر استيراد حبوب بالنسبة الى تونس.
ولم يعد الفلاحون يعتمدون بشكل حصري كما كان الأمر في السابق على المراعي الطبيعية بسبب تراجع كميات الأمطار نتيجة التغيرات المناخية التي تؤثر بشكل مباشر على توفر العشب. وتشهد تونس موجة جفاف حادة منذ سنوات ولم تتجاوز نسبة امتلاء السدود عتبة 30 بالمئة وفق مصادر رسمية.
نتيجة نقص العلف تراجعت كميات الحليب التي تدرها الأبقار لأنها لا تحصل على تغذية كاملة وتراجع معدل الإدرار اليومي إلى النصف تقريبا (12 لترا) نظرا إلى أنّ الفلاح صار يقدم لها نصف كمية العلف والعشب السابقة. ويتكبّد بذلك الفلاح خسارة تقدر بثلاثين في المئة عن كلّ لتر حليب يبيعه لأحد المصنّعين الكبار في البلاد.
مطالب بزيادة سعر الإنتاج
يطالب منتجو الحليب بزيادة عاجلة في سعر الإنتاج بمقدار 500 مليم عن كل لتر بهدف تحقيق التوازن المالي. وتأتي هذه المطالب في سياق سعي الفلاحين لتعويض الارتفاعات الكبيرة في تكاليف الإنتاج والحفاظ على جودة المنتجات.
المخزونات الاستراتيجية وتأثيرها على السوق
شهدت المخزونات الاستراتيجية للحليب في تونس تدهورًا ملحوظًا خلال الفترة الماضية حيث انخفضت من 54 مليون لتر في جويلية 2021 إلى 29 مليون لتر في فيفري 2023. ويلقي هذا الانخفاض بظلاله على قدرة السوق على تلبية احتياجات المستهلكين وقد يؤدي إلى مزيد من التوتر في السوق.
وفي موفى شهر ماي 2023 أكّد منوّر الصغيّر مدير وحدة الإنتاج الحيواني في الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري أنّ توفّر الحليب في الأسواق لا يحجب الأزمة التي قد تعاود الظهور مع شهر أوت بتراجع الإنتاج مشيرا إلى أنّ أزمة قطاع الألبان ما زالت متواصلة وأنّه من الضروري معالجتها لتشجيع الفلاحين لمواصلة نشاطهم وذلك برفع سعر هذه المادة توقّيا من أيّة تداعيات محتملة.
وقال في تصريح صحفي إنّ مستوى الإنتاج الحالي لا يمكّن الدولة من توفير مخزون استراتيجي لتعديل العرض بالسوق في حال وجود نقص. مؤكّدا أنّ الكميات المتوفّرة حاليا والمقدّرة بـ 18 مليون لتر تمثّل مخزونا فنيا لا يلبي حاجات الاستهلاك سوى لمدّة 10 أيّام.
وأوضح الصغيّر أنّ منظومة الألبان توفّر عادة حوالي 40 مليون لتر بين مخزون فني ومخزون استراتيجي مبرزا أنّ المخزون الاستراتيجي هو كميّة الإنتاج من مادة معيّنة تقوم الدولة بتخزينها لاستهلاكها مدة معيّنة ويتمّ تجديدها بصفة دائمة مع توفّر الانتاج الجديد.
أمّا المخزون الفني فيتعلّق بكمية من مادة معيّنة لا يتم ترويجها في السوق إلاّ بعد التثبت من خلوها من أيّ إشكالات.
تداعيات نقص الحليب
يؤدي نقص الحليب في تونس إلى ارتفاع أسعاره مما يؤثر على ميزانية المستهلكين ويعرضهم لضغوط مالية. إلى جانب ذلك يزيد هذا النقص من تحديات الفلاحين ويؤثر على منظومة تربية الأبقار مما يشكل تحديًا كبيرًا أمام استدامة القطاع.
ردّ حكومي منقوص
تعتبر السلطات التونسية أن مردّ نقص التزويد أساسا المضاربة في الأسواق. فقد اتهم الرئيس قيس سعيّد خلال زيارته لمصنع لإنتاج الألبان أن “المحتكرين” هم السبب الأساسي وراء الأزمة واكتفت الحكومة بإقرار حذف الضرائب المفروضة على استيراد مسحوق الحليب المجفف في قانون المالية لعام 2023 واعتبر الاتحاد أنه “كان من الأجدى توظيف الدعم المالي لدعم المنتجين المحليين”.
جهود التحسين وآفاق المستقبل
رغم التحديات الكبيرة التي يواجهها قطاع الحليب في تونس فإن ثمة مساعيَ لتحسين وتطوير الوضع. ولإنقاذ القطاع ينبغي أن تكون ثمة خطط شاملة تستهدف زيادة الإنتاجية وتحسين جودة المنتجات بالإضافة إلى تقديم دعم للفلاحين عين لتخفيف الأعباء المالية.
وتعتبر صناعة الحليب في تونس جزءًا أساسيًا من القطاع الفلاحي والغذائي وتحتاج إلى جهود مشتركة لمواجهة التحديات الحالية وضمان توفير منتجات عالية الجودة بأسعار معقولة للمستهلكين.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 5 سبتمبر 2023