الشارع المغاربي: يوم الاثنين 28 فيفري 2022 تأكدت الاخبار القادمة من الدوائر المالية بخصوص انهيار تام للبنك الفرنسي التونسي. ولأن الاخبار السيئة لا تأتي فرادى مثلما يقال فإن ملف هذا البنك شهد بدوره تطورات على مستوى التحكيم الدولي تمثلت في انتهاء المهلة المحددة من قبل المركز الدولي لتسوية المنازعات الاستثمارية الذي سيتوجه بنهاية المسار الصلحي نحو اقرار قيمة التعويضات لخصم الدولة التونسية والتي تقارب مليار دولار أي قرابة 3 مليارات دينار.
شابه الاعلان عن تصفية البنك الفرنسي التونسي مسار الـ3 عقود ونيف من النزاعات التي عرفها هذا البنك والمتسمة بطابع السرية التامة. فبعد ” تطمينات” كبار مسؤولي الدولة بوجود مساع قد تفضي للتوصل لحلول تمكن من انقاذ هذا البنك ومن المحافظة على ديمومته من جهة والحيلولة من جهة اخرى دون تكبد خسائر دفع تعويضات خيالية، تبخرت التطمينات بالاعلان الرسمي عن مسار حل وتصفية من قبل لجنة انقاذ البنوك والمؤسسات المالية المتعثرة بعد 3 ايام من غلق جميع مقراته واثر تسريب هذا القرار من قبل نقابة البنك يوم امس.
مسار التصفية
البلاغ الصادر يوم امس عن لجنة انقاذ البنوك والمؤسسات المالية المتعثرة كشف أنها احالت تقريرا حول وضعية البنك الفرنسي التونسي للمحكمة الابتدائية بتونس لاصدار حكم بالحل والتصفية وتعيين مصفّ للبنك طبقا لمتقضيات القانون عدد 48 لسنة 2016 المتعلق بالبنوك والمؤسسات المالية مبرزة ان قرار الاحالة جاء بعد ان عاينت توقف البنك المذكور عن الدفع وتعذر إنقاذه.
وفي الحقيقة انطلق مسار التصفية منذ سنة 2015 باقتراح من البنك المركزي. تفاصيل الاقتراح ضُمنت في اجتماع مضيّق لمجلس وزراء انعقد بتاريخ 15 ديسمبر 2015 وبرئاسة رئيس الحكومة انذاك الحبيب الصيد وقدمت خلاله نادية قمحة نائبة محافظ البنك المركزي حاليا ومديرة عامة وقتها، وضعية البنك التي قالت انه “يعيش وضعية افلاس غير معلنة بالنظر الى تدهور موازناته المالية بالاضافة الى الاضطرابات التي يشهدها في مستوى الحوكمة وتوتر المناخ الاجتماعي وذلك الى جانب النزاع القائم منذ اكثر من عقدين بين الدولة التونسية وشركة abci لدى هياكل التحكيم الدولية حول مساهمة هذا المجمع في البنك” معتبرة ان ذلك يستوجب حلا مستعجلا وجذريا.
محضر جلسة الاجتماع المسرب والمنشور في موقع “نواة” تضمن بيانات قدمتها نادية قمحة من ذلك ان البنك لا يحترم أي معيار تصرف حذر بسبب تراكم خسائره التي ناهزت 317 مليون دينار وأن القيمة الصافية لمحفظة القروض أصبحت لا تكاد تغطي 17 في المائة من اجمالي خصومه بسبب تراكم القروض المنصفة والتي تمثل 98 من اجمالي التعهدات مع تآكل أصله التجاري بالنظر الى محدودية فروعه التي لا يتجاوز عددها الـ7 فروع. وكشفت قمحة انه لولا القروض التي تحصل عليها البنك من قبل الشركة التونسية للبنك والبنك الوطني الفلاحي وبنك الاسكان بضمان الدولة والمقدرة بـ140 مليون دينار لما تمكن حتى من سداد اجور موظفيه والاعباء التشغيلية.
وضعية البنك تستوجب حسب ممثلة البنك المركزي سحب الترخيص منه والشروع آليا في التصفية وتعيين مصف للغرض وضبط برنامج تصفية لمعالجة خصوم البنك. وتتوزع الكلفة المالية للتصفية حسب تقديرات قدمتها ممثلة البنك المركزي بـ312 مليون دينار. علاوة على البيانات وقيمة المالية للتصفية، كشفت قمحة ايضا عن تداعيات القرار على الساحة المالية التونسية والتي قالت انها تتمثل في احتمال زعزعة ثقة العموم في القطاع المصرفي كاشفة ان الخسائر ستشمل 9000 فرد من فئة صغار المودعين وامكانية سعي بعض المدينين الى التهرب من تسديد ديونهم وامتداد ازمة البنك الى بعض المؤسسات العمومية التي اكدت قمحة انها تستأثر بنصيب هام لدى البنك الفرنسي التونسي.
التداعيات تشمل ايضا مسار النزاع القضائي وسيفتح قرار التصفية الباب امام خصم الدولة عبد المجيد بودن للمغالاة في قيمة التعويضات. المجلس الوزاري انتهى باقرار تصفية غير معلنة وتدريجية للبنك رغم تحفظات كل الوزراء المشاركين في المجلس الوزاري وانطلقت عملية التصفية بايقاف البنك عن تعبئة ايداعات واسناد قروض واقتصار نشاطه على استخلاص محفظة ديونه. حذت مختلف الحكومات المتعاقبة حذو حكومة الحبيب الصيد في اتباع “السرية” في تنزيل عملية التصفية لاسيما ان العملية تمت باشراف واقتراح وضغط من البنك المركزي الذي كان عدد من اطاراته من ضمن الاسماء الواردة في التقارير المتعلقة بفضيحة البنك الفرنسي التونسي والذين يتحملون جانبا من مسؤولية في ما آلت اليه الامور بالبنك.
تحول ملف البنك الفرنسي التونسي إلى “سري مطلق” وحتى الجلسات البرلمانية التي يفتح فيها هذا الملف بعد ما عرف من تطورات خلال السنوات القليلة الفارطة كانت تتم في “بشكل مغلق” مرفوقة بتجاهل لطلبات عديدة وجهت للجهات الرسمية للكشف عن قائمة من تحصلوا على قروض بلا ضمانات في ما اسماه الكاتب العام للجامعة العامة للبنوك والمؤسسات المالية نعمان العش بفضيحة القرن داعيا الدولة الى التحرك ومحاسبة كل المسؤولين واسترجاع الاموال المنهوبة من هذا البنك عبر قروض بلا ضمانات مذكرا بأن التقاضي كلف الدولة 200 مليون دينار.
تعويضات قد تصل لـ3000 مليون دينار
كشف مصدر مطلع لـ”الشارع المغاربي” ان المسار الصلحي في قضية البنك الفرنسي التونسي انتهى يوم 31 ديسمبر 2021 وأن ذلك يعني انطلاق مسار جديد سيفضي باعلان لجنة التحكيم عن قيمة التعويضات التي ستلزم الدولة بدفعها والتي قد تصل الى مليار دولار (3000 مليون دينار تقريبا). الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان اكد من جهته ان المهلة المحددة من قبل لجنة التحكيم التابعة للبنك الدولي للتوصل لاتفاق بين الطرفين المتنازعين وهما الدولة التونسية وعبد المجيد بودن انتهت منذ اسبوعين او اكثر.
وشدد سعيدان في تصريح لـ”الشارع المغاربي” على ان المفاوضات انتهت بانقضاء المهلة وعلى ان لجنة التحكيم ستحدد مبلغ التعويضات معتبرا ان الخوف ان يكون هذا المبلغ كبير جدا مذكرا بان الطرف المقابل طلب مليار دولار وأن هذه هي اول حالة افلاس كامل لمؤسسة بنكية في تاريخ الجمهورية التونسية. واكد سعيدان في سياق متصل أن هذا الافلاس يسيء لسمعة المركز المالي لتونس ولسمعة البنك المركزي باعتباره المشرف على القطاع البنكي.
من جهة اخرى نفى سعيدان ان يكون الافلاس مسألة حتمية مبرزا ان السلطات التونسية فوتت “مئات الفرص” في مسار هذا الملف الذي وصف بالمعقد. وقال ان اخطاء كثيرة وتواطؤا شابت ادارة الملف من ذلك تمكين الخصم من وثائق سرية. ولفت سعيدان ايضا الى ان الملف وصل الى طريق اللاعودة بانتهاء مهلة الصلح وبإعلان الافلاس وانه لا مفر من دفع تعويضات ستحددها لجنة التحكيم .
والدولة التي قد تجد نفسها مجبرة على دفع تعويضات تعد الأضخم في تاريخها، لم تحسم حتى اليوم في القضايا المرفوعة في منح خصمها عبد المجيد بودن من قبل حكومة الترويكا بضغط من وزير املاك الدولة آنذاك سليم بن حميدان وثيقة كانت محددة في مسار النزاع وتتمثل في تمكينه من العفو التشريعي العام التي تعني تمكينه من صفة “الضحية” واعتبار أنه كان سجينا سياسيا وحكم عليه بـ20 سنة سجنا بتهمة ارتكاب جرائم صرف. وشكلت الوثيقة منعرجا في القضية لصالح عبد المجيد بودن الذي اتهمه الوزير الاسبق لاملاك الدولة غازي الشواشي بانه “كان مخادعا في المطالبة بالصلح بعد الثورة” وبأنه “تعلل باستحالة دخوله البلاد بسبب الحكم الصادر ضده ومُكن من عفو استعمله في ما بعد لتعزيز موقعه في التحكيم الدولي”.
القضاء لم يحسم ايضا في القضية المرفوعة على الرئيسة السابقة لهيئة الحقيقة والكرامة التي زاد تقريرها الختامي في تعزيز موقع بودن بعد ان اعتبرت ان “قضية البنك الفرنسي التونسي حالة نموذجية تجلت فيها اهم التجاوزات التي كلفت المجموعة الوطنية خسائر كبيرة”. وذهب التقرير الى ان الدولة قامت عن طريق جهازها القضائي بالتنكيل ببودن الذي قالت الهيئة في تقريرها أن ما تعرض له بودن مثل اعتداء على الحقوق المدنية للمستثمرين. وقضية البنك الفرنسي التونسي المضمنة في تقرير الهيئة في الجزء المتعلقة بتفكك منظومة الفساد تم دون سماع مختلف المتدخلين واعتمده بودن في ما بعد للمطالبة بتعويضات استنادا الى ما ورد بالتقرير تقدر بـ3 مليارات دينار.
ورغم التحذيرات من خطورة ما ورد في التقرير على مسار التحكيم الدولي والدعوات لعدم نشره بالرائد الرسمي، قامت حكومة الياس الفخفاخ بنشره بعد مجلس وزراء صاخب دافع فيه العياشي الهمامي الوزير المكلف بالعلاقات مع الهيئات الدستورية بقوة لنشره رغم اعلام رئيس الحكومة عبر عدل تنفيذ من قبل العضوة بالهيئة ابتهال عبد اللطيف بوجود شبهة تدليس في التقرير وبما تضمن من “اكاذيب” بخصوص ملف قضية البنك الفرنسي التونسي.
مازالت هذه القضايا تراوح مكانها رغم ما قد تكلف الدولة من خسائر غير مسبوقة والتي مكنت “السرية” من حماية من انتفعوا بـ”فانة” اموال سخية من البنك منحت لهم بلا ضمانات وعدد من الاطارات والمسؤولين ممن شاركوا في اكبر جريمة مالية عرفتها البلاد وقد يكون جزء منها قُبر بقرار تصفية انطلق منذ سنة 2015 واصبح رسميا يوم 28 فيفري 2022.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 1 مارس 2022