الشارع المغاربي: احتفالا بذكرى تأسيس حركته وجّه الغنوشي رسالة من سجنه في المرناقية إلى ما تبقى من أنصاره يحثّهم فيها على مواجهة حكم 25 جويلية الذي دأب على وصفه بالانقلاب، واللافت للانتباه أن هذا المكتوب البيان روّج لجملة من المغالطات التاريخيّة والسياسيّة التي سنأتي عليها في ما يلي:
1) ادّعى الغنوشي أن من سمّاهم شهداء حركته دافعوا دفاعا “مستميتا عن استقلال تونس وعزتها” وهو كلام لا أساس له من الصحة لأن “شهداء حركته” ليسوا إلا مجاميع من المجرمين رشّوا خلق الله المسالمين بماء الفرق وأحرقوا البعض منهم وهم أحياء. أمّا القول بأنهم استماتوا في الدفاع عن استقلال تونس وعزّتها فقول مكذوب لأن حركته تأسّست بعد أن تحقّق الاستقلال بما يقارب 15 سنة. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لمّا وصلت إلى الحكم لأسباب خارجة عن إرادة الوطنيّين لم تكن أمينة على استقلال البلاد فلم تحافظ عليه إذ جرّت تونس إلى الانخراط في أحلاف دوليّة أدّت إلى تصنيفها دولة راعية للإرهاب وصاحبة المرتبة الأولى في قائمة الدول المصدّرة للإرهابيين. كل هذا فضلا عن تدمير النسيج الاقتصادي لفائدة النظام التركي الذي يرعى التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، الأمر الذي جرّ إلى الإفلاس غير المعلن الذي يعيشه الوطن بجانب الهوان وضياع القيمة بين الدول القريبة والبعيدة على حدّ سواء.
2)القول بأن جماعته “انتصروا لقيم الحرية والديمقراطية، ومبادئ ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي 2011” يحمل مغالطات عدّة تفصيلها كما يلي:
أ- القول بأن حركته تنتصر لقيم الحرية والديمقراطية تكذّبه الوقائع وينفيه تاريخها فالحركة لدينا كانت دائما وأبدا تابعة للسلطة. ففي الخميس الأسود يذكر الجميع الموقف المخزي الذي ساندت فيه هجمة السلطة على اتحاد الشغل حيث دفعت بأنصارها إلى الانخراط في اتحاد التيجاني عبيد وشاركت في قيادته من خلال ترشيح أحد رموزها وهو المرحوم مبروك الزرن الذي كانت لي معه بعض المناقشات أيامها لاشتراكنا في تدريس مادة واحدة وانخراطنا في نفس النقابة. لم تنتصر الحركة طوال تاريخها إلا لِما يُمكّنها من احتلال المواقع ويُخفّف من شناعة جرائمها ولم تكن الحرية أو الديمقراطيّة من أولوياتها. ففي واحدة من إشراقاته الفاضحة قال الغنوشي: “الاستبداد بخلفيّة إسلاميّة قد يكون أقل وطأة من الاستبداد بخلفيّة علمانيّة”(1) الأمر الذي يعني أن المشكلة الأساسيّة لديه تتمثل في الاستبداد العلماني وليس في الاستبداد مطلقا.
ب- الحديث عن ثورة بين 17 ديسمبر و14 جانفي لم يعد محلّ اتفاق بين القوى التي جُلبت من الخارج لحكم البلاد وتلك التي كانت موجودة في الداخل. فقيس سعيد ألغى التاريخ الأوّل معتبرا أن التاريخ الثاني التفاف على الثورة وخيانة لها. هذا على المستوى الرسمي أما شعبيّا فقد أصبحت هذه “الثورة” من الأحداث البغيضة للتونسي لاقترانها باغتيالات طالت جنودنا وأمنيينا ومواطنينا العزل الذين ذبح بعضهم وبانتشار الإرهاب وبتسفير شبابنا إلى بؤر التوتروباستهداف الدولة وبإضعاف المؤسّسات الأمنية وغيرها من الأجهزة المناط بعهدتها حماية الوطن ممّا يمكن أن يتهدّده من مخاطر، وإن نسي التونسي فإنه لن ينسى ملحمة بن قردان التي ألقي فيها القبض على أحد قياديي النهضة وفي يده هاتف خلوي من نوع الثريا، لم تكن الأحداث التي وقعت في التاريخ المذكور أعلاه إلا هجمة جاهلية جهلاء على دولة الاستقلال، وشعبنا اليوم بصدد التعافي من مخلفاتها ولا أدلّ على ذلك من أن رموزها اختفوا عن الساحة فبعضهم في السجون والبعض الآخر فرّ بما نهب إلى الخارج وقسم منهم اختار التخفي داخل السلطة القائمة فتارة تجده في النهضة وأخرى في النداء وثالثة في حزب الشاهد ورابعة في حزب “المقرونة” وخامسة في “الشعب يريد”… والذي نخلص إليه أن المؤشرات التي تدلّ على أن قوس “الثورة”وعشرية الدمار وما تلاها سيُغلق حتما وقريبا إن شاء الله.
3) توجّه الغنوشي في بيانه بـــــ: “خالص التحيّة والتقدير لجميع شركائنا في الوطن”. والذي يعلمه كلّ متابع لهذه الحركة أنها لا تؤمن بالوطن أي بقطعة الأرض التي تعيش عليها مجموعة بشرية وحّد بينها التاريخ وأمال المستقبل بل تؤمن بالأمة الإسلاميّة التي تتّسع حدودها كلّما اتسعت رقعة الإيمان بالإسلام وتضيق بضيقه بحيث لا تتكوّن فيها مشاعر الوطنيّة والانتماء، وممّا يعلمه الجميع أن حركة النهضة لا تنشد النشيد الوطني حماة الحمى في اجتماعاتها بل تنشد الأمميّة الإسلامية “في حماك ربّنا***في سبل ديننا” وهو ما يترجم عن حقيقة العداء الذي يكنّه الغنوشي وحركته للوطن، ففي كتابه عن الحريات الإسلاميّة قال: “إن على الدولة الإسلاميّة… أن تجتهد في أن تكون… ورشة عمل وفضاء مفتوحا للكفاءات الإسلاميّة من حيث أتت… وأن تستعين في إدارة أجهزة الحكم ولو في أعلى سلم التوظيف بالكفاءات الإسلاميّة بصرف النظر عن الجنسيّة… ونحسب أن في الدستور الإيراني بهذا الصدد تشدّدا في التأكيد على إيرانيّة الدولة وكذا في ميثاق العمل السياسي لثورة الإنقاذ في السودان وما تلاه من وثائق دستوريّة طافحة بشعور حاد من العزّة الوطنيّة نأمل أن يشهد تليينا بل من المهمّ جدا منح حقّ العضويّة الكاملة لشخصيّات إسلاميّة ذات كفاءة متميّزة أو مآثر عظمى في خدمة الأمّة كسرا لحواجز الجنسيّة وتبشيرا بدولة الإسلام العالمي”(2)، بعد كلّ هذا هل يمكن أن نصدّق إخوانيّا لمّا يتحدث عن الوطن أو يدّعي الوطنيّة كما هو حال الغنوشي في رسالته؟.
4) أمّا عن “تعزيز استقرار الوطن، ودعم أواصر الوحدة الوطنيّة، وترسيخ مبادئ المصالحة الوطنيّة الشاملة المنشودة” كما جاء في رسالة الغنوشي فحدّث ولا حرج، إذ لم تعرف بلادنا انقساما إلا بظهور هذه الحركة التي قسّمت المواطنين إلى مؤمنين وكفار واستئصاليين ودعاة توافق وذكور وإناث وأزلام وثوار ومتحجّبات وسافراتومجرمين تعوّض لهم الدولة من مرتبات المواطنين لِما ارتكبوا من جرائم في حق الوطن وأبنائه، بحيث شرذمت حركة النهضة الوطن فمن جهة تقف هي وأتباعها وقد اقتسموا بينهم الوطن غنيمة وفي الجهة المقابلة يقف معارضوهم وباقي الشعب الغلبان، ترى أيّ استقرار وأيّ وحدة وأيّ مصالحة عرفناها طوال العشرية الماضية؟.
5) أما دعوة المنتسبين للحركة بـــ: “التزام الصبر والهدوء والحكمة” فلأن الغنوشي في حالة ضعف خصوصا بعد أن صدرت في حقّه بطاقة إيداع تخصّ الجهاز السري وهو الملف الذي سيكشف حقيقة الدور الذي لعبته هذه الحركة في غير صالح الوطن كامتداد لتنظيم دولي كلّف بخدمة أجندات أجنبيّة لا مصلحة لتونس في الانخراط فيها.
في نفس الوقت الذي نشرت فيه هذه الرسالة يتمّ الإعلان عن تعيين منذر الونيسي نائبالرئيس حركة النهضة مكلفا بتسيير شؤونها، وهو أسلوب اعتمده الغنوشي سابقا في تعيين غيره كلّما حدث له مانع، غير أن التعيين في هذه المرّة كان مصحوبا بخطاب يخالف ما جاء في الرسالة حيث ظهر الونيسي في وسائل الإعلام داعيا إلى الصلح ومقرّا بأن حركته وقيس سعيد ينتميان إلى نفس الفضاء وأن الخلاف بينهما طارئ بفعل فاعل وطال الزمن أو قصر فإن المياه بينهما ستعود إلى مجاريها، والذي يمكن استنتاجه ممّا ذكر:
1)يعلم الغنوشي جيدا أن منتسبي أي حركة أو تنظيم سياسي يتعرّض للمحاكمات أو المضايقات هم في حاجة إلى خطاب جامع وموحّد لهم وليس أفضل من التصعيد وإذكاء نار الخصومة لأن خطاب المهادنة والوسطاء ليس خطابا جامعا لدى الجموع.
2) في اتجاه الحكم اختار الغنوشي شخصية لم تظهر في وسائل الإعلام في الحملة التي شنتها حركته على رئيس الدولة مباشرة بعد 25 جويلية أو من خلال أذرعها التي دأبت على تنظيم الوقفات الاحتجاجية والتظاهر.
3) كلف السيد الونيسي بالترويج لخطاب مصالحة يقوم على أساس انتماء الطرفين إلى نفس الفضاء الإسلامي وغاب عنه أن العداوة بين المنتمين إلى نفس المدرسة تكون شديدة وكسرها غير قابل للإصلاح خصوصا لمّا يكون أحدها مالكا للسلطة وتأمّلوا ما حدث بين البشير والترابي.
والذي نخلص إليه أن الغنوشي يمارس نفس اللعبة التي مارسها سابقا وهي لعبة الوجه والقفا ربحا للوقت في انتظار تغير موازين القوى.
هوامش
1) “تجربة نضال” راشد الغنوشي، مؤسسة زين المعاني لتجارة الكتب والبرامج والوسائط الألكترونية، سوريا 2011، ص121.
2) “الحريات العامة في الدولة الإسلامية” راشد الغنوشي، دار المجتهد للنشر والتوزيع، طبعة تونس الأولى 2011، ص155.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 13 جوان 2023