الشارع المغاربي: جاء انفجار الوضع في السابع من شهر أكتوبر الجاري كالصاعقة حيّرت كل الأطراف المعنية بالمأساة الفلسطينية ؛ وفي فترة وجيزة وبعد فتور مريب و” نوم” دام سنوات، اندلعت المأساة من جديد كالبركان الهائل او ”تسونامي” مدمّر؛ فطُرح السؤال الأهم والحياتي: كيف تمكّنت حماس في بضعة أيام من انجاز ما لم تقدر عليه العرب في اكثر من سبعة عقود في صراعها مع المحتل الاسرائيلي، وكيف تمكّنت من دحض اسطورة الاإنقهارية لذلك الجيش من بين الاربعة الأقوى في العالم، فتسارع البعض بإعلانهم عن حدوث… معجزة – معكوسة -، معجزة تغلب الصغير ”داود” على القوي ”جلياط”..
لنترك الملاحم وسرّها وسحرها، ولنركّز نظرنا على الواقع فنتساءل عن مسببات هذه الحادثة وعن اقدام حماس على هذه المجازفة الجريئة والوحيدة في نوعيتها.
-* قيل إن حماس قامت بهذه العملية في كامل السرية وحتى، في غفلة من المنظمة الاستخباراتية الأقوى في العالم ؛ – ببساطة، السر، في تقديرنا، هو ان حماس تحصّلت قبل الآخرين على انباء عن مفاوضات بين المملكة السعودية والكيان الاسرائيلي حول ” تطبيع العلاقات” بينهما على أساس الشرط السعودي بالاعتراف الاسرائيلي المسبق بحقوق الشعب الفلسطيني وبقبوله لمبدا ”الدولتين المتجاورتين”؛ وكما هو معهود، فان هذه المفاوضات جاءت تحت ضغط الولايات المتحدة وفي إطار ما يسمى ”الاتفاقيات الابراهيمية”المبرمة بين الكيان الاسرائيلي وبعض الدول العربية؛ إلا ان الطرف الاسرائيلي لم يقبل هذه الشروط، فعلّقت المفاوضات بين الطرفين.
نرجح ان حماس قد تنبّهت لمخاطر هذا التقارب ولإمكانية نجاحه خصوصا بتدخل الرئيس الأمريكي الحالي، الذي عزم على الترشح لعهدة ثانية، وبمساندة الطرف الأوروبي لهذه الصفقة ”التاريخية” لحل المعضلة الفلسطينية؛ ومن البديهي ان ما قد يحصل في هذا الإطار يمثل رهانا ثقيلا ومفصليا باعتبار ان نجاح مناورة البلاد الغربية، التي ترمي الى ”ضرب عصفورين بحجر واحد ” )حماس وإيران)”) سيؤول حتميا الى تعميم الاتفاقات الابراهيمية على باقي البلاد العربية وبالتالي، الى ردم القضية الفلسطينية بصفة نهائية.»«
في تقديرنا، بالنسبة لحماس كان الموقف من طراز ” أكون أو لا أكون” لـ”هاملت” في مسرحية شكسبير”؛ فإذا صمتت واحتفظت بذلك السر، فإن ذلك قد يعتبره البعض يوما ما ”خيانة ” قد تنجرّ عنها مؤاخذتها وربما تصفيتها؛ لكن ومن جهة أخرى، فإن حماس ليس لها أمل كبير في فكرة التحالف مع الأطراف الفلسطينية عن يمينها او عن يسارها؛ فوجدت نفسها امام تحدّ تاريخي ومفصلي: إما استرجاع الأراضي المغصوبة والحقوق المسلوبة، او المقاومة الى حد الاستشهاد المحتوم؛ وهذا هو المأزق الأول؛
-* مقابل ذلك، فان الطرف الإسرائيلي، هو الآخر، في مأزق موازي باعتباره متمسّكا بـما يعتبرها ”الأرض الموعودة”؛ فكما أقرت حرفيا بذلك قولدا ماهير للرئيس جو بادين، وبشهادة هذا الأخير- فأنهم يعترفون بأن: ”ليس لنا مكانا نلجأ اليه غير هذا… ”وعلى غرار موقف دول الجوار العربية إزاء القضية الفلسطينية، فإن الإسرائيليين يعلمون ان الدول الغربية، التي تتظاهر لهم بشديد المودّة، لا يرغبون في استقبالهم على أراضيهم، والتاريخ شاهد على ذلك؛ فكلا الطرفين في نفس المأزق وفي نفس الورطة.
-* بعد هذا التوصيف الموجز للموقفين، يمكن استخلاص حقيقة يشترك فيها الطرفان على حد سواء: هما يتنازعان على نفس الرقعة الأرضية، وليس لأي منهما بديل غير تلك الأرض، ولا أحد في البلاد المجاورة او غيرها مستعد لاقتبالهما؛ وبالتالي، فلا فرَار من الحل الأوحد الذي وقع طرحه منذ أكثر من ستين سنة في اريحا والمتمثل في دولتين متجاورتين ومتسالمتين ومتواجدتين في نفس العاصمة التاريخية لكليهما.
*- هذا الحل التوفيقي، الذي رفضه سابقا العديد من الدول المعنية، أصبح اليوم مقبولا صراحة وعلنا عند اغلب الأطراف، البعيدة منها من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي او القريبة منهما، ناهيك ان حتى الأطراف المتناقضة – أمريكا ومعها أوروبا، وروسيا، والبلاد العربية والإسلامية، والصين، واليابان، والبلاد الآسيوية، وأيضا الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة -، كلهم يطالبون بحل الدولتين المتجاورتين ويساندونه باعتباره الحل الأكثر واقعية وانصافا.
ان العمل على تحقيق هذا الحل التوافقي المنشود له بعد سياسي داخلي وبعد دولي من الواجب اعتبارهما.
-* فعلى المستوى الداخلي، يتحتم الاعتراف بان من بين مفارقات هذه المعضلة ان القوى السياسية الحاكمة حاليا في الشعبين المتنازعين تنتمي الى الاتجاهات المتطرفة والرافضة للحلول التوفيقية والمتشبثة بالانفرادية بالحكم بالرغم من ان قاعدتهما الشعبية تآكلت الى حد التشكيك في مشروعيتها؛ لذلك، يكون من صالح الطرفين المتنازعين، إذا ارادا صالحا لشعبيهما، التخلّص من النزعات المتطرفة والإقصائية والاحتكام الى الرأي العام عن طريق انتخابات عامة، حرة ونزيهة ومراقبَة من طرف منظمة الأمم المتحدة، مثلما حصل ذلك بنجاح في مناسبات سابقة؛ فإن إعادة ترتيب الشأن الداخلي على هذه الأسس الديمقراطية سينجرّ عنه تعاطف كبير من طرف الرأي العام العالمي الذي كان له تأثير شديد وإجابي على مواقف السلطات السياسية القائمة، وما زال.
-* وعلى المستوى الدولي، فانه من المحبّذ جدا رفع القضية الفلسطينية الى المحافل الدولية الأكثر تعاطفا مع القضايا العادلة، ونعني وبالخصوص، ”الجلسة العامة” لهيئة الأمم المتحدة لكونها الملتقى العام لجميع الدول ولكونها المحفل السياسي الذي يطبَّق فيه مبدا التصويت على أساس ”الأغلبية”، على خلاف مجلس الأمن الذي يسيطر فيه مبدأ ”الفيتو”؛ وفي هذا السياق، فإنه يتعين خصوصا ان نلفت نظر الجميع الى اهمية التوصية للجلسة العامة للأمم المتحدة عدد 5/377 بتاريخ 3 نوفمبر” 1950 الاتحاد من اجل السلام ” والمسماة ”توصية اتشسون”؛ فإنه من المفيد الاعتماد عليها عند رفع القضية الفلسطينية لكون هذه التوصية ستعطي مشروعية واضحة لتدخل ”الجلسة العامة” في سبيل الحل السلمي للمشكلة؛ فلا فائدة في الاتجاه الى مجلس الامن، كما حصل هذا في الاسبوع الفارط ؛ لهذا، فإنا نُهيب بمؤتمر دول الخليج والدول الآسيوية وبالدول العربية المشاركة حاليا في ”قمة القاهرة للسلام” )… الفاشلة، مع كل أسف( ان يعتمدوا على التوصية المذكورة وان يرفعوا الشكلة الفلسطينية الى الجلسة العامة للأمم المتحدة على هذا الأساس؛ ففي ذلك احراج شديد لمن اخترع تلك التوصية )أي الولايات المتحدة الامريكية، بذاتها(، وفي ذلك أيضا فرصة سانحة للتعريف بالقضية العادلة للشعب الفلسطيني لدى جميع أعضاء هيئة الامم المتحدة وللتأثير العميق على الراي العام العالمي لفائدتها.
-* إن التأكيد على التوجّه الى هيئة الأمم المتحدة – وخاصة، الى الجمعية العامة منها – يكوّن فرصة ذهبية للدفاع على القضية الفلسطينية وعلى تمكين الفلسطينيين من استرجاع أراضيهم المسلوبة، وذلك لسببين أساسيين: *- السبب الأول هو أن هذه الندوة الأممية ستكون فرصة ثمينة لوضع إسرائيل في قفص الاتهام وللتشنيع باستهتاره بالقانون الدولي، عموما، والقانون الدولي المتعلق بالحروب وبمنظومة حقوق الانسان في كل فروعها وبالقانون الدولي الإنساني، على وجه الخصوص؛ *- والسبب الثاني والأهم يتعلق بالموقف الأمريكي الجديد من القضية الفلسطينية: فبعد المساندة الدؤوبة للمواقف الإسرائيلية منذ بداية المأساة في 1948، فإنه يبدو ان الموقف الأمريكي تطور لأول مرة وبشكل ملحوظ ومؤكَّد، عبرت عنه بدون أي التباس اعلى سلطة سياسية في تلك الدولة، أي رئيس الولايات المتحدة الحالي، الذي صرّح وكرّر بصورة واضحة ان بلاده تساند مبدأين اساسين لحل المعضلة الفلسطينية، هما: *- الحل السلمي – ما يعني عدم رضاه على السياسة العدوانية الإسرائيلية الحالية، *- وحل ”الدولتين المتجاورتين والمتسالمتين” على هذه الرقعة من الأرض، وأنه لا يوجد أي حل دائم غيره؛ ونظرا لهذا التحول الجذري في الموقف الأمريكي حاليا، ونظرا لما قد تُخفيه الانتخابات الرئاسية القادمة، فإنا نرى انه من صالح القضية الفلسطينية والعربية ان يقع تسجيل هذا التحول التاريخي بصورة رسمية في الجلسة العامة للأمم المتحدة المقترح دعوتها خلال السنة الحالية والعمل على تنفيذ هذه القرارات على ارض الواقع اثناء سنة 2024، ان شاء الله….
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 24 اكتوبر 2023