لن نخوض في الأسباب التي جعلت الرئاسات المتتالية بعد 2011 تتخلى على هذا النحو عن مسؤولياتها في وقت كانت تتذمر من تهميش دورها الدستوري وتطالب بتعديل الدستور الى نظام رئاسي او حتى رئاسوي. غير ان التدخلات الخارجية في شؤوننا الداخلية وتحديدا من قبل مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي ومن ورائهما فرنسا، لعبت دون شك دورا أساسيا في دفع الحكومات المتعاقبة لتبني الاستراتيجيات والسياسات التي تخدم مصالحها الحصرية دون غيرها.
وفي هذا الصدد نذكر بالدور المحوري لفرنسا في تحديد التوجهات الاستراتيجية لمؤتمر دوفيل لمجموعة السبع المنعقد بفرنسا في ماي 2011 الذي قدم اغراءات مالية لتونس لتحفيزها على الاستمرار في سياسة التبادل الحر والتوسع فيها من خلال “آليكا” .كما تدخلت فرنسا وحلفائها الغربيين في مرحلة اعداد الدستور لإتاحة المجال لمزدوجي الجنسية من التونسيين للترشح لرئاسة الجمهورية. وقد لوحظ ان كافة الحكومات المشكلة بعد 2011 ضمت عددا هاما من حاملي الجنسية المزدوجة وتحديدا الفرنسية الذين تقلدوا مناصب أساسية صلبها في المجالات الاقتصادية وفي اعلى مستوى القرار.
واللافت ان رئاسة الحكومة أضحت منذ 2014 تسند شبه حصريا الى مزدوجي الجنسية الفرنسيين وتحول هذا التقليد الى شبه قاعدة انطلاقا من حكومة المهدي جمعة وصولا الى حكومة الفخفاخ. ولعل هذا ما يفسر ان هذه الحكومات تجاهلت البنود الاقتصادية والاجتماعية والسيادية لدستور 2014 وعملت دون هوادة على تغليب المصلحة الفرنسية الغربية على حساب مصلحة الشعب التونسي.
وللتذكير كانت الأحزاب الفائزة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي المكونة للترويكا قد نسجت على نفس المنوال والتوجهات الاقتصادية الليبيرالية. وكانت من أولى خطواتها المجسدة لهذه السياسة، الامضاء على برنامج عمل مع الاتحاد الأوروبي في نوفمبر 2012 التزمت بموجبه بأنهاء التفاوض وامضاء “آليكا” بحلول 2016. كما امضت على اول برنامج للإصلاح الهيكلي مع صندوق النقد الدولي سنة 2013 مما ساهم في اغراق تونس في المديونية العدمية.
ونفس التمشي انتهجته حكومة المهدي جمعة التي تتحمل مسؤولية مضاعفة بحكم تنكرها للبنود السيادية وللأهداف الاستراتيجية لدستور 2014 بفتحها المجال لتدخل فرنسا المباشر والعلني في اعداد ما سمي باستراتيجية إعادة بناء تونس 2016 – 2020 إضافة للتوقيع على برنامج العمل مع الاتحاد الأوروبي 2013 -2017 الذي فتج المجال للمفاوضات حول “آليكا”. كما وقعت على “شراكة التنقل” التي تسمح بالهجرة الجماعية والانتقائية للكفاءات والطلبة والنخب، مع إلزام تونس باستعادة مواطنيها من المهاجرين غير الشرعيين وإقامة معسكرات بالنسبة للأجانب غير النظاميين المرحلين من أوروبا.
اما حكومتي الصيد والشاهد، فقد كرستا هذه التوجهات من خلال إعطاء الأولوية للمفاوضات حول “آليكا” وادماج اهم بنودها في القوانين التونسية تزامنا مع تنقيذ البرنامج الثاني الرباعي للإصلاح الهيكلي الموقع مع صندوق النقد الدولي في ماي 2016. علما انه يتضمن التزامات خطيرة ومنها خوصصة المنشآت العمومية في إطار ما سمي بـ”إصلاح الدولة التونسية وإعادة النظر في وظائفها” ومزيد الضغط لتجريدها من أي دور اقتصادي واجتماعي وهو ما يتناقض كليا مع دور الدولة التعديلي مثلما حدده الدستور.
ضرورة التنسيق بين رئاستي الجمهورية والحكومة لتفادي تكرار هذه الاختلالات
بعد تشكيل الحكومة القادمة قد يكون من المناسب ان يقع التنسيق بين رئاستي الجمهورية والحكومة لتنظيم حوار وطني يفضي الى الاتفاق على موقف وطني جامع ورؤية استراتيجية لمستقبل العلاقات التونسية الأوروبية الفرنسية. وعلى أساس هذه النظرة الموحدة يمكن الدخول في مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي وكذلك مع مجموعة السبع دول الصناعية الكبرى باعتبارها المتحكم الحقيقي في سياسات وتوجهات صندوق النقد الدولي. كما يمكن فتح مفاوضات ثنائية استراتيجية مع اهم الشركاء وخاصة منهم فرنسا والمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة وبريطانيا واليابان لبحث كبرى القضايا المكبلة لتونس والمهددة لاستقرارها. وفي طليعة هذه الملفات، معالجة المديونية المفرطة والعجز المالي والتجاري وإيقاف نزيف تهريب الأموال واسترداد الأموال المنهوبة وغبرها من القضايا ذات الأولوية. هذا الى جانب احياء دور الدولة في مجال التخطيط الاستراتيجي والشراكة المالية والاقتصادية مع الشباب والقطاع الخاص في بعث المشاريع الكبرى وتنمية المناطق المحرومة على أساس التمييز الإيجابي.
يلاحظ ان الجانب الأوروبي الغربي يسعى من خلال صندوق النقد الدولي للتحكم في دور الدولة التونسية وذلك تحت عنوان “اصلاح الدولة واعادة النظر في وظائفها” من منظور منظومة اقتصاد السوق المعولم. وهذا هو الإطار الذي يندرج فيه التزام تونس بخوصصة المؤسسات العمومية ومزيد اضعاف المهام الاقتصادية والاجتماعية للدولة. لكن جائحة كورونا أظهرت أهمية التمسك بدور الدولة ووظائفها الاستراتيجية والسيادية والاقتصادية الاجتماعية كما حددها الدستور التونسي.
الخلاصة والاستنتاجات
لعلها الفرصة الأخيرة المتاحة لتشكيل حكومة جامعة وقادرة على التعاطي بجدية مع مشاكل التونسيين والاستجابة لتطلعاتهم، ولتحقيق هذا الغرض لا بد من تغيير مقاربة الحكم الخاطئة المتبعة الى حد الآن. هذه المقاربة تقوم على استرضاء الأطراف الخارجية وتغليب مصالحها طمعا في دعمها السياسي والمالي لضمان الاستمرار في السلطة باي ثمن. وهذا ما أدى الى تهميش التونسيين في بلادهم وحرمانهم من خيراتها ومن الامتيازات المسندة حصريا للمستثمرين الأجانب بحجة توفيرهم مواطن الشغل. وهو ما أدى الى المأزق الحالي والى وضع اقتصادي ومالي كارثي ينذر بإفلاس الدولة ويهدد كيانها واستمراريتها إذا لم تتخذ التدابير التصحيحية اللازمة قبل فوات الأوان. وفي هذا الصدد، لا بد من التأكيد على انه لا يمكن فصل تغيير منوال التنمية عن تغيير منوال العلاقات التونسية الأوروبية الغربية والأطر المنظمة لها. ويتطلب ذلك مراجعة سريعة لعدة اتفاقيات وقوانين مضرة بالسيادة الوطنية وبالتوازنات المالية للدولة لعدم دستوريتها ومنها اتفاقية 1995 مع اوروبا والقانون الأساسي للبنك المركزي، وقانون الاستثمار والقوانين المكبلة للفلاحة ولصناعة الادوية التونسية والقطاعات الإنتاجية بالمواصفات الأوروبية.
ولتحقيق هذه الأهداف لا بد من القطع مع المحاصصات الحزبية في تركيبة الحكومة والتركيز على حكومة كفاءات خالية من الحاملين للجنسية المزدوجة ومسنودة بخطة استراتيجية مستوحاة من البنود السيادية والاقتصادية والاجتماعية للدستور وكذلك من التجربة التنموية التونسية الناجحة في المرحلة التأسيسية الأولى للدولة الوطنية الموالية للاستقلال.
أحمد بن مصطفى – باحث في القضايا الاستراتيجية والدبلوماسية