الشارع المغاربي: احتد الجدل في الآونة الأخيرة حول مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق على خلفية ارتباطه بالانعقاد المفاجئ للدورة الثانية للمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي في ظل أزمة حكومية حادة كان الجميع يتوقع أن تؤدي إلى إقالة الحكومة وتكليف فريق حكومي جديد لقيادة البلاد على أساس وثيقة قرطاج 2 إلى غاية الانتخابات الرئاسية والتشريعية لسنة 2019.
والملاحظ أن الجانب الأوروبي كان يضغط باستمرار منذ انطلاق المباحثات التمهيدية في أكتوبر 2015 للتسريع بإنهاء المفاوضات والحيلولة دون تحول الملف إلى قضية رأي عام في أفق الاستحقاق الانتخابي القادم وغلق المجال أمام المجتمع المدني التونسي المطالب بإعادة النظر جذريا في مضمون الاتفاق ومرتكزاته الأساسية اعتبارا لطابعه غير المتكافئ وخطورته على المصالح العليا للبلاد.
وظل هذا الموقف النقدي يستند إلى بعض التسريبات بسبب حجب المشروع وبقائه طي الكتمان إلى غاية حصول بعض المنظمات ومنها جمعية “آيتاك“الفرنسية على نسخة من وثيقة العمل الأوروبية المقدمة إلى الجانب التونسي حيث تبين أنها مطابقة لتلك التي كانت أساسا للتفاوض مع المغرب الأقصى الذي قرر تعليق المفاوضات بناء على توصيات دراسة من خبراء مغاربة حذروا من الانعكاسات السلبية لـ“أليكا” على الاقتصاد المغربي.
وسيخصص هذا المقال للتعريف بمضمون مشروع الاتفاق ومخاطره على تونس وذلك استنادا إلى ما يتوفر من بحوث ودراسات علمية لهذا الملف الدقيق – المرتبط شديد الارتباط بمسيرة تونس التنموية وتاريخ العلاقات التونسية الفرنسية الأوروبية – والذي يبدو انه بلغ مرحلة مفصلية بعد تعهد رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد، تحت الضغط الأوروبي المتواصل، بانهاء المفاوضات وإمضاء الاتفاق في غضون سنة 2019.
خصوصيات مشروع “أليكا“
وتجدر الإشارة إلى إن هذا المشروع يختلف جذريا عن الاتفاقيات السابقة المبرمة مع الجانب الأوروبي منذ الستينات من حيث انه ليس مجرد توسيعا للتبادل التجاري الصناعي الذي تم إرساؤه بموجب اتفاق 1995 بل إدماجا شبه قصري للاقتصاد التونسي في الفضاء الأوروبي على نحو يسمح للمستثمرين الأوروبيين وللرأس المال المعولم باكتساح كافة القطاعات والأنشطة الإنتاجية الصناعية والمالية والخدمية والتجارية التونسية الداخلية والخارجية دون قيود إدارية أو كمية أو ديوانية.
كما يلزم الاتفاق تونس بتبني المواصفات والمنظومة التشريعية الأوروبية المشتركة العابرة للحدود كشرط للنفاذ إلى الأسواق الأوروبية مع إزالة كافة التدابير والإجراءات الحمائية الواردة بالقوانين التونسية لصالح المؤسسات العمومية التونسية العاملة في القطاعات الإستراتيجية التي ستصبح قابلة للخوصصة.
والغريب في الأمر انه إلى جانب تخليها عن كافة الإجراءات الحمائية والتمييزية لصالح المؤسسات التونسية، فان تونس مطالبة بتوفير الحماية للمستثمرين الأجانب من خلال الالتزام بعدم تأميم استثماراتهم ومنحهم حوافز وامتيازات استثنائية وتمكينهم من اللجوء إلى المحاكم والمؤسسات التحكيمية الخاصة لتغريم الدولة التونسية في حالة اتخاذ تشريعات ذات طابع اجتماعي تتعارض مع “التبادل الحر” أو تحد من قدرتهم على تحقيق الإرباح.
وهكذا يتضح الطابع المختل لمثل هذه الاتفاقيات التي تفضي في النهاية إلى إرساء نوع جديد من القيود الحمائية داخل الحدود التونسية لصالح الطرف الخارجي المهيمن أي الاتحاد الأوروبي على حساب المؤسسات التونسية المكبلة أصلا بتخلفها التكنولوجي مما سيؤدي حتما إلى سيطرة أوروبية أحادية على كافة مفاصل الاقتصاد التونسي مثلما سيتبين لنا من العرض التالي للقطاعات المستهدفة بالتحرير.
هذا إضافة للقيود المفروضة من جانب واحد على حرية الحركة للأشخاص والمؤسسات مما يفرغ مفهوم “التبادل الحر” من أي مضمون حقيقي ويحوله إلى أداة جديدة لتأكيد الهيمنة الفرنسية والأوروبية الغربية على تونس والضفة الجنوبية للمتوسط.
القطاعات المستهدفة بالتحرير
_ إقرار مبدأ التحرير الكلي وحرية الاستثمار في تجارة الخدمات وبالذات في مجالات النقل والسياحة والاتصالات مع الإشارة إلى إن الاستثمارات الغربية في هذه القطاعات تطورت بشكل ملحوظ في إطار اتفاقية 1995(الخدمات المرافقة للسلع الصناعية كالسيارات…..) وقوانين الاستثمار التونسية التي أقرت بمبدا حرية الاستثمار لفائدة الأجانب باستثناء بعض القطاعات التي يلح الجانب الأوروبي على تقليصها مع إلغاء القيود في نسبة المساهمة الأجنبية والسماح بالاستثمار عن بعد دون حاجة لفتح مكاتب بتونس.
والملاحظ أن القانون الجديد للاستثمار الذي أُقرّ استجابة لـ“الاصلاحات” المطلوبة من صندوق النقد الدولي يستند إلى نفس المبادئ والمنطلقات التحررية ويضيق من الاستثناءات مستجيبا إلى جانب هام من الطلبات الأوروبية في تكامل واضح مع «أليكا».
_ تحرير الأنشطة الزراعية وتجارة المواد الفلاحية : هذه الملفات كانت مطروحة منذ التوقيع على اتفاقية 1995 والبروتوكول الإضافي الموقع سنة 2000 الذي يسمح بالإعفاء المتبادل الكلي أو الجزئي وفقا لجداول محددة لحصص محدودة من الصادرات الزراعية، ويرغب الجانب الأوروبي في تجاوز الصعوبات والتحفظات والعقبات الإدارية والكمية والديوانية التي حالت إلى حد الآن دون مزيد تحرير السوق التونسية أمام الصادرات الزراعية الأوروبية على أساس المعاملة بالمثل ودون مراعاة للعجز الغذائي الكبير الذي تشكو منه تونس قياسا بالجانب الأوروبي نتيجة إهمالها القطاع الفلاحي فضلا عن التفاوت الشاسع في الطاقات الإنتاجية ومستويات التنمية التكنولوجية.
وللتذكير تبقى الفلاحة التونسية، رغم ما تشكو منه من تهميش، قطاعا حيويا ومركزيا في الاقتصاد التونسي وهي تساهم بنسبة 8.5 بالمائة في الناتج المحلي الإجمالي كما تشغل 15 بالمائة من الناشطين وذلك رغم الإصرار التي لحقتها جراء السياسات الليبرالية المفروضة منذ التسعينات من قبل المؤسسات المالية الدولية التي أعطت الأفضلية للزراعات التصديرية مثل زيت الزيتون والفواكه والغلال وموارد الصيد البحري التي تسيطر الأطراف الخارجية على أنشطتها المربحة ذات القيمة المضافة العالية على مستوى التثمين الصناعي والتصدير.
ومن التبعات المدمرة المنتظرة من مزيد إقحام الفلاحة التونسية في العولمة والتجارة المختلة عبر “أليكا” توسيع تبعية تونس الغذائية من الحبوب التي تتجاوز حاليا الستين بالمائة وتحويل وجهة الفلاحة والأراضي الفلاحية التونسية إلى الزراعات التصديرية الأجنبية – وحتى إلى السيطرة الخارجية المباشرة عبر” الغموض” التشريعي الوارد بمجلة الاستثمار الجديدة – وذلك على حساب الأمن الغذائي والمائي التونسي فضلا عن تكريس تبعية تونس الخانقة في مجال البذور الفلاحية والمواد الأولية وتكنولوجيات الإنتاج.
وكان من المفترض أن يدفع الوضع الخطير والكارثي الذي بلغته الفلاحة التونسية، السلطات الحاكمة إلى التفكير في سبل إنقاذ هذا القطاع الاستراتيجي من خلال مراجعة جذرية لهذه السياسات الكارثية بدلا من مزيد تثبيتها وتكريسها.
_ تحرير سوق الطاقة والخدمات العمومية والأنشطة الفرعية : والمطلوب في هذا المجال تعديل التشريعات التونسية لتحرير بعض الأنشطة التي ما تزال محمية ومحتكرة من قبل الدولة عبر المؤسسات العمومية ومنها خاصة توزيع الكهرباء مع التذكير بأن إنتاج الكهرباء والبترول والغاز أصبح منذ التسعينات نشاطا مفتوحا أمام المستثمرين الأجانب بموجب قوانين واتفاقيات مثيرة للجدل بسبب طابعها المختل والمضر بموارد تونس ومصالحها مع الإشارة إلى ارتباط هذا الملف الحساس بقضية خوصصة المؤسسات والخدمات العمومية التي تطال أيضا قطاع توزيع المياه والنقل الجوي والبري والاتصالات والتعليم وغيرها.
أما قطاع الطاقات الجديدة والمتجددة بما فيه استغلال غاز “الشيست“، فانه يكتسي أهمية خاصة بالنسبة للجانب الأوروبي الذي يرغب في الحصول على امتيازات قانونية تخول له إقامة مشاريع ضخمة لإنتاج وتصدير هذه الموارد ومنها الطاقة الشمسية انطلاقا من الجنوب التونسي مع الحصول على ضمانات تخول له السيطرة على مواقع الإنتاج وممرات نقله وتصديره وهي قضايا حساسة ومحفوفة بالغموض بسبب ما يحيط بها من تعتيم إعلامي متعمد.
_ تحرير الاستثمار وحماية المستثمرين: يتكامل هذا الجانب من الاتفاق مع مجلة الاستثمار الجديدة ليقلص إلى ابعد الحدود الاستثناءات لمبدأ حرية الاستثمار وحق الجانب الأوروبي في الولوج إلى كافة الأنشطة والقطاعات الإنتاجية والخدمية مع الحصول على الحماية والضمانات القصوى بما في ذلك تغريم الدولة على التدابير التي قد تعيق أو تحد من الإرباح وإلغاء كافة الإجراءات التمييزية او الحمائية للمؤسسات الوطنية التونسية من خلال إرساء مبدأ المعاملة الوطنية لفائدة الأجانب.
_ فتح الصفقات العمومية لفائدة المؤسسات الأوروبية: ويشمل ذلك تعديل القوانين لفتح إمكانية مساهمتها في طلبات العروض الصادرة عن الهيئات العمومية بما فيها البلديات والمتعلقة بتوفير سلع أو خدمات وتشييد بنى تحتية أو غيرها.
_تيسير المبادلات ومزيد تقليص الحواجز أمام التجارة: ويقتضي ذلك تبني تونس المعايير والقوانين الأوروبية في مجال الإجراءات الديوانية والإدارية والمحاسبية…. المندرجة في إطار إزالة ما يسمى بالحواجز غير الديوانية وذلك لتيسير المعاملات بالنسبة للمؤسسات الأوروبية.
هذه هي ابرز المحاور الواردة في مشروع الاتفاق الأوروبي المعروض على تونس والمتميز بتجاهله الكلي لخصوصيات الاقتصاد التونسي ولحاجات تونس التنموية وكذلك للتفاوت الكبير بين الجانبين في مجالات التطور الصناعي والعلمي والتكنولوجي على نحو يجعل من تونس لقمة سهلة وليس شريكا قادرا على التفاوض بندية والاستفادة من التجارة الدولية وبالذات الأسواق الأوروبية التي أضحت على العكس أكثر انغلاقا وصعوبة أمام حركة السلع والخدمات التونسية وكذلك أمام الفاعلين الاقتصاديين التونسيين فضلا عن القيود الأحادية على حرية الحركة والسفر والسياحة.
وسنتعرض بأكثر تفصيل لهذه الجوانب في الجزء الثاني من هذا المقال الذي سنتناول فيه بالتحليل الوجه الخفي لهذا الاتفاق وما ينطوي عليه من مخاطر على سيادة تونس واستقلالية قرارها وخصوصياتها الثقافية والحضارية فضلا عما يشكله من تهديد لكيان الدولة التونسية وأمنها الوطني ومقدرات شعبها ومستقبلها.