الشارع المغاربي: جزى الله الشدائد كل خير ، فما من مرارة يتجرعها الإنسان –فردا أو جماعة- إلا وكسب منها قوة تؤهله إلى مزيد الصبر على المكابدة للنصر على العوائق ، في مجرى بسط سلطان الإرادة الإنسانية -يسيرا يسيرا – على ملكوت الحتمية ،في بعديها الطبيعي والتاريخي.وما من مشير إلى ما ذهبنا إليه قدر ما أشارت إليه التجربة الوطنية منذ 2011 حتى 25جولية2021 ، ثم من ذلك التاريخ حتى اليوم 25 جويلية 2023 . لحظتان تتنزلان بداهة في مجرى التجربة السياسية التونسية في عهد الجمهورية التي نحيي اليوم الذكرى السادسة بعد الستين لتأسيسها على يدي المجاهد الأكبر الزعيم الحبيب بورقيبة والذين معه. رحم الله الأموات منهم، وحفظ الأحياء في عز وخير عميم .ولا يفوت الكريم في هذا اليوم الأغر في تاريخنا الحديث ،أن يترحم على روح آخر من رحل عنا من هؤلاء الكرام ، فقيد الوطن وأحد بناة دولة الاستقلال ، المناضل الرشيد صفر نجل المناضل الطاهر صفر،رحمهما الله رحمة واسعة .
*I*
واللحظتان المشار اليهما تلتقيان –موضوعيا- في موضع الاختبار الكبير الذي رشّح التاريخ تونس له :اختبار متانة بناء دولة الاستقلال ،وقدرتها على الصمود لحدثان الدهر ومكر البشر. فبادرة 25جويلية2021 كانت بادرة وطنية لاريب فيها ’وكان لها أن تجعل الأسوأ وراءنا ، دون غفلة عن الأصعب الذي بقي علينا أن نواجهه . غير أن تدبر الشأن السياسي الوطني سار على غير المنهج السليم، حتى التقت نتائج لحظة البادرة الوطنية (جويلية 2021 –جويلية 2023) بنتائج لحظة المكر بالوطن (2011-2021)،على الرغم من تناقض منطلقاتها،نظافة اليد وحسن النوايا في الحالة الاولي ،ادعاء مخافة الله والانتصار للعدل في الحالة الثانية . والاسوأ هو جملة الويلات التي تجرعتها تونس تحت حكم الإسلام السياسي ،ومن ولاه سواء عن سوء تقدير يشي بوهن الفكر السياسي التونسي الراهن ،أو عن انتهازية بلهاء ألهاها العاجل عن الآجل .
ومن مفارقات أوضاعنا الوطنية الراهنة ، ان لحظة البر ونظافة اليد التي طلع بها علينا الرئيس سعيد ، أفضت عمليا الى ما افضت اليه لحظة المكر وجشع البطون التي طلع بها علينا بدر ”الخواجية” ، ،ذلك انه حين يغيب حسن التدبير وفقا لما يقتضيه العقل السياسي ، يكون من البر ماهو أشد ضررا من العقوق.فليس لأحد إن يشك في حسن نوايا السيد الرئيس ،ولا في نظافة يده ، غير أنه لا حجة لأي كان على صحة ذلك الادعاء لأن النوايا لا يعلمها إلا الله ، ولأن المدعي لم يتحمل في حياته اية مسؤولية يمكن أن تتيح له فرصة إظهار نظافة يديه. فالأمر يدور إذا على معنى حسن الظن المسبق ،وتوسم الخير في من انتخبناه للأمانة العظمى ، نرجو ان تفصح الأيام عن حقيقته ،كما أفصحت عن عبث الإسلام السياسي بالوطن ،تاريخا وقيما ورموزا ،وثقافة وانجازت .
ومما يشير في جلاء الى مفارقة التلاقي حتى التماهي، بين نتائج البر والعقوق ، أن بادرة 25دجويلية التاريخية تحولت –بفعل عمش المقاربة النظرية ،حتى حين تداهمها -من ناحية أولى- الفيوض العرفانية ،و إن بضرب من الإعجاز الرباني ، وحتى حين يكون صاحبها”مشروع شهيد” ،وقلة الخبرة العملية –من ناحية ثانية- حتى ولو صدرت عن مواهب ربانية – تحولت الى كابوس وطني ،الله وحده يعلم أيان مرساه ! ولكن ما من أحد يحق له اليوم أن يرجو منها خيرا ،رغم أنها قد ولدت من رحم البر بالوطن ،ومن روح الاستجابة لنداء شعب انفتحت باصرته على مكر المحتالين ،فقرر التخلص منهم ، بدأ بالتشهير بمراوغاتهم من قبل برلمانيين أخلصوا لله وللوطن ،في مقدمتهم مجموعة الحزب الحر الدستوري ، حتى أفراح ليلة 25جويلية بالتصر على الاستعمار الداخلي .
وما يحز في النفس حقا ،ان السيد الرئيس استكثر على نفسه الارتقاء الى مصاف الزعيم الوطني.”ولم ار في الناس عيبا ***كنقص القادرين على التمام”. فلا ”الاستشارة الالكترونية ”الشهيرة، ولا ”الاستفتاء”على الدستور الحزين ،ولا ” البرلمان” الجاثم على صدورنا بعد” انتخابات” هزيلة ” بقانون” شتت الصفوف ، ولا خلع رؤساء البلديات المنتخبين ’ولا طريقة معالجة ما يشكوه القضاء من مصاعب حقيقية أو متوهمة، ولا اللهث المتزايد وراء ”الأموال المنهوبة”’ولا مطاردة ”السراق” ،ولا محاربة استكراش المحتكرين ، وشجع ”أباطرة التجارة الموازية”…فما من شيء من ذلك كله يمكن أن يأتي أكله ، لافي القريب العاجل، ولا حتى في الآجال المتوسطة ،لا لخطأ في المسائل ذاتها ، بل لفساد بعيد في المنهج المتبع في معالجتها .فجميع المسائل التي طالما عاود الرئيس التشهير بها تشهيرا مملا ،هي مسائل صحيحة يعلمها الخاص والعام ،ويشكوها ويلاتها جميع المواطنين، وان بدرجات مختلفة .والمطلوب من رئيس الدولة معالجتها المعالجة الصحيحة العاجلة ،لا التساؤل عنها -خاصة على جهة السؤال الإنكاري – مثل عامة المواطنين،لاسيما وانه استبد بالحكم استبدادا مطلقا منذ جويلية 2021 ، حتى أصبح الحكم عنده ”بجرة قلم” !
**II**
ذلك ما يجعل بواعث الخوف من مستقبلنا ، أقوى من عوامل الاطمئنان إليه .فليس ثمة اليوم ما يشير إلى إمكان آي إصلاح في بلد فسد فيه الكثير في جميع مجالات الحياة الوطنية ،وبلغ منها الاضطراب مبلغا لا سابق له ،تراوح بين الخبز اليومي حتى الدواء الضروري ، مرورا ببقية لوازم العيش المتراوحة بدورها بين الندرة والفقدان والغلاء المتصاعد ،فكان من ”الطبيعي” والحال تلك ، ان تظهر بيننا سلوكات لا نرضاها ، وعنف لا نريده ، وأنواع من الاضطرابات النفسية المترتبة عن سوء احوال فئات هشة من التونسيين، ولا سيما الشباب منهم ،فسهل على المترصد استمالتهم إلى دروب ضائعة مثل استهلاك المخدرات او المغامرة بالهجرة الى الخارج … ويعني ذلك كله أن الشعب التونسي يعيش –في واقع أمره، وخلافا لمرآة الاستطلاعات –وضع إحباط نفساني –أخلاقي عميق بسبب وعود عريضة سابقة ، تبين له اليوم أنها سحاب كاذب.
لذلك كان على رئيس الجمهورية أن يواجه إحساسا جمعيا متناميا بعدم الثقة ، لم يعد في الإمكان مقاومته بلوك ثقل مخلفات العشرية الماضية، ولا بالتذكير بنظافة يديه ولا بمصاعب يشهدها العالم كله .فما من أحد عيّاب بنا فضائله على التشهير برذائل الآخرين، إلا بان خواء دعواه بظهور عجزه عن بناء الحجة ودفع الشبهة .فأي معنى بعد سنتين من الحكم المطلق لشعار” الشعب يريد”؟.
***III***
غير أنه ما من تونسي ذي حس سليم يمكن له أن يرتاح لتعمق فشل السيد رئيس الجمهورية لانه –في نهاية الأمر فشل تنعكس سوءاته على تونس كلها .لذلك بات لزاما علينا جميعا أن نستعيد قيمنا التي ربتنا عليها مدرسة الجمهورية ،وأولها الاعتزاز بالهوية الوطنية التونسية والولاء لها ولها وحدها ، والوعي الراسخ بالانتماء الحضاري’مغاربيا وعربيا واسلاميا ومتوسطيا وافريفيا وانسانيا لنواجه مستقبلنا داخليا وخارجيا .فمن معاني تعدد الانتماء التونسي كان لنا –مع الحرص الشديد على تطبيق القانون في بعديه الوطني والدولي -ألاّ نقع في ما وقعنا فيه أخيرا من سوء تفاهم مع إخواننا الأفارقة .ومن معاني وحدة الهوية الوطنية بما توجبه من الولاء لتونس ولتونس وحدها يمكن أن نستمد القوة الكافية لتجاوز جميع مصاعبنا القائمة اليوم كالجبال الأوتاد ،فإذا هي من ماض هشيم .
غير أنه لاحيلة للتونسي حين يكون سبب ذلك الفشل هو الرئيس نفسه، لتفرده بالسلطة ، وعزل نفسه عن القوى الاجتماعية الحية والاحزاب السياسية الوطنية الحاضرة في المجتمع ،فاذا هو معرض عن كل ما عرض له ،لايستظهر لما يفعل ويسطر لنا الا بما أوتي من الهام يعسر فهمه.فما ينسب اليه من ”’شعبية” انما هي في الحقيقة نقد زائف ،وريح عاصف .فهو نقد زائف لانه لايعبر عن تعلق بشخص لايعرف الشعب عنه شيئا ،ولا وجود له في الساحة الوطنية قبل اليوم ،بل هو يعبر عن ارتياح لأي كان يمكن ان يعصف بالخوانجية .ولأمر كهذا لم يقم الرئيس –حتى اليوم –باي اجراء حقيقي ضدهم سياسيا كأن يمنع ”بجرة قلم ” قيام الأحزاب السياسية على أسس عرقية او دينية او لغوية .كما لم يتخذ ضدهم اي اجراء ثقافي كأن يحل ”بجرة قلم ” ‘الجمعيات الدعوية الظلامية وفي مقدمتها ”القرضاويات ” و”الرقابيات”وما شابهها …
أما الإجراء القضائي فقد جاء في وضع شهدت فيه المؤسسة القضائية ما شهدت مما لاعهد لها به مثل عزل قاض ”بجرة قلم’ او رفض تطبيق حكم قضائي دون اعتراض قضائي .لذلك أصبح اجتهاد القاضي –سواء بالإدانة أو بالبراءة- فريسة لشبهات لا تنحسم فضلا عما يشاع عن عدم احترام الصيغ الشكلية في تطبيق تلك الإجراءات .وهكذا وجد الإسلام السياسي في ما يسميه عادة المعاملة”الامنية-القضائية” خير معين على استرداد موقع التظلم ومكانة الضحية مع إتقان فن التماوت في الداخل والخارج ، فضلا عن مواصلة انبعاث نيابات حزبية اخوانية تتستر بخلافات متصنعة بين سدنة الحزب الأصلي .وهل نحن في حاجة الى التذكير بان المواطن قيس سعيد كان مرشح الاخوان في انتخابات 2019؟ فكيف سيتحول –بالحقيقة لا بالاسم او بالظاهر -من مرشح مرغوب فيه، الى رئيس مرغوب عنه ؟الم يحقق الإسلام السياسي بدستور وهو خارج الحكم ظاهريا في الاقل بفضل دستور 2022 ما عجر عن تحقيقه وهوفي الحكم مباشرة ؟ فهل يمكن اليوم للسيد الرئيس ان يرمي دون ان يرتد عليه سهمه؟ اليست لحظة البر ”25جويلية 2021 –جويلية 2023” مقارنة بلحظة العقوق (2011-2019) أشبه من الماء بالماء ؟أليس من البر ما هو أكره من العقوق ؟
***III***
وهكذا نستبين أنه لاخلاص لتونس اليوم من سوء أوضاعها إلا بقطيعة حاسمة مع لحظتي العقوق البيّن، والبر الساذج ، في اطار الحفاظ على سلامة الوطن ، وامن المواطنين ، ومواصلة مسيرة الانتقال الديمقراطي بالغايات التي رسمها لها شباب مدرسة الجمهورية ،”الشغل والحرية والكرامة الوطنية”، في مجرى الارتقاء بالدولة الوطنية ،دولة الاستقلال ،إلى مصاف الدولة الوطنية الديمقراطية .
فإذا تواضعنا على ذلك الإطار العام ، كان لنا أن نصبو إلى تغيير أوضاعنا نحو الأفضل دون اهتزازات ،ومن غير أن يحرم اي تونسي من حقه في الترشح للمشاركة في إدارة الشأن العام فلا إقصاء ولا تهميش .ويكفي لبلوغ تلك المطالب العالية ان تبعث هيئة وطنية تحت اشراف رئيس الجمهورية تضم خاصة المنظمات الاجتماعية يتقدمها الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين والاتحاد الوطني للمرأة التونسية والهيئات الحقوقية والمهنية .وتكلف تلك الهيئة بالمهام التالية على ان تنجزها في ظرف شهر :1/صياغة قانون انتخابي ينتج العمل بمقتضياته اغلبيه قادرة على الحكم ببرنامج مفصل ينشر شهرين قبل موعد الانتخابات2/الدعوة الى انتخابات تشريعية عامة في خلال ما تبقى من السنة الجارية يترشح لها كل تونسي لاتعوقه عن ذلك موانع قانونية . 3/ وفي انتظار ذلك تتكفل الهيئة المذكورة باعانة الحكومة الحالية على تجاوز مصاعب المالية العمومية الطارئ منها والهيكلي مثل المساعدة على إعداد ميزانية 2024 او مواصلة المفاوضات مع المانحين الدوليين .
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 25 جويلية 2023