الشارع المغاربي: مرّت منذ أيّام، في صمت غريب، الذكرى المئويّة الأولى لميلاد المفكّر والمؤرّخ التونسي الراحل محمد الطالبي. مفكّر جَسور لم يُهادن السلطة، قبل الثورة وبعدها، ولم يتأثّر بغوغاء الجمهرة وجهلها. ومع ذلك تناساه من كانوا يشاطرون آراءه ومواقفه وتحاليله وحتّى من أولاهم تضامنه الكامل زمن بن علي…
البروفيسور محمّد الطالبي مثال بارز للمثقّف العضوي الملتزم بهموم مجتمعه وقضايا عصره. فهو لئن بذل معظم مسيرته الاستثنائيّة في التدريس الجامعي والبحث العلمي، فإنّه لم يتخلّف خلال العشرين عاما الأخيرة من حياته عن الاندماج في الحراك الوطني المتزايد من أجل التغيير السياسي والمجتمعي وزعزعة أوتاد التراث الفقهي المتجمّد، حتّى آخر أنفاسه في الأوّل من ماي عام 2017.
توفّي الطالبي عن عمر تناهز 96 عامًا، وإن بدأ إنتاجه الفكري أواخر خمسينات القرن الماضي بتحقيق لكتاب «الحوادث والبدع» للطرطوشي، فإنّه نشر على امتداد سبعة عقود مؤلّفات غزيرة تزيد عن 30 مؤلّفا بالعربيّة والفرنسيّة والإنجليزيّة والألمانيّة، من بينها على سبيل الذكر: «تأمّلات في القرآن» (1989) و»دراسات حول التسامح» (1995) و»عيال الله» (1992) و»أمّة الوسط» (1996) و»مرافعة من أجل إسلام معاصر» (1998) و»الإسلام: حريّة وحوار» (1999) و»كونيّة القرآن» (2002) و»ليطمئنّ قلبي» (2010) و»المعتقل والديمقراطيّة» (Goulag et démocratie 2011) و»ديني الحريّة» (2011)…
تخصّص أوّل عميد لكليّة الآداب والعلوم الإنسانية بتونس 1966 في التاريخ الوسيط، وعُرف بجرأته في نقد ما يشوب التراث الفقهي من جمود وتحجّر كبيرين، كاسرًا بذلك «صنميّة» الاجتهاد في قراءة التراث الإسلامي. ولا يخفى أنّ المفكّر التونسي الحرّ كثيرا ما أعلن صراحةً عن رفضه المطلق للشريعة الإسلاميّة باعتبارها لم توضع إلّا بعد قرون من الهجرة. ومن المستبعد أن يكون من دأبوا على تشويهه والسخرية منه قد قرؤوا ولو كتابا واحدا من مؤلّفاته الكثيرة، بل يجترّون فقط ما يُروّج على شبكات الميديا الاجتماعيّة من جوانب فولكلوريّة تتعلّق ببعض تصريحاته الإعلاميّة بشأن شرب الخمر وارتداء الحجاب والبغاء والردّة وما إلى ذلك…
معارضة رأس النظام
يجهل الكثيرون أنّ الرئيس الأسبق لمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة) لم يكن يلوك كلماته أو يتردّد في كيل ألوان النقد الحارق حين يسُأل عن مواقفه إزاء أداء السلطة ورئيسها. وهو ما كلّفه ألوانا من الضغوط والتهميش والتهديد في فترات متواترة. حدث ذلك قبل الثورة بسنوات عديدة حين وصف رئيس النظام السابق زين العابدين بن علي بأنّه «يمتلك عبقريّة فائقة في تحويل حلفائه والمفكّرين الأحرار إلى معارضين وأعداء له». وأصبح من ثمّة عدوّا لدودا للنظام السابق خلال العشريّة الأخيرة ن حكمه. وكان له من الجرأة أن أسّس مع المنصف المرزوقي وسهام بن سدرين «المجلس الوطني للحريّات» وهيكلا آخر للدفاع عن حريّة التعبير والإعلام. وهو ما شكّل خطّا فاصلا في نشاطه المواطني.
وفي حوار أجريته معه 2015، برّر الطالبي انسحابه السريع من حزب نداء تونس بوجود مسألة مبدئيّة تتعلّق بطالبته آنذاك الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي بترك شعار (كلّنا تونسيون) لأنّه كلام فارغ، وبأن يعمل الحزب على تجديد الفكر الإسلامي، لكنّه رفض… فكان من الطبيعي أن أغادر نداء تونس لأنّني انضممت إليه لهذه الغاية في نطاق عملي من أجل تجديد الفكر الديني».
رئيس «الجمعية الدوليّة للمسلمين القرآنيّين» عانى الأمرّين خلال فترة حكم الترويكا. فقد عمد السلفيّون إلى تكفيره، ونشروا نصّ التكفير في صفحاتهم بموقع «فيسبوك»، ومن ثمّ أهدروا دمه وكتبوا على سور بيته الذي زرناه في منطقة باردو: «هذه دار الشيطان الكافر محمد الطالبي، وكل من يقتله يفعل مكرمة عند الله»!. وكانت جموعا غفيرة منهم قد تظاهرت ضدّه خلال ندوة أقيمت في مدينة القيروان. كما خرج المصلّون من جامع مالك بن أنس بقرطاج قاصدين «بيت الحكمة» بحثا عنّه حين كان يترأسها…
ومع ذلك لم يتردّد الطالبي آنذاك في الدعوة إلى التمييز بين قيادة حركة النهضة وقواعدها التي اعتبر أنّها تتكوّن جلّها من السلفيين. وقال، في حوار سابق أدلى به لنا، إنّ «حركة النهضة، في حدّ ذاتها، بدأت حركة إرهابيّة فكرًا وممارسة مثل حال تنظيمي أنصار الشريعة وحزب التحرير، لكنّها خرجت اليوم عن هذا التوجّه، وتغيّرت تغيّرا كبيرا». وذهب إلى أنّنا نواجه خيارين، فـ»إمّا أن نقول إن حركة النهضة منافقة وتتستّر بالديمقراطيّة، وإنّها لا تنتظر إلاّ أوّل فرصة كي تعود إلى ما كانت عليه. وهو موقف إقصائي، من شأنه أن يرمي بها في أحضان الجهاديين الساعين إلى إعادتها إلى ما كانت عليه… وإمّا أن نطلب منها أن تكون غير متناقضة في صلبها كي تتطوّر في النهاية إلى حركة ديمقراطيّة من نوع الأحزاب المسيحيّة في ألمانيا وغيرها، فهؤلاء ليسوا إرهابيين، ومن صالحنا أن نساعدهم على التطوّر بتجنّب إقصائهم»…
تجديد الفكر الديني
واجه المفكّر الطالبي تلك التهديدات الحقيقيّة دون أن يتخلّى يوما عن مواقفه المتعلّقة بضرورة تجديد الفكر الديني، معتبرا أنّ ذلك هو السبيل الأجدى لمواجهة الإرهاب الذي عشّشت أوكاره في البلاد. يعتبر الطالبي أنّ التعليم الديني ينبغي أن يتجدّد من أجل إنهاء حالة الفُصام الماثلة بين المدرسة والمجتمع، قائلا «يجب أن نقدّم تعليما دينيّا منسجما مع التقدّم والحداثة وحقوق الإنسان… وأن نقطع أسباب المرض من جذوره، ولا نكتفي بعلاج العوارض التي تُبقي على المرض». وفي رأيه أنّ الاكتفاء بالحلّ الأمني «يُتيح تسكين الداء زمنا، ثمّ يعود سريعا أقوى ممّا كان عليه كلّما توفّرت له الفرصة».
في المقابل، كثيرا ما فنّد المفكّر الطالبي ما يُروّج عن تقديمه فتاوى، معرّفا نفسه دائما بأنّه «مفكّر مسلم قرآني، يُفكّر ويطرحُ آراءً، ولا يُطلق فتاوى، ولا يُلزم أحدا بآرائه، أقوم بواجبي عملا بقوله تعالى: أفلا يتدبّرون هذا القرآن أم على قلوب أقفالها، أنا أتدبّر القرآن وأكتب ما يعنيه تدبّر كتاب الله الذي أعمل به».
وعملا بأحد عناوين كتبه الشهيرة، يقول المفكّر الراحل الذي كان قد أسّس «الجمعيّة الدوليّة للمسلمين القرآنيّين» عام 2012 إنّ «ديني الحريّة لأنّ الله خلقني حُرّا ولو شاء أن يخلقني عبدا أو فراشة لخلقني كذلك… ربّي لم يقل لي إنّ هناك من يترجم كلامه، ولم يُعط تفويضا للسيد فلان ليتكلّم باسمه».
هذه بعض الأقوال المنشورة التي سبق أن أدلى بها لنا المفكّر التونسي الراحل منذ سنوات، حرصنا على إعادة نشرها للتذكير بمفكّر تونسيّ حرّ يأبى النسيان، لاسيما بالنظر إلى المعارك الفكريّة التي خاضها بعد الثورة من أجل بثّ الوعي بشأن تجديد الفكر الإسلامي وإخراجه من تحت عباءة حرّاس المعبد الذين مازالوا يُصرّون على محاولة الهيمنة على العقول والترويج لامتلاكهم الحقيقة الكاملة وإن فات زمانها…
افتتاحية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 21 سبتمبر 2021