الشارع المغاربي : أثناء اشرافه يوم الاربعاء 11 افريل الجاري على افتتاح «الندوة الوطنية حول الاصلاحات الكبرى» اشار السيد رئيس الحكومة الى ان عجز الصناديق الاجتماعية بلغ حدا غير مقبول وان تواصله سيتسبب في عدم القدرة على خلاص جرايات المتقاعدين. هذا الخطاب وان كان يحتوي شيئا من الحقيقة إلا انه بقفزه عن الاسباب الحقيقية للازمة يتحول الى خطاب هرسلة وابتزاز هدفه ارغام التونسيين على القبول بـ«الإجراءات الموجعة» أو الاصلاحات الراديكالية كما عبر عنها رئيس الحكومة.
مما لا شك فيه ان الصناديق الاجتماعية تعيش منذ عدة سنوات ازمة مالية خانقة. حسب معطيات وزارة الشؤون الاجتماعية بلغ عجز هذه الصناديق 938 مليون دينار سنة 2016 ليرتفع الى حدود 1326 مليون دينار سنة 2017. وتعود جذور هذه الازمة الى بداية تسعينات القرن الماضي حيث أقرت الحكومة سنة 1994 الترفيع في نسبة المساهمة بعنوان أنظمة التقاعد في القطاع العمومي لتصبح 2،2 نقطة (1،2 نقطة على كاهل المؤجر ونقطة على كاهل الأجير)، ثم الترفيع بداية من 2007 في نسب المساهمات بعنوان مختلف أنظمة التقاعد بثلاث نقاط إضافية (1.8 نقطة على كاهل المشغل و1.2 نقطة على كاهل العون) وبداية من جويلية 2011 تم الترفيع مجددا بنقطة إضافية على كاهل المشغل. إلا ان هذه الحلول الترقيعية لم تكن كافية لتجاوز الازمة التي تبقى في جوهرها نتيجة مباشرة للخيارات الاقتصادية والاجتماعية وتحديدا لتعمق التوجه الليبرالي مع دخول برنامج الاصلاح الهيكلي حيز التنفيذ.
تشتغل منظومة التقاعد في تونس وفق «النظام التوزيعي»، الذي يقوم على مبدأ تمويل جرايات المتقاعدين اعتمادا على مساهمة الناشطين . هذا النظام التوزيعي، رغم بعده التضامني الايجابي، يبقى شديد التأثر بطرق التصرف في موارد الصناديق والقدرة التشغيلية للاقتصاد وهيكلته والتحولات الديموغرافية للمجتمع. كما ان هذا النظام التوزيعي لا يحافظ على توازناته إلا متى كانت مساهمات الناشطين مساوية على الاقل للمستحقات (جرايات التقاعد). من هذا المنطلق فان المؤشر الديموغرافي (عدد المساهمين / عدد المنتفعين) يعتبر من أحد أهم المؤشرات المعتمدة لرصد تطور وضعية الصناديق الاجتماعية.
يبلغ عدد المنخرطين بالصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية حوالي 750700 منخرط في حين يبلغ عدد المنتفعين بجرايات حوالي 338390 منتفعا وهو ما يعطي مؤشرا ديموغرافيا بـ 2،1 أي مساهمين اثنين لكل منتفع بجراية. هذا المؤشر الذي كان في حدود 7 حتى بداية سنوات 1980 بدأ يتراجع ليستقر في مستوى 5،3 سنة 1990 ثم 3،9 سنة 2000 لينزل الى حوالي 2 حاليا وهو ما يبرر وضعية العجز المتفاقم لهذا الصندوق.
حسب الخطاب الرسمي وتحاليل بعض «الخبراء» يرتبط هذا التراجع اساسا بالتحولات الديموغرافية (ارتفاع نسبة الشيخوخة، ارتفاع مؤمل الحياة عند الولادة) التي أدت الى ارتفاع متسارع لعدد المتقاعدين. الا ان هذا الخطاب وان كان يكشف جزءا من الحقيقة فهو يخفي (عمدا) الجزء الاخر المرتبط بالخيارات الاقتصادية والاجتماعية. فاذا كان تراجع المؤشر الديموغرافي لصندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية يرتبط بارتفاع عدد المتقاعدين فهو ايضا نتيجة للتراجع النسبي لعدد المنخرطين (المساهمين) المرتبط بدوره بتراجع القدرة التشغيلية للقطاع العام. لذلك فان ازمة الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية بدأت تبرز بوادرها منذ سنة 1990 اي اربع سنوات بعد دخول برنامج الاصلاح الهيكلي حيز التنفيذ.
شكل تقليص دور الدولة والضغط على حجم المشتغلين في القطاع العام احد الركائز الاساسية لبرنامج الاصلاح الهيكلي المفروض من طرف المؤسسات المالية العالمية وذلك عبر التقليص في الانتدابات في الوظيفة العمومية والتفويت في العديد من المؤسسات العمومية. كنتيجة مباشرة تراجعت القدرة التشغيلية للدولة وهو ما يفسر النسق البطيء لتطور عدد المنخرطين في صندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية (2،5 % كمعدل سنوي) مقارنة بعدد المتقاعدين المنتفعين بجرايات (5 % كمعدل سنوي). من ناحية أخرى ارتفع عدد المتقاعدين لا فقط نتيجة للتحولات الديموغرافية (كما يسوق له الخطاب الرسمي) بل نتيجة لبرامج التسريح الطوعي للموظفين وبرامج اعادة هيكلة المؤسسات العمومية (قبل التفويت فيها) وما صحبها من تسريح لآلاف العمال. وتشير معطيات الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية ان حوالي 60 % من جملة المتقاعدين يدخلون في اطار التقاعد المبكر.
هذا التوجه كان وراء اختلال التوازنات المالية للصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية الذي استنفد كامل مدخراته ليدخل بداية من 2005 في حالة عجز دائم. هذه الازمة ساهمت في تعميقها عوامل أخرى اولها الانظمة الخصوصية المسكوت عنها والتي تشمل الوزراء (القانون 31 مؤرخ في 17 مارس 1983 ) والولاة (القانون 16 مؤرخ في 17 مارس 1988) والنواب (القانون 16 مؤرخ في 8 مارس 1985 ) والمستشارون (القانون 54 مؤرخ في 18 جويلية 2005 ). هذه الانظمة، السارية المفعول الى حد اليوم، باعتمادها معايير «استثنائية» في شروط واحتساب جرايات التقاعد تؤمن مساهمات متواضعة مقابل جرايات تقاعد سخية جدا للمنتفعين بها.
العامل الثاني الذي ساهم في تعميق أزمة صندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية هو تدخله في مجالات لا علاقة لها بدوره الرئيسي، كالقروض الجامعية ومساعدة العائلات المعوزة وصندوق ضمان النفقة وجراية الطلاق، نتيجة لتخلي الدولة عن دورها الاجتماعي. وبذلك تحول الصندوق من مؤسسة للضمان الاجتماعي الى مؤسسة للتضامن الاجتماعي. وبما ان هذا التضامن ليس الا تضامنا بين الفقراء فهو لا يمكن إلا ان ينتج عجزا ماليا متفاقما. أخيرا تجدر الاشارة الى ان العديد من الوزارات والمؤسسات العمومية لا تلتزم بتسديد مساهماتها الاجتماعية وقد بلغت ديون الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية المتخلدة بذمة الدولة والمؤسسات العمومية 681 مليون دينار سنة 2016 (260 مليون دينار سنة 2014) بالإضافة الى ان الصندوق تحمل الأعباء المالية للمنتفعين بالعفو التشريعي العام.
اما بالنسبة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (CNSS) فقد تراجع المؤشر الديموغرافي من 7،37 سنة 1990 الى 4،16 سنة 2000 و3،85 سنة 2015. وقد تراجع هذا المؤشر بشكل ملحوظ في نظام العملة الغير فلاحيين (60 % من مجموع المنخرطين و71 % من مجموع المنتفعين بجرايات) من 7،3 سنة 1990 الى 4،28 سنة 2000 و2،82 سنة 2015 . يعود هذا التراجع أساسا الى تراجع الاستثمار في القطاعات المنتجة ونزعة الراسمال الطفيلي الى التوجه أكثر نحو بعض القطاعات الهامشية ذات القدرة التشغيلية الضعيفة هذه النزعة التي تدعمت أكثر مع ما منحته مجلة الاستثمار من امتيازات وما افرزته سياسة تحرير المبادلات من منافسة لم يكن الرأسمال المحلي قادرا على مواجهتها. هذا الى جانب انتشار انماط التشغيل الهشة والمناولة التي بقيت في اغلبها خارج منظومة الضمان الاجتماعي.
عموما، يعتبر المؤشر الديمغرافي الجملي للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مقبولا مما يجعله نظريا متوازنا ماليا إلا ان الواقع مغاير تماما ذلك ان الموازنات المالية للصندوق بدأت تختل بداية من 2002 ليسجل عجزا بحوالي 68 مليون دينار سنة 2006 ليتفاقم هذا العجز الى حدود 470 مليون دينار سنة 2016. ويعود هذا العجز أساسا الى الديون المتراكمة والمتخلدة بذمة العديد من الاطراف والتي بلغت سنة 2016 ما قيمته 4379 مليون دينار.
جزء من هذه الديون متخلد بذمة الدولة ويبلغ حوالي 515 مليون دينار. ذلك انه في اطار الامتيازات الممنوحة بمقتضى مجلة تشجيع الاستثمار 1993 ، تتكفل الدولة بمساهمة الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي لمدة خمس سنوات. لكن أمام تراكم التعهدات اصبحت الدولة عاجزة عن الإيفاء بها وهو ما يبرر هذا الحجم المرتفع نسبيا لديون الدولة تجاه صندوق الضمان الاجتماعي. الغريب في الامر ان الحكومة ما زالت مصرة على مواصلة نفس التمشي حسب ما ورد في الفصل 19 من قانون المالية لسنة 2018 .
جزء ثان من هذه الديون، يقدر بحوالي 2226 مليون دينار، متخلد بذمة مؤسسات خاصة من بينها 1400 مليون دينار متخلدة بذمة مؤسسات ناشطة في أغلبها مؤسسات أجنبية مع العلم ان هذه المؤسسات تقتطع المساهمات على اجرائها لكنها لا تقوم بتحويلها الى صندوق الضمان الاجتماعي. هذا الى جانب تحمل الصندوق لكلفة «جرايات التقاعد قبل السن القانونية لأسباب اقتصادية» وإسناد إعانات الى عدد من الأجراء الذین أغلقت مؤسساتھم بصفة فجئیة على غرار ما وقع بالنسبة لمؤسسة «جال قروب» بمنزل بورقيبة سنة 2013 والتي تشغل 3150 عونا یتكلفون على الصندوق 450 ألف دینار شھریا.
اما العامل الثاني الذي ساهم ايضا في انخرام التوازنات المالية للصندوق فيتمثل في الفساد والتصاريح المغشوشة (sous-déclaration ) في علاقة بحجم الاجور (15،6 % في المعدل) وعدد الأجراء (23،8 % في المعدل). وحسب تقديرات صندوق الضمان الاجتماعي يبلغ حجم الاجور الغير مصرح بها 2300 مليون دينار سنويا وهو ما يتسبب في حرمان الصندوق من مساهمات تقدر بحوالي 400 مليون دينار في السنة. أخيرا، حسب دراسة لمركز البحوث والدراسات الاجتماعية يشغل القطاع الموازي في 2015 حوالي مليون و92 ألف شخص وهو ما يعني أن 32 % من الناشطين لا يتمتعون بالتغطية الاجتماعية. هذه النسبة تقابلها خسارة بـ 500 مليون دينار بعنوان مساهمات اجتماعية اي ما يعادل عجز صندوق الضمان الاجتماعي لنفس السنة.
من المؤكد ان اشكالية الصناديق الاجتماعية تستوجب دراسة أكثر تفصيلا ولكن يمكن ان نجزم ان العجز لا يمكن اختصاره في انعكاسات التحولات الديموغرافية بل مرتبط في جوهره بالخيارات الاقتصادية والاجتماعية السائدة والتي ساهمت في تعميق واقع البطالة وتفشي الفساد وتوسع دائرة الاقتصاد الموازي. لذلك فان تجاوز هذه الازمة ، بالإضافة الى مراجعة آليات احتساب المساهمات الاجتماعية والجرايات ، يمر ضرورة عبر توسيع دائرة التشغيل (الاستثمار المباشر للدولة ودفع الاستثمار الخاص نحو القطاعات المنتجة) والقطع مع الانظمة الخصوصية او الاستثنائية والامتيازات السخية (تكفل الدولة بمساهمة الاعراف) والمقاومة الجدية للتهرب والتصاريح المغشوشة وكل اشكال الفساد.
إلا ان حكومات ما بعد 14 جانفي واصلت في نفس السياسات الفاشلة على غرار ما ورد في قانون المالية لسنة 2018 بخصوص احداث «مساهمة اجتماعية تضامنية» أو ما تسوق له من ضرورة الترفيع في سن التقاعد ( الى 62 أو 65 سنة). هذه الحلول تبقى ترقيعية ولا يمكن ان تساهم في تجاوز ازمة الصناديق الاجتماعية بل فقط تعاقب المؤسسات الملتزمة بدفع مساهماتها الاجتماعية وتحمل العمال والاجراء كلفة الخيارات الفاشلة والتواطؤ مع الفساد. من هذا المنطلق فان ما جاء على لسان رئيس الحكومة الذي يقف عند النتائج (عجز الموازنات المالية للصناديق) ويتغافل عن الاسباب (عجز السياسات) ليس الا تهيئة لتمرير املاءات صندوق النقد الدولي الذي اشتد ضغطه في الايام الاخيرة. يبدو ان «الموظف السابق في السفارة الامريكية» يسعى الى التخلص من المنظومة برمتها وتحويلها، على الطريقة الامريكية، الى مجال للمضاربة المالية.