الشارع المغاربي-كريمة السعداوي: بسبب القانون وتحديدا المرسوم الرئاسي عدد 14 الصادر في مارس الفارط لـ “مكافحة الاحتكار”، تشارف اليوم اغلب المخزونات الاستراتيجية من المواد الغذائية على النضوب في ظل عزوف الفلاحين والمتدخلين في القطاع عن التخزين خشية التعرض لعقوبات يخضع تحديدها للسلطة التقديرية للإدارة وهو ما ادى الى ندرة اغلب المنتوجات الفلاحية الحساسة وغلاء اسعارها وسط حالة من الفوضى على مستوى تزويد الاسواق ودخول العشرات من المنظومات الفلاحية مرحلة الانهيار لفسح المجال امام التوريد ومزيد الخسائر من النقد الاجنبي.
ورغم ما مرّت به البلاد من أزمات صعبة في الاعوام الاخيرة وفي مقدمتها الإرهاب وجائحة “كورونا”، والتقلبات السياسية والاقتصادية، بقي قطاع الفلاحة صامدا أمام جميع التحديات، لكنه صار اليوم يشكو من مخاطر كبرى تهدد الأمن الغذائي للتونسيين.
وتشهد جل منظومات الإنتاج الوطني حاليا انهيارا واضحا وهو ما دفع الفلاحين إلى إطلاق صيحات فزع ومطالبة الحكومة في العديد من المناسبات بإصلاح القطاع سيما ان الفلاحة تساهم بنحو 8 بالمائة في الناتج المحلي الاجمالي، كما يعيش منها حوالي 3 ملايين شخص أي ما يعادل ربع سكان البلاد.
وتعتبر تونس فاقدة لسيادتها الغذائية، خصوصا أنها تستورد ثلاثة أرباع حاجاتها من الحبوب التي تمثل غذاء أساسيا بالنسبة للتونسيين في ظل احتكار شركتي تصنيع 45 بالمائة من مشتقاتها. وينسحب الوضع أيضا على قطاعي الألبان واللحوم اللذين يبدو في الظاهر أنها يحققان الاكتفاء الذاتي، ولكنه في حقيقة الأمر اكتفاء هش، لأن أغلب مدخلات الانتاج موردة في سياق احتكار شبه شامل من قبل مجمع غذائي يهيمن على السوق منذ ستينات القرن الماضي.
ويعاني الفلاحون من خسارة تلو الاخرى دون أن تحرك السلط ساكنا بل إن وزارة التجارة أصبحت طرفا مساهما في نقص مداخيلهم عبر اتخاذ قرارات غير مدروسة لتسقيف الأسعار خصوصا في ما يتعلق بقطاع الدواجن والبيض وهو ما جعل الوسطاء يتمتعون بهوامش الربح بينما يبيع الفلاحون منتوجاتهم بالخسارة.
ونتيجة لانهيار اغلب منظومات الانتاج الفلاحي يطالب اهل القطاع باتخاذ ثلاثة اجراءات عاجلة، أولها توفير المستلزمات من الماء والأسمدة والبذور، وثانيها مرافقة الفلاحين فنيا في مرحلة الانتاج عبر الإرشاد والتكوين، وثالثها تثمين المنتوج ومقاومة الإتلاف ما بعد الإنتاج علما أن تونس تتلف سنويا 30 بالمائة من المنتوج وهو ما يسبب خسارة مؤكدة للفلاحين الذين لا تتجاوز أرباحهم الثلاثين بالمائة من قيمة الإنتاج.
ويؤكد اغلب الفلاحين أن قطاع الفلاحة لم يعد مربحا مثلما كان الحال قبل الثورة، بسبب ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج وخاصة الأسمدة التي غالبا ما تكون مفقودة في السوق، فضلا عن ارتفاع كلفة النقل والتعبئة. كما يشير الفلاحون العاملون في قطاعات انتاج الخضر والغلال والزراعات البعلية بشكل خاص إلى أن مرابيحهم تغطي بالكاد نفقاتهم، مع تكبدهم في عدة مواسم خسائر تفوق 50 بالمائة من قيمة الإنتاج بسبب الجفاف من ناحية وتعدد الآفات وانتشار الأمراض التي تؤدي إلى خسارة جزء هام من المنتوج من ناحية اخرى.
وتبين عدة مؤشرات تقهقر القطاع الفلاحي اذ انه كان يساهم بعد الاستقلال مباشرة بـ 26 بالمائة من الناتج القومي الخام. وفي سنة 2010 تراجعت هذه النسبة إلى 14 بالمائة ثم تدحرجت حاليا إلى 8 بالمائة. كما كان لسوء تصرف الحكومات التي تعاقبت على الحكم منذ الثورة الى الان وانعدام كفاءة اعضائها دور في انهيار القطاع رغم أنه المحرك والرافد للتنمية والعائل لنحو 3 ملايين تونسي يرتبط نشاطهم بالفلاحة.
وتعد تونس مهددة اليوم بشكل جدي في سيادتها الغذائية بسبب انهيار منظومات الإنتاج بمختلف أنواعها وعلى رأسها الحبوب والألبان، سيما أن البلاد خسرت في السنوات الأخيرة ما لا يقل عن 35 بالمائة من قطيع الماشية بسبب اضطرار الفلاحين إلى بيعه لمهربين في الجزائر حتى يسترجعوا رأس مالهم في سياق تصل فيه كلفة اللتر الواحد من الحليب الى 1560 مليما، بينما يبيعها المربي للمجامع بـ 1140 مليما مما يعني أن الخسارة ثابتة علما أن تونس مهددة بالتوجه إلى توريد الحليب في الايام القريبة القادمة وذلك على غرار البيض والبطاطا والطماطم وهو تمش تم الشروع فيه منذ مدة مع استيراد كميات ضخمة من السكر والزيوت النباتية والحبوب بما يقدر بأكثر من 10 مليارات دينار منذ بداية العام الحالي وفقا لبيانات المرصد الوطني للفلاحة والمعهد الوطني للإحصاء.
ورغم تواصل معاناتهم والصمت المريب للسلط يطالب الفلاحون بإصلاح زراعي شامل ينطلق من النهوض بمنظومة الحبوب عبر خلال توفير الأسمدة ودعم البذور المحلية التي تتأقلم مع المناخ التونسي وتقاوم الجفاف والأمراض مرورا بمعالجة أزمة شح المياه من خلال ردع الآبار العشوائية التي تهدد الأجيال القادمة وصولا إلى الإحاطة بالفلاحين الذين تجاوزت أعمار عدد كبير منهم 65 سنة.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 1 نوفمبر 2022