الشارع المغاربي: ورد في الإتحاف، تاريخ احمد ابن أبي الضياف أن في أيام عثمان داي، وحدد السنة بست عشر وألف 1016) ه-1607 م) قدمت وفود من الأندلس، فارين بدينهم، لما أخذت بلادهم، فأحسن عثمان داي قراهم وأكرم مثواهم، وانس غربتهم وعظم مقدمهم …، …
وبنوا بلدانهم المعروفة بهم، مثل سليمان وبلي ونيانو وقرنبالية وتركي والجديّدة وزغوان وطبربة وقريش الوادي ومجاز الباب وتستور والسلوقية والعالية والقليعة…. وأعانهم عثمان داي على صناعة الشاشية التي كان لها سوق نافق في كثير من البلدان، وقد كانت ضعيفة زمن الحفصيين، وحصل للحاضرة من هذه الصناعة ثروة واسعة، لان صناعتها تدير صناعات كثيرة. وانظم «شيخ الأندلس» لسلك أعيان المملكة».
كان أول الوافدين على ميناء حلق الوادي بتونس، أواخر جويلية 1607م، ضمن الهجرة المذكورة عبر البحر قادمين من ميناء مرسيليا الفرنسي على متن مركب لصاحبه الرايس « ريمندو صاردي « من مرسيليا، مجموعة عددها تسعة وعشرون أندلسيا، ترأسهم « محمد الفارس « و» إبراهيم أبو القاسم»، وهما من امضيا لصاحب المركب نيابة عن كل المجموعة على شهادة وصولهم لتونس دون مضايقات.
هذه المجموعة كانت نخبة اشراف من العلماء والاعيان مع عائلاتهم، استبقوا بفطنتهم ونفوذهم وعلاقتهم مع السلط الحاكمة التونسية والفرنسية زمن هجرتهم، مرسوم الطرد الذي امر به «فيليب الثالث» في 9 افريل 1609م، فتمكنوا من جمع أموالهم ونقلها معهم. ساعدتهم أموالهم ومكانتهم الاجتماعية الراقية من كسب ثقة عثمان داي، الذي مكنهم من ثلاثة ارباع ماء عين زغوان المعروفة، التي نقل مائها الرومان الى قرطاج، ثم الحفصيين الى الحاضرة (المعروفة الان بعين معبد المياه) بالبيع مقابل المال من الدولة. وتمكينهم من الأراضي المجاورة للعيون لتركيز ما سمي « باطانات تلبيد الشواشي «، وتزامنا مع ما ذكر، عين إبراهيم أبو القاسم شيخا للأندلس بتونس، واسمه الكامل « إبراهيم ابن عبد العزيز الاندلسي « وكان له أربع أبناء قدموا معه وهم، قاسم ومصطفى واحمد ومحمد. اما محمد الفارس ويعرف أيضا بمحمد القيسي، كان ثريا ومهتما بشؤون الدين ومدافع ومقاوم شرس عن اسلام الاندلسيين زمن التنصير، عين اماما خطيبا عند وصوله برفقة ابنته الوحيدة مريم، المعروفة بالقيسية، هي أيضا، كانت لها مكانة عالية لدى العام والخاص، نتيجة اعمالها الخيرية.
كان يوسف داي، زمن حكم عثمان داي، مكلف باستقبال واستقرار الاندلسيين بتونس، استهوته طرقهم في توزيع المياه لكل الفضاءات، وذلك بفضل المعارف والمهارات المجلوبة معهم ووفائهم لعاداتهم وتقاليدهم، فلم يفوت الفرصة في الانضمام للمشروع، بمشاركة شيخهم المعين المذكور في باطانات تلبيد الشواشي.
مراحل صناعة الشاشية هي: التكبيس (عمل يدوي بالإبر، ينتج قلنسوة) – التلبيد (الكبابيس مضمخة بالماء الحار والصابون المذاب) – الصبغ – الغسل النهائي قبل البيع.
تلبيد الشواشي، هي أصعب وأهم مرحلة في تصنيع الشاشية، حيث تتطلب جهدا كبيرا في تطبيقها، برفع واسقاط آليات ثقيلة للدك والتصبيط. لذلك اعتبرت مرحلة انشاء باطانات، عوضا عن التصبيط اليدوي التقليدي، تطورا هاما لصناعة الشاشية من حيث الاتقان والكمية. هاته المنشآت يمكن تصنيفها آلات، هيكلها مبني، وبداخله معدات وظيفتها تحويل الطاقة الحركية للمياه المتدفقة الى قوة دفع، هاته الأخيرة تدير دولابا مسننا محوره عموديا، بدوره يدير دولابا فوقه محوره أفقيا، ملتصق بشراع في واجهته الخارجية له شكل خاص، عند دورانه يقوم بعملية رفع واسقاط «المعصار» المتصل به عموديا، وهو الة التلبيد الثقيلة.
تم اختيار المنحدر الطبيعي المناسب لتركيز عدد ثلاثة باطانات لتلبيد الشواشي والملف، مع طاحونتان ماء لرحي الحبوب. تدور دواليبهم جميعا بقوة دفع الماء. وكانت مواقعهم مرتبة بين المنبع، وهو العين التي احيوها أسفل الجبل كفرع من العين الكبرى المذكورة سابقا، وكانت معروفة عندهم بعين القيطنة، والان تدعى عين عياد، وهو عياد الزبير الاندلسي، المعروف بالعادل وكان أحد الوافدين ضمن المجموعة المذكورة، وبين المصب وهو الشاركة او الجابية الكبرى كما كانوا يسمونها، والتي كانت تسقى منها السواني السفلية لبلد زغوان ضمن منظومة الري التي وضعوها ابان استقرارهم. تربط جميع المنشآت المذكورة، سواقي مبنية، لإيصال المياه التي تدير الدواليب وتمرمن واحدة الى أخرى، حتى الوصول الى الشاركة.
كان نصيب الشيخ إبراهيم ابن عبد العزيز الطاحونتان والباطان الأول من فوق وربع الباطان الثاني. اما يوسف داي، فكان نصيبه الثلاثة ارباع من الثاني والباطان الثالث.
كشفت هاته التجربة ليوسف داي، عن قدرة البطانات، إضافة الى الزيادة الكبيرة في الإنتاج والارباح، في الاطلاع على كل الكميات التي يأتي بها أصحابها لتلبيدها. لذلك مباشرة بعد صعوده على راس السلطة عام 1610م، بدا مشروعه بالجديدة، والذي احتوى، قنطرة وباطانا وطاحونة، كلف بإنجازهم له « على ديسم الاندلسي « المعروف بمعلم الماء ببلد زغوان أتمها عام 1615م، والذي كان أيضا من الوافدين ضمن المجموعة المذكورة. إضافة الى مشروع الجديدة المذكور، كان كلفه يوسف داي بإنجاز كل منشاته المائية، نذكر منها اسبلة الحاضرة واسبلة بنزرت.
تحولت باطانات تلبيد الشواشي والملف الى طواحين ماء، الباطان الأول من فوق اشتراء محمد باي ابن مراد باي من ورثة الشيخ إبراهيم ابن عبد العزيز الاندلسي، وحوله الى طاحونة ماء، حبسها على زاوية الشيخ سيدي علي عزوز وبقيت تسمى بذلك. كما حول الباي المذكور محمد، باطان جده يوسف داي، الى طاحونة، وصارت تعرف بطاحونة التركينة وطاحونة البايليك السفلى. حول الباي المذكور الباطانان الى طاحونتان، تزامنا مع انشاءه باطان طبربة وذلك عام 1691م.
الباطان الذي بقي، هو باطان الشركة، كما كان يسمى. تحول كذلك الى طاحونة ماء، بأمر على لعلي باي ابن حسين بن علي عام 1776م، وبقي على نفس الحصص في الشراكة، بين البايليك وسلالة الشيخ إبراهيم ابن عبد العزيز، وأصبحت تعرف بطاحونة الخروبة. كذلك، كان لهذا الباي، اهتمام كبير بصناعة الشاشية ومنشاتها المائية والتي ازدهرت في عهده كثيرا لذلك أضاف باطانا جديدا بقريش الواد.
اما بلد زغوان، فقد بقي اختصاصه من صناعة الشاشية، الصبغ والغسيل الأخير قبل بيعها او تصديرها. ونشطت وتوسعت هاته الحرفة، لأنها مرتبطة بكميات الإنتاج التي كانت كلها تنقل الى بلد زغوان لتصبغ وتغسل وتعود الى أسواق الحاضرة. وقد وصل عدد دور الصبغ ببلد زغوان في عهد علي باي الى أربعة دور صبغ، بعدما كانت واحدة فقط في بداية صناعة الشاشية، وكانت على ملك الشيخ إبراهيم ابن عبد العزيز. تلتها دار صبغ ثانية أنجزها «دياقو دو موليناز» عرف محمد مولينة الغرناطي ،الوافد ضمن رحلة على مركب من ميناء مرسيليا عام 1610م.وقد اشتهر ابنه المعروف احمد بن محمد الصباغ عرف مولينة . اما الثالثة والرابعة فقد انشاوو في زمن حكم علي باي ابن حسين بن على بتوويل من صندوق الشواشية . محمد الاندلسي عرف «مولينة الصباغ»، هو من أرسى مهنة الصباغة ببلد زغوان قادما بها من بلاد الاندلس، مع مادتها الأساسية الثمينة « القرمز « الذي كان تحفظ في بيوت خاصة تحت حراسة، هاته المادة التي كانت كمياتها توضع في خلطة الصبغ برقابة شديدة ثنائية بين صاحب الشواشي ومعلم دار الصبغ لضمان جودتها.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 12 سبتمبر 2023