الشارع المغاربي: حَدّثَ أبو أُصَيبِعَةَ قالَ:
نَصّّ هذا القولِ، هو ضَربٌ مِن التَّخيّلِ، والصّوغ المُعدَّلِ، على مقتضى الإنشاء الطّليقِ، من روابط التعليقِ، بواقع حالٍ من الأحوالِ، أو بأيٍّ من النّساءِ والرِّجالِ. وإذا ظهر انطلاقٌ على أيِّ فَردٍ أو ظَرفٍ، فذاك مَحضُ صُدَفٍ، وقَدْرُ مِن الإشتباهِ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ.
قال أبو أُصَيبِعةَ:
حَكَم إفريقيةَ، على أيام بني نَهقَةَ، السلطانُ ابنُ المُلوَّح الأوّلِ، القادمُ من هوامش النَِّحَلِ، وقد بايَعُوهُ بالقولِ والفعلِ، بَعدٍ عَقدٍ بينهم وبينه بالجَهرِ أو بالصَّمتِ، شَبِيهٍ بقِصَّةِ الخالِ وابنِ الأختِ، إذْ ذَهبَ في ظنِّ الخالِ أنّ ابنّ الأختِ، سيرعَى لَهُ الغنمَ طيلة السَّنةِ، على وجه التّكرّم والفضلِ، وذهب في ظنّ ابن الأختِ في المُقابلِ، أنّ كرم الخالِ، سَيَنغَدِقُ عليه بعد رَعيِ الحَولِ،و سيُطلِّقُ الفقرَ، ويَنالُ اليُسرَ.
ولمّا هَمَّ بنو نَهقةَ في الحال، بوضع ابن الملوح الأوّلِ، في ركابهم المُعدّلِ، على مقاسهم ومَقاسهِ، وَجدُوه مُبَيتا وضعهم تحتَ مِراسِهِ، ودَمجٍ حَجَرِهِم في حجَر أساسِهِ، تحت امرأةِ نِبرَاسِهِ، لا نِبراسَ مُوَقَّرِهِم، لأن مَقلَعَ حَجَرِهِ مِن مَقلَع حَجَرِهِم، وأصلَ فِكَرِهِ مِن أصلِ فِكَرِهِم، فكان لِفساد النّوايا، وتَباينِ الطَّوايا، أنْ جَمعَا أسباب المُخاصَمةِ، وفَتائلَ المُصادَمةِ، مِمّا كان سَيُطوِّح بِهِ وبِهِم في الإبانِ، ويَطوي صفحةً مِن بؤس الزمانِ، وانفتاح أخرى باديةٍ للعيانِ.
لكنّ دولة المَناذِرَةِ، صاحبة الوصايةِ والمُناصرَةِ، كَرِهت أن تُجازف بالمُخاطرةِ، بطيِّ عَهدِه وعَهدهِم، في خِتام عَقدِهِم، فأذِنَت له بإزاحة قُوّادِهِم، وتمديدِ عهدِهِم، ونِسبتِه إلى زمانِه، وحُكمه وسلطانهِ، بِتغيير ألوانِه، دَرءًا لِمَن اعتادُوا أن يُخلِصُوا لإفريقيةَ، فلا يُطيعُون المَناذِرَةَ.
قال أبو أصيبعة:
لمّا تلقّت مسامعُ السلطانِ، الإذن بالتّحرك في الإبانِ، لتغيير كفَتَيْ الميزانِ، مِن دُون تغييرٍ لِموازينِه، استدعى إلى مجلس ديوانِهِ، رؤوسَ عسكرِهِ وأمنِهِ، وأعلنَ ميثاقَ حُكمِهِ الأوحَدِ، وسلطانِه المُفرَدِ، في شؤون الحلّ والعَقدِ، والقول والفَصلِ، والتّدبير والفعلِ، واصطفاءِ الأعضاءِ، والقُضاة والوُكَلاءِ، والوُلّاة والسّفراءِ، وتَخَيُّرِ الوزير الأكبَرِ، سَنَدِهِ الوفيّ المباشرِ، بِشرط صَمتِهِ كالمَقابِرِ.
قال أبو أُصَيبِعَةَ:
اصطفى السلطان في ذلك الحينِ، ابنةَ أبي الوِدنِ، وزيرةً له كبرى ذات شأنٍ، على أن تكون بِلاَ لِسنٍ، صَمُوتةً كَقِدحٍ بِلا دَنٍّ. فأمَضَت على تلك الحالِ، سنةً وافيةَ الإكتمالِ، قبل أن يأمرَها السلطانُ بالترحَالِ، لِفَتح باب الإختِبارِ، والتدقيق والإختيارِ، لمن يتولّى عنها رأسَ الوزاراتِ، في عسيرِ الأوقاتِ ، عسى أن يتعاضد الرأسانِ، تحت إمامةِ السلطانِ، على درءِ المفاسدِ، وضرب الأقارب والأباعدِ ، من المتآمرين على إفريقية الفالِسةِ، وعلى رعيتها البائسةِ، وعلى دولتها الحائرةِ، وقواها الخائرةِ.
قال أبو أصيبعة:
كان صاحبُ البريد المُبجَّل، يتّجهُ بعد مُنتَصف الليلِ، إلى من يَجِيءُ دَورُه في السِّجِلِّ، للإختبار والإمتحانِ، واستيفاء شرائط السلطانِ. وكانت فاتحةُ الإختبارِ على الدوامِ، هي تِلاوةُ نصِّ القَسمِ، وقد حبّرَته أناملُ السلطانِ، بريشةِ عَبد الحميد الثّاني، وبيانُه هو التّالي، يتلوه المترشِّح في الحال:” أقسم بالله العلي العظيمِ، وبآي ذكره الحكيمِ، أن أقوم بالمهامِّ، صائما عن الكلامِ، مطيعا للسلطانِ، في احتكاره للبيانِ”.
قال أبو أصَيبِعةَ:
صار الأمرُ مِرارًا، والإختبارُ تكرارًا، إذْ كلّما نفخ المترشحُ الصّدرَ، وشحذَ فيه الوتَرَ، وأحسَن القراءةَ والنَّبْرَ، وتلاوةَ القَسمِ، بصوتّ جَهوَريّ النّغَمِ، مُجْلٍ مفاصلَ الكَلِمِ،أمَر السلطانُ بوقف اختبارِهِ، وبطردِه وإدبارِهِ، واستجلابِ أغيارِهِ، فكَرِهَ صاحبُ البريد كثرةَ الأتعابِ، في الذهاب والإيابِ، وإعادةَ الإستجلابِ، فَبَّيتَ ضربا من الحَلِّ، لِوقفِ التَّعب والمَللِ.
قال أبو أصيبعة:
جاء دورُ الإختبارِ، بعد البحث والإنتظارِ، على مُنحَدِر مِن الحُسَينيّة التّركيةِ، وسليلِ الفَرَنجيَّةِ،لا باعَ له في السياسةِ، ولا عِلمَ له بالرّئاسةِ، فَأسَرَّ لَهُ صاحبُ البريدِ في الطريقِ، بما بِهِ يَنالُ حظوةَ التَّحقيقِ، لِمِعيار السلطان الدّقيقِ، فَأومَأ بالرأسِ، كنايةً عن فَهمِ الدَّرسِ.
وحالما وَصلَ المترشّحُ قصرَ الحُكمِ، تسلم نصَّ القَسَمِ، فأحكَمَ إغلاق الفَمِ، وأدمجَ الشّفتَينِ إلى الدِّغْمِ، وأمعنَ في النظرِ، إلى مَخطوطِ الأسطرِ، وأسدَلَ الرأسَ إلى الصّدرِ، وتَرجَمَ فحوَى القَسَمِ، بلغةِ الصُّمِّ، وإشارةِ البُكمِ، ثم انكَمش في تمام الإستحياءِ، وأرخى العنقَ وغالى في الإنحناء، وتَذَلَّلَ في كَسَلِ الإستِواءِ، كَديكِ الكَهرُباءِ، فتهلَّلَت أساريرُ السلطانِ، وأبدى علامات الإمتِنانِ، وقال هو ذا عَضُدِي، وعَوني وساعدِي، وإني وإياه سنَمضِي قُدُمًا، وسنصونُ حُكمًا، وسنُحقِّق حُلمًا، تاقت إليه الرعيةُ المَكلومةُ، المَغبونَةً المظلومةُ، من أرباب المالِ، وأصحاب الأعمالِ، فَلا مَالَ بَعدَ اليومِ في الجيوبِ، ولا رُجُوعَ إلى سابق الدُّرُوبِ، وإنه لَعَصرُ الشعوبِ، تلك التي يُمطِرُها سخاءُ السماءِ، بأسباب العيشِ والنّماءِ، وإنّ المالَ آتٍ مِن رُوما ذات السّخاءِ ، لأننا نَتَقبَّلُ مَطارِيدَها مِن”الدَّهمَاء”.
قال أبو أصَيبِعَةَ:
تسللتُ بعد قَسَم السّكوتِ، إلى الوزيرِ الأكبرِ الصَّموتِ، فبادَرتُه بالتّهاني، فأومأ خُفيةً بالبَنانِ، بوجوب الحذرِ من الكلامِ، وإرجاع الردّ إلى قادم الأيامِ، بعيدا عن مَسامع اللّئامِ، من بطانةِ كلّ الحُكام، وها أنّي انتظرُ، وقد مَرَّ الشّهرُ.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 5 سبتمبر 2023