بسبب غياب سياسة مائية طيلة عقود: التونسيون مُهدّدون بأزمة عطش خطيرة
قسم الأخبار
20 نوفمبر، 2021
10shares
الشارع المغاربي-كريمة السعداوي: تعيش تونس منذ مدة على وقع أزمات متعددة سياسية واقتصادية واجتماعية، فاقمت موجات العطش والجفاف التي عرفت ذروتها البلاد خلال السنوات الاخيرة لتصل مشاكل الأمن المائي الى أقصى درجات تعقدّها هذا العام بعد انحباس الأمطار وجفاف السدود لأشهرعديدة. غير ان اللافت للانتباه، ان الأمر يمر كغيره من معضلات الفقر والمالية العمومية وافلاس المؤسسات والتلوث مرور الكرام في غياب اية استراتيجية لمجابهة معضلة بقاء بأتم معنى المصطلح وهي معضلة توفير مياه الشرب والري لإحدى عشر مليون تونسي.
ومن المؤكد ان معضلة فقدان الأمن المائي ليست جديدة، اذ ان البلاد تفتقر لوجود سياسة مائية ومجلة مياه منذ مطلع القرن الماضي علاوة على فشل الاختيارات في ما يتعلق بتكثيف الفلاحة السقوية غير المجدية واهتراء منظومة توزيع المياه الصالحة للشرب وعدم تركيز سدود طيلة العقد الفارط. ومما يعمق اليوم وبشكل جدي مشكل قطاع المياه، عدم ادراك السلط التونسية مدى تأثير التغيرات المناخية على حياة المواطنين ومقدرات وجودهم في بلاد مثل تونس تتسم بتواتر موجات الجفاف وفشل المنوال الزراعي.
لماذا لا يعتبر الامن المائي، أمنا قوميا ؟
في غياب دراسات معمقة وكمية حول قضية الأمن المائي في تونس، اصدرت جمعية نوماد 08 بالتعاون مع المرصد التونسي للمياه ومؤسسة روزا لوكسمبورغ -مكتب شمال إفريقيا وهي منظمات تنشط في حقل تطوير السياسات العامة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية في أواخر جانفي 2020، تقريرا تحت عنوان “التقييم المواطني للماء في تونس”.
وقدر التقرير الإمكانات المائية المتاحة لتونس بحوالي 4.865مليار متر مكعب سنويا، تتوزع بين المياه السطحية والجوفية والتساقطات المطرية مبرزا ان نصيب الفرد من الماء، أمام ضعف الكمية المتاحة وتزايد الطلب الفلاحي والصناعي والسياحي والخدماتي عموما، في تراجع مستمر وأنه يقدر بـ400 متر مكعب سنويا مرشحة للنقصان في السنوات القادمة إلى 350 متر مكعب سنويا وهو أقل بنسبة 50 بالمائة من الكمية المطلوبة للفرد وفقا للمعايير الدولية والمقدرة بين 750 و900 متر مكعب سنويا.
وأوضح التقييم ان المؤشرات المتعلقة بمجال المياه تعني وجود تونس تحت خط الفقر المائي والمحدد عالميا بـ500 متر مكعب سنويا للفرد وهو ما يعني عجز الدولة عن توفير المياه العذبة في كل الجهات ولكل المواطنين وكل القطاعات الاقتصادية والفلاحية والخدماتية معتبرا ان أسباب تراجع مخزون المياه في تونس متعددة رغم تشابهها في بقية الدول العربية التي تعاني من نفس الأزمة وهي بالأساس: المناخ والكثافة السكانية وسوء التصرف في الموارد المائية والسياسات المائية غير الملائمة للوضع.
وفي هذا الاطار، تشكل تونس نموذجا سيئا للغاية في مجال التصرف في الموارد المائية، اذ يتم تخصيص 80 بالمائة منها للزراعات السقوية الملتهمة للمياه دون جدوى اقتصادية باعتبارها موجهة اساسا للتصدير مما يعني ان بلدا جافا كتونس يصدّر بأبخس الاثمان الغلال والخضر التي تستهلك ما بين 300 و900 لتر من المياه للكيلوغرام الواحد لدول غارقة في المياه.
كما ان الفشل في ضمان الحد الادنى من الحق في الماء للمواطنين والذي يبرز من خلال الانقطاعات المتكررة للمياه وعدم تزويد مناطق شاسعة في البلاد بالماء الصالح للشرب يرجع كذلك بشكل خاص إلى اهتراء شبكات توزيع المياه مما يتسبب في ضياع ما بين 25 و30 بالمائة من كميّات المياه الموزعة وذلك بحكم عجز الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه عن القيام بتجديد شبكاتها بسبب الصعوبات المادية، التي تعيشها سيما أن وزارة الفلاحة أوكلت هذه المهمة للشركة باعتماد مواردها الذاتية.
وتبقى إشكالية التمويل العائق الأكبر أمام الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه في ظل غياب استراتيجية وطنية واضحة للتصرف في الموارد المائية خصوصا ان بعض الهيئات الدولية الدائنة تسعى من حين الى اخر لتمويل مشاريع محطات تحلية المياه وهو خيار يقوم على المنفعة من هذه المشاريع عبر التوجه الى مكاتب الدراسات وغيرها من الاساليب المتصلة بالصفقات الكبرى خصوصا ان مشاريع تجديد الشبكات لا تشكل مصدر ربح بالنسبة لهذه الهيئات المالية.
وناهزت خسائر الشركة في 2018 وهي التي لا تفصح عن بياناتها الحسابية حسب معطيات وزارة المالية 56 مليون دينار بالتوازي مع ديون ضخمة تقدر بـ 1043 مليون دينار وهو ما يمثل 88 بالمائة من رأس مالها علما ان نحو 49 بالمائة من مداخيل الشركة تخصص لأجور العاملين فيها حيث يصل معدل الأجر الشهري الخام إلى 2379 دينار. وتأتي هذه الأرقام في سياق تبرز فيه المعطيات ان الشركة لا تخصص تقريبا اعتمادات تذكر لتجديد شبكاتها التي تناهز فترة استغلال ربعها 37 عاما.
ورغم حدة المخاطر المحدقة بقطاع المياه واستفحال العطش في مناطق البلاد بما يحتم ارساء استراتيجية للأمن المائي، لا يحظى هذا الموضوع مبدئيا على الاقل بالاولوية في جدول اهتمامات السلط التونسية المشتتة بين ميادين مختلفة دون رؤى واضحة وفي سياقات تتسم بالتردد وارتجال القرار.
تصورات حلول
تفرض التأثيرات العميقة للتغيرات المناخية وخاصة منها تواتر فترات الجفاف والاستغلال المفرط للموائد المائية بوجود 18 الف بئر غير قانونية وتراكم الترسبات بالسدود مما أدى الى تقلص طاقتها الى حوالي 31 بالمائة فضلا عن اختلال التوازنات المائية في القطاع الفلاحي بشكل جدي مسألة تبنّي استراتيجية مستقبلية واضحة في مجال الحفاظ على الامن المائي.
وعلى هذا الاساس، فإنه من المؤكد ان تتم مراجعة جذرية في التصرف في الموارد المائية وذلك من خلال القيام بإصلاحات هيكلية في هذا المجال تأخذ بعين الاعتبار التغيرات المناخية وضعف الموارد المائية التقليدية، والتقليص من الاعتماد على إعطاء الأولوية المطلقة للماء الصالح للشرب وفق النموذج الحالي القائم على التبذير مع ضرورة إعادة النظر في أولويات المنتوجات الفلاحية التي أثبتت الجائحة الصحية أهميتها الغذائية وابرزها الحبوب.
كما يفرض الواقع الراهن مراجعة الخارطة الفلاحية تراعي الموارد المائية المتاحة وتركيز استراتيجية وطنية متكاملة بين كل القطاعات، لإحكام التصرف في استغلال هذه الموارد عبر تطوير استعمالات المياه المعالجة وتحلية المياه بشكل مستدام والضغط على كلفة الطاقة بالاعتماد على الطاقات المتجددة ومراجعة التشريعات لتخزين مياه الأمطار ورصد الحوافز اللازمة لمزيد تركيز المواجل والخزانات المائية الجماعية.
وتفرض محدودية الموارد المائية تنفيذ خطة اتصالية مكثفة تشمل كافة مستعملي المياه لمزيد ترشيد الاستهلاك وحسن توظيف الماء اقتصاديا واجتماعيا والحد من ضياعه وحمايته من التلوث وترسبات الأتربة بالسدود والحد من الاستغلال العشوائي للموائد الجوفية.
وللإشارة فقد اصدر مؤخرا المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالتزامن مع انعقاد الندوة الأممية حول التغيرات المناخية “كوب 26” من 1 إلى 12 نوفمبر 2021 بغلاسغو في اسكتلندا دراسة محورها “التغيرات المناخية في تونس: الواقع وسبل التّكيف في قطاع الخدمات العامة” ابرزت ان التغيرات المناخية تهدد الامن الغذائي في تونس لا سيما مع توقّع انخفاض الموارد المائية التقليدية بزهاء 28 بالمائة في افق 2030، وتراجع المياه السطحية بنحو 5 بالمائة.
وتبين التوقعات المناخية، التي تستدل بها هذه الدراسة، إلى نقص بنسبة 50 بالمائة في مساحات الأشجار المثمرة مع موفى القرن وبنسبة 30 بالمائة في الزراعات الكبرى السقوية مع أفق 2030. كما تؤكد ان التقلص الملحوظ في كميات المياه المخصصة للفلاحين يشكل تهديدا لحسن سير الزراعات والتزويد المنتظم للأسواق بالغلال والخضر.
وتتساءل الدراسة حول سياسة الانفتاح الاقتصادي التي اعتمدتها البلاد منذ الاستقلال وتكاليفها البيئية والمناخية الهامة، من ذلك اساسا تراجع الموائد المائية والسياسة المائية الفاشلة التي ما زالت تشجع الاستثمارات في كل القطاعات دون ملازمة اليقظة اللازمة لآثارها البيئية وحاجاتها من الماء.
وتشير الدراسة إلى أن ديمومة كل نشاط اقتصادي مشروطة بتوفر الموارد الطبيعية، واهمها الماء، والحفاظ عليها داعية إلى بذل مجهود اضافي لمعالجة إشكالية نقص الموارد والتخلي عن بعض الزراعات التي لا تكتسي مردودية بسبب التغيرات المناخية.
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 16 نوفمبر 2021