الشارع المغاربي – بعد تصريح محاميه بإلغاء بطاقة جلبه: ناجم الغرسلي أو فضيحة دولة ! - بقلم معز زيّود

بعد تصريح محاميه بإلغاء بطاقة جلبه: ناجم الغرسلي أو فضيحة دولة ! – بقلم معز زيّود

4 مارس، 2019

الشارع المغاربي : طفت قضيّة وزير الداخليّة الأسبق الفارّ ناجم الغرسلي على سطح الأحداث مجدّدا بعد أن أعلن محاميه مؤخّرا أنّه لم يعد مُفتّشا عنه ولا وجود أصلا لأيّ سند قانوني لإيقافه. تلاعب من أكثر من جهة يكتنف هذه القضيّة المتعلّقة تحديدا بتهمتي “التآمر على أمن الدولة” و”التخابر مع جهات أجنبيّة زمن السلم”، وإّلا لما تقاذفتها رياح الاتّهامات المتبادلة، في ظلّ استمرار هروب الغرسلّي، ممّا يُشكّل فضيحة مكتملة الأوصاف ومسيئة لصورة البلاد. تشخيص لملابسات شخصيّة غامضة…

 

أعلن صابر بوعطي محامي ناجم الغرسلي، منذ أيّام، أنّ موضوع بطاقة الجلب القضائية الصادرة في حقّ وزير الداخلية الأسبق قد أغلق تماما بعد أن أرجعت بطاقة الجلب، ولم يعد من ثمّة مدرجا في لائحة التفتيش ولا وجود لسند قانوني لإيقافه. محامي الغرسلي أنكر طبعا معرفته بمكان وجود منوّبه، وكأنّه يتّصل به عبر ألسنة الفضاء أو كأنّ الغرسلّي مجرّد مغامر يهوى الفرار من دون ملاحقة وبات يعشق فنّ العزلة من دون أدنى سبب. وفي المقابل أدلت المصادر المبنية إلى المجهول بدلوها من جديد لتؤكّد أنّ الغرسلي لا يزال محلّ تتبّع في القضايا الخطيرة ذاتها. ويعود ذلك إلى أنّ بطاقة الجلب التي أصدرها القاضي العسكري في حقّه، يوم 14 مارس 2018، قد انتهى مفعولها منذ إنهاء التحقيق المذكور. ومع ذلك مازال يُعدّ في حالة فرار دون أن يكون مفتشا عنه، ومن حق المحكمة إصدار حكمها الغيابي القاضي بإدانته. تلك حيثيّات لن نخوض في تفاصيلها كثيرا تجنّبا للتدخّل في عمل القضاء، ومع ذلك تستوجب هذه القضيّة الخطيرة إلقاء الضوء على بعض الملابسات المحفّة بها.

شخصيّة مريبة!
ليس ناجم الغرسلّي مواطنا عاديا أو موظفا عاديا أو مجرّد لصّ صغير فارّ من العدالة لضلوعه في ترويج بعض النحاس أو حتّى كميّة من الذهب المسروق. فهذا الشخص كان قاضيا ورئيسا للمحكمة الابتدائية بالقصرين وواليا على المهدية وسفيرا للدولة التونسيّة لدى المملكة المغربيّة. والأكثر من كلّ ذلك أنّه كان وزيرا للداخليّة، وهو ما سمح له بتولّي الإشراف على إحدى أهمّ وزارتين مكلّفتين قبل غيرهما بمكافحة الإرهاب وحماية الأمن القومي للبلاد.
لم يكن الغرسلي إذن مجرّد طفل لا يزال يرضع إصبعه على كبر. فقد كان قاضيا ممّا يعني أنّه يُدرك بوضوح ما ينتظره عند تغيّر الموازين السياسيّة التي كانت تحميه وتستفيد من خدماته. كما يعلم علم اليقين أنّ إقامته وراء القضبان قد تطول، وقد لا يُغادر السجن في حال أثبت القضاء إدانته إلاّ شيخا طاعن السنّ. ليس في هذه الجوانب أسرار، لكنّ البعض يتجنّب الخوض فيها، من فرط الأجندات الحزبيّة والسياسيّة والشخصيّة ذات الصلة بالقضيّة.

والمؤكّد أنّ مسألة ناجم الغرسلّي قد شكّلت فضيحة منذ اليوم الأوّل لتعيينه، لا بعد أن انكشفت بعض الخيوط المريبة التي كان يُسيّر بها دواليب وزارة الداخليّة، وأدّت إلى توجيه أصابع الاتّهام إليه. وعلينا إذن أن نعود إلى الأيّام الأولى لتعيين الغرسلّي وزيرا للداخليّة في جانفي 2015. فقد انهمرت الانتقادات منذ اليوم الأوّل لتعيينه. ويكفي في هذا الصدد أن نقف عند شهادتين لشخصيّتين معروفتين بنزاهتهما وعانتا الأمرّين زمن بن علي، وهما من جهة القاضية كلثوم كنّو التي أسهمت في وقت مّا في تعيّين وزير الداخليّة الأسبق لطفي بن جدّو، ومن جهة أخرى رئيس التيار الديمقراطي المحامي محمد عبّو الذي تعرّض لمحاكمة سياسيّة وسجن بسبب انتقاده لرئيس النظام السابق. وفي هذا الصدد قالت كلثوم كنّو، عند تعيين الغرسلي، حرفيّا إنّه “معروف لدى عموم القضاة والمحامين بأنّه قاض غير مستقل وخدم النظام السابق وكان يُمارس كلّ ما يُطلب منه على مستوى أدائه العملي”. واعتبرت في نقدها لإقدام رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد على تعيين الغرسلي دون تحرّ أنّه “لعب دورا قذرا في تكبيل القضاء”، وكان من الضالعين في “ترهيب القضاة وممارسة الضغط المعنوي عليهم وكتابة التقارير عن زملائهم، وهذا أمر ثابت يكفي الاتّجاه إلى التفقديّة لاكتشاف كلّ ذلك”، وفق تأكيدها. ومن جانبه، اعتبر محمد عبّو أنّ الغرسلي “كان يُنكّل بالقضاة الشرفاء، ويجب أن يُحال على العدالة الانتقالية لا أن يُعيّن وزيرا للداخليّة”، معتبرا أنّ تعيّين شخص “لديه قضيّة جديّة في طور التحقيق… يُمثّل إهانة للثورة”، على حدّ تعبيره.

تكشف لنا هاتان الشهادتان أنّ رئيس الحكومة السابق ارتكب خطأين إزاء الغرسلي، أوّلا: حين عيّنه على رأس وزارة بحجم وزارة الداخليّة وخطورتها دون التحرّي في سيرته الذاتيّة. وبمعرفة الجانب التكنوقراطي الذي يغلب على الحبيب الصيد يُرجّح أنّ شخص الغرسلّي فُرض عليه فرضا في حكومته الأولى أي من قبل حزب “نداء تونس” الحاكم آنذاك. وثانيا: عندما غضّ الصيد بصره عن الغرسلي لفترة طويلة شهدت أكثر ثلاث عمليات إرهابيّة دموية في تونس من استقلالها. حينها، أي خلال عام 2015 والنصف الأوّل من عام 2016 كان الغرسلي يتحكّم في دواليب وزارة الداخليّة وأجهزتها الأمنيّة الأكثر حساسيّة.
ولا يخفى أنّ الحبيب الصيد لم يعزل الغرسلّي أساسا لسوء أدائه، بل حين اقتنع أنّ أطماع وزير داخليّته باتت بلا حدود، إلى درجة أنّه كان يُصوّب ناظريه إلى القصبة بدفع من أصحاب الفضل عليه. فقد كشفت صحيفة “الشارع المغاربي” آنذاك أنّ رئيس الجمهوريّة كان قد استقبل الغرسلي في لقاء غير معلن بقصر قرطاج، يوم الأربعاء 8 جوان 2016، في خطوة أولى للبحث عن خليفة الحبيب الصيد على رأس ما سُمّي آنذاك بحكومة الوحدة الوطنية.
ينبغي إذن أن نعود إلى الوراء قليلا لنتذكّر أنّ آل الرئيس كانوا قد داووا غضبهم من عزل الغرسلّي آنذاك بتعيينه سفيرا لدى المغرب، باعتبار أنّ السياسة الخارجيّة وتعيين السفراء يدخل دستوريّا ضمن صلاحيّات رئيس الجمهوريّة.

بين البحيرة وتركيا وقلاع القصرين؟
سيناريوهات وإشاعات ومعطيات متعدّدة تناثرت بعدد من صفحات الميديا الاجتماعيّة قصدا ورُوّجت بكثافة عن فرار ناجم الغرسلّي وأمكنة اختفائه. فعمّقت بذلك مواطن الغموض بشأن مسوّغات بثّ تلك الإشاعات وما يقف وراءها من مصالح وأجندات. فقد رُوّج في البداية أنّه كان يُقيم بشقّة على ملك سيّدة أعمال في منطقة البحيرة بالعاصمة قبل هروبه وزوال أثره!. ولا أحد يدري إنّ كانت الجهات المختصّة قد أجرت بحثا أوّليا للتحقيق مع من آواه في بيته آنذاك. ويندرج عدم توضيح وزارة الداخليّة ووزارة العدل لهذا الأمر ضمن سوء الإدارة الاتّصاليّة لهذا الملف المهمّ، حتّى وإنْ كان الحفاظ على الغموض جزءا من اللعبة الاتّصاليّة أحيانا بهدف عدم التورّط في الإدلاء بمعلومات سريعا ما ينكشف بعدها التضليلي.
وفي مرحلة لاحقة تحوّل الغرسلّي إلى مسقط رأسه ومعقله بولاية القصرين. وهي الجهة الأفضل عمليّا للتخفّي بحكم شبكة العلاقات الواسعة التي نسجها في الجهة حين كان رئيسا للمحكمة الابتدائيّة للقصرين لمدّة خمس سنوات. ومن الطبيعي أن يكون عارفا بأكبر شبكات التهريب والعناصر القياديّة التي تُديرها ومعاقلها. فمن المعلوم أنّ هذه المنطقة الحدوديّة تنشط في تخومها أكبر عصابات التهريب وتُعشّش في جبالها عناصر التنظيمات الإرهابيّة. ويُروّج أنّ الغرسلّي أعاد ربط الصلة بعدد من قياديّي تلك العصابات حين كان وزيرا للداخليّة، أيّ عام 2015 الذي شهد أكثر العمليّات الإرهابيّة دمويّة.
والجدير بالذكر أنّ مصدرا خاصّا كان قد كشف لصحيفة “الشروق”، بتاريخ 4 سبتمبر 2018، أنّ وزير الداخليّة السابق الفارّ يحتمي داخل منزل هو أشبه بـ”القلعة” على ملك أحد كبار المهرّبين بولاية القصرين. وقد خصّصت شبكة التهريب عناصر للقيام بحراسة مشدّدة على الموقع. والغريب في تصريح المصدر السرّي أنّ أجهزة الأمن لم تجرؤ على مداهمة مكان تخفّي الغرسلّي لخشيتها من “حدوث مواجهات خاصة أنّ العناصر مسلّحة”، وكأنّ الأمر يتعلّق بدولة مجاورة يحكمها “بارونات” الميليشيات المسلّحة، باعتبار أنّ كبار المهرّبين سواء في ولاية القصرين أو ولايات أخرى بالجنوب التونسي قد تمكّنت من تشكيل أجهزة وتجنيد عناصر تُتيح لها الإحاطة بتفاصيل تحرّكات الوحدات الأمنيّة.
والحقيقة أنّ الغموض لا يزال يكتنف مختلف المعطيات المروّجة عن مآل هروب الغرسلّي وتخفّيه، على غرار الترويج لكونه “تحوّل” إلى تركيا، وكأنّ ذلك لا يتطلّب سوى امتطاء سيّارة تاكسي فردي. فالترويج لمثل ذلك يعني أوّلا: أنّه غادر التراب الوطني بصيغة غير قانونيّة انطلاقا من أحد مطارات البلاد ومرورا بعناصر الأمن والديوانة، وهي جريمة خطيرة في حدّ ذاتها ولها دلالاتها. ويهدف الأمر ثانيا: إلى ربط الصلة بين حركة النهضة وهذه القضيّة، لأنّها معروفة بعلاقاتها الوطيدة بالنظامين التركي والقطري وبعدم رفعها أيّ فيتو ضدّ الغرسلّي عند ممارسة مهامه الوزاريّة، وذلك على أساس أنّ للحركة مصلحة في عدم الإيقاع بالغرسلّي. ويُلمّح ثالثا: إلى أنّ الملحق الأمني بالسفارة التونسيّة بتركيا والناطق الرسمي السابق باسم وزارة الداخليّة محمد علي العروي قد يكون بدوره على علم بالتنسيق لتلك التحرّكات. ويكشف رابعا: أنّ هدف مروّجي هذه الإشاعة التي تناقلتها صفحات الميديا الاجتماعيّة، بمجرّد فرار الغرسلّي قبل أن يعود ترويجها هذه الأيّام، كان يكمن آنذاك إلى تخفيف الخناق الأمني عليه باعتبارها تروّجه لمغادرته التراب التونسي، ومن ثمّة تُتيح له التحرّك بين العاصمة والقصرين بسهولة أكبر.
وعموما تُعدّ هذه المعطيات والسيناريوهات مجرّد تأويلات أو إشاعات مقصودة، لكنّها غير مصحوبة بمؤيّدات تؤكّد صحّتها، ولا يُعرف تحديدا من له مصلحة في بثّها وترويجها. ومن ثمّة يبدو الأقرب إلى المنطق والواقع أنّ الغرسلّي يمكث متخفّيا في مكان مّا في ولاية القصرين، رغم أنّ الهاربين من العدالة عادة ما يحرصون على كسر المنطق الذي قد يقود إلى إلقاء القبض عليهم، إلاّ في حال حصولهم على “تطمينات” بعدم الاقتراب من أوكارهم.

ابحثوا عن أصحاب المصلحة!
المرجّح إذن أنّ هناك من هو ضالع اليوم في إخفاء الغرسلّي والتستّر عليه. فمن المعلوم أنّه متّهم فارّ من العدالة بتهم تصل إلى الخيانة العظمى. ولا شكّ أنّ الضالعين في “جريمة” التستّر على متّهم فارّ من العدالة بحجم الغرسلي، سواء كان من كبار المهرّبين أو ذا روابط عائليّة به أو من أجهزة رسميّة أو شبه رسميّة، إنّما لهم مصالح كبرى تجعلهم ينتهكون كلّ الأعراف والقوانين من أجل منع إفشاء أسرار كبرى قد تنكشف بسرعة في حال سقوط كاتم الأسرار. وللإشارة فإنّ أحد المصادر الصحفيّة ذكر أنّ لدى الغرسلي ملفات تُدين سياسيّين كانت تربطهم علاقة وثيقة برجل الأعمال شفيق جراية الموقوف بسجن المرناقية، منذ أواخر شهر ماي 2017، في القضية نفسها المنسوبة أيضا إلى الغرسلي. وطبعا فإنّ فضيحة الفرار تبدو في هذه الحالة أقلّ وطأة من إيقافه ثمّ الاضطرار لتهريبه أو إسكاته…
لا نجزم طبعا بأنّ وزارة الداخليّة أو بعض أجهزتها أو كبار قياديّيها على علم بالمكان المحدّد الذي “يتحصّن” فيه الغرسلّي وبالأجندات التي تحول دون إيقافه. وفي المقابل يبدو من الثابت أنّه ليس هناك رغبة فعليّة وقويّة لدى الأجهزة المعنيّة في وضع حدّ لهذا المسلسل الرديء. وقد يعود ذلك إلى وجود ملفّات خفيّة يبدو أنّ مصالح البعض تتطلّب التكتّم عليها كليّا. تجدر الإشارة هنا أيضا إلى ما سرّبه البعض بشأن توجيه هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي اتّهاماتها إلى ناجم الغرسلي أيضا بالتكتم عن معطيات على صلة بملف “الجهاز السرّي” لحركة النهضة. والأكثر من ذلك أنّها فسّرت تهريبه والتخفّي عن مكان وجوده بسبب ما يمتلكه الوزير السابق من معطيات بخصوص هذا الملفّ. وهو ما يبقى ضمن صلاحيات القضاء لتأكيده أو نفيه، فضلا عن كشف أسرار فضيحة بات كبار المهرّبين وحلفاؤهم من السياسيّين يتحكّمون في أطوارها، ممّا أدّى إلى التلاعب بسمعة البلاد ومصالحها…

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING