الشارع المغاربي: تاريخيا بدأ المغرب الكبير يفقد قدرته على التأثير في حوض البحر الأبيض المتوسط حينما بدأت علاقاته بدواخل إفريقيا تضعف، إلى أن انقطعت تجاريا وثقافيا وسياسيا بفعل الاستعمار الفرنسي. فقد غيّر الاستعمار البنية الاقتصادية المغاربية، وأعاد تصميم موقع شمال إفريقيا في التقسيم العالمي للعمل، فعزل شعوبه عن شعوب ما وراء الصحراء، ووجهها ثقافيا نحو أوربا، بل جعل سكانه يخترعون لأنفسهم مكانا في سلم المراتب الانسانية المزعومة، فتمثلوا أنفسهم أقل من سكان الشمال وأرفع من سكان ما وراء الصحراء، ورضوا بذلك وقنعوا به. وحينما استقلت البلدان المغاربية سقطت من أذهان نخبها السياسية إفريقيا ما وراء الصحراء كجزء لا يتجزأ من المجال الاستراتيجي الحيوي لبلدانها، ومن ثمة رسخت هذا البتر التاريخي لروابطنا مع دواخل إفريقيا، وبخست من ارتباط مصالحنا بمصالح شعوبها، متنكرة بذلك لتاريخها….إلى أن عاد هذا التاريخ إليها من الجنوب ليوقظها من هذه الغربة المستحدثة غير الطبيعية، ويفتح جراحها الثقافية التي اعتقدت أنها اندملت.
كما تاجرت أوربا بالعبيد من إفريقيا، تاجرت البلاد المغاربية بالعبيد السود. فكان الجريد وطريق غدامس، بالنسبة لتونس، شريانا تجاريا تأتي منه أنواع البضائع، ومنها العبيد، لتسكبها القوافل في الواحات للفلاحة، ثم في المدن والقرى للعمل في البيوت والمزارع والحوانيت وورش الصناعات الحرفية. ولأن الغناء والرقص لم يكن يليق ب “الأحرار”، إلا في القصور الفخمة، فإن العبيد الأفارقة كانوا، في مناطق عديدة من بلادنا، العنصر الفني الذي طبع ثقافتنا الموسيقية الشعبية، ومن مخيالنا عن خدم البيوت السود اخترع المسرح التونسي شخصية برق الليل.
لكن مكر التاريخ جعل الكثير من المغاربة، في سياق مختلف وبمواصفات مختلفة، “عبيدا سودا” في أوربا من منظور طبقي-ثقافي. فعوض أن يجري جلبهم في قوافل من الغابات و من الأسواق ليُحملوا قهرا إلى المصانع ولورشات البناء والمزارع، حيث يقومون بكل الأعمال الشاقة و”الوضيعة”، تقوم الدول المستقلة -عبر وكلائها- بتنظيم هذه القوافل الجوية والبحرية، بينما تستجلب قطاعات الاقتصاد العالية التقانة نخبة المتعلمين المهرة. بل أن عشرات الآلاف من الشبان المغاربيين يشقون البحر خلسة باتجاه أوربا مثلما يشق الماليون والسودانيون الصحراء باتجاه شمال إفريقيا. وفي أوربا عاش المغاربة “سودا أفارقة”، تماما مثلما عاش السود الأفارقة الحقيقيين في البلاد المغاربية في الأزمان الغابرة، وهم اليوم يعانون من الميز العنصري بسبب اللون، وعاشوا ويعيش أغلبهم حاليا مهمشين في أحياء معزولة، في ظروف لا علاقة لها بمستوى العيش في بلدان الاستقبال وتفترسهم الجريمة.
خلال هذه التجربة عرف المهاجرون المغاربة معنى الدونية، في مكانتهم الاجتماعية وفي أجورهم الأقل بكثير من زملائهم الأوربيين، أحيانا رغم تساوي المهارات. وعرفوا الدونية الثقافية (العربي القذر)، وعانوا من العنصرية الدينية ضد الإسلام. صحيح أن الأجيال الثالثة من المهاجرين اندمجت بنسب مختلفة في المجتمعات الأوربية، لكن العنصرية-الطبقية والثقافية تحولت إلى آلية استغلال اقتصادي، وكثير من الدراسات حول سوق الشغل في بريطانيا وفرنسا والمانيا بينت أن الأصول الاثنية والثقافية تلعب دورا خفيا -لا قانونيا- في سوق التشغيل، فتنتج الاستبعاد والتهميش.
واليوم عرى “الربيع العربي” كل تضاريس علاقاتنا بأوربا وبشعوب جنوب الصحراء. لقد بدأت غشاوة تمثلنا الاستعماري القديم لمجالنا الجيو-استراتيجي الحيوي تنقشع، لنكتشف أننا قضينا وقتا طويلا في النظر إلى مصالحنا من منظور الشمال دون الالتفات إليها من منظور الجنوب. وبقدوم المهاجرين من دواخل إفريقيا اكتشفنا أن دروب الصحراء مازالت نشطة تضج بالحياة، بمعنى أننا أعدنا اكتشاف جزء أساسيا من تاريخنا ومن ذاتنا.
أما الأسئلة الأكثر تعقيدا والأكثر إثارة التي تبلورت من اكتشاف افريقيا فينا فهو التالي: ماذا ستكون تبعات تعريفنا الذاتي والمستقل لمجالنا الجيو-استراتيجي التاريخي على علاقاتنا الثقافية بشعوب جنوب الصحراء؟ كيف سنتعامل مع الإرث الثقافي الذي ورثناه من هذه العلاقة، وانقطعنا عنه بفعل الاستعمار، ثم اكتشفناه من جديد في مرآة علاقاتنا بأوربا؟ كيف سنتصرف عندما نكتشف عنصرية أوربا تجاهنا في عنصريتنا تجاه شعوب امتزج تاريخنا بتاريخها لفترة طويلة من الزمن؟ في فترة معينة اقتضت التحولات الاقتصادية التي عرفتها بلداننا في السياق الاستعماري إلى التعايش مع الآخر العنصري المحتل من موقع دوني، هل سنتصرف بعنصرية عندما تقتضي التحولات الاقتصادية والاجتماعية الجارية اليوم في بلداننا استقبال مهاجرين من جنوب الصحراء؟ أم ستكون هذه فرصتنا لنضيف إلى تاريخ الانسانية ابتكارات خلاقة في التعايش الانساني؟. هذا هو الاختبار الحضاري التاريخي الذي نواجهه اليوم.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي”الصادرة بتاريخ الثلاثاء 28 فيفري 2023