الشارع المغاربي: لم يَكفّ خطابُ مجموعة “جبهة الخلاص” عن استثمار مجال المناورة الذي تركه لهم سعيّد. فهو لم يُعمِل فيهم القانونَ الذي يجفّف منابعهم التنظيمية والمالية. ومن ذلك المجال أقامت تلك الجبهة خطابَ المناورة المتواصل على ركنين اثنين: رمي سعيّد بالانقلابية (1) وادعاء أنهم ضحايا الذود عن الديمقراطية من منطلق أنهم جهة معارضة (2).
1/رمي سعيد بالانقلابية:
ترمي “جبهة الخلاص وقلبها النهضوي الخالص ” سعيّد بالانقلابية رميا تُداري به ما اقترفت في حق الدولة والمجتمع طيلة فترة حكمها. وقد تسرّعت في ذلك تسرّعا كشفت به هوسَها بمغانم السلطة وأظهرت ضحالتها المعرفية، فلم تدرك أن ما قام به سعيّد هو سطو على”الدولة” وليس على الحكم أو السلطة.
تهمة الإنقلاب
لم تنجح هذه” الجبهة “في التعلل بأنها ضحية انقلاب بأنها صوت الدفاع عن الحكم الشرعي حتى وإن انضم إليها مَن ليسوا إخوانا بالنسب. وإن لذلك سببا سياسيا معلوما. فرَميُ سعيد بالانقلابية أطلقه إخوان النهضة في ندوتهم الصحفية التي تزامنت مع لحظةَ إعلان سعيد عن تدابيره الاستثنائية. عموم التونسيين يعلمون أن دافع الإخوان إلى تلك التهمة هو فقدانهم مقود الحكم ومزاياه، بدليل أنهم في مرحلة ما جعلوا ما كان لديهم انقلابا “تصحيحَ مسار”، آملين في استعادة موطئ قدم في سلطة سعيّد. لذلك لم يبال جمهورَ التونسيين بتكييفُ الإخوان ما قام به سعيّد، وإنما كان شُغلهم طموحهم إلى ما بعد حكم الإخوان المباشر، قبل أن يدبّ فيهم اليأس من جديد.
السطوعلى الدولة
تعامل جماعة جبهة الإخوان مع 25 جويلية على أنه انقلاب. فقد فاتهم أن لـ “الانقلاب”مفهوما رائجا محدّدا في المدوّنات السياسية والقانونية الكونية. وبيان هذا المفهوم هو أن تعمد قلة من خارج السلطة إلى استعمال القوة استعمالا غير مسنود شعبيا من أجل انتزاعها من جهة حكم قائم. وما قام به سعيّد يوم 25 جويلية، وهو على رأس السلطة، وما قام به بعد ذلك وهو في الموقع نفسه، لا يوافق مفهوم الانقلاب وإن حاز بعضه.
فما فهمه أغلب أهلُ الفكر والاختصاص وقلّةٌ من أهل السياسة أنّ “انقلاب سعيّد”، مفهوم تروّجه تلك الجبهة المفلسة، لا يستقيم ولا يجلب لها الإسناد من هذه الزاوية المعرفية ذاتها.
إن ما قام به سعيّد يومئذ وما استتبعه من إجراءات ومراحل ومناورات، ليس انقلابا. هو ليس انقلابا لأنه مختلف عنه، وليس لأنه دونه خطرا. إنه أخطر منه. ذلك أن سعيد لم يستول على السلطة. فهي بين يديه. ولم يكن خارجها. فهو فيها. لقد استولى سعيد على ما هو أعلى من “السلطة” وأجلّ . استولى على “الدولة”عقدا ومؤسسات وثوابت كبرى عميقة لا تتغير فجأة بتغير من يمسك السلطة. فإذا كان لا بدّ من مصطلح “انقلاب” فقد وجب التدقيق بأنه “انقلاب”على عقد الدولة الجامع العميق الذي منه نظامها الجمهوري؛ نظامُها الذي أقام سعيد مقامه “نظاما” لا اسم له في السجل السياسي الحديث. فمن هذه الزاوية المعرفية بدورها بقي خطاب تلك الجبهة صوتا ولا صدى.
2/قناع الديمقراطية واحتكار المعارضة
تروج “جبهة الخلاص”، عبثا، أنها جهة دفاع عن الديمقراطية وأنها، تبعا لذلك، جهة المعارضة لحكم سعيد وعلى ذلك قال مؤخرا سمير ديلو باسم الجبهة وببهلواناته الكلامية التي استنفدت رصيدها: إن الجبهة ستواصل تحرّكها بتواصل أسبابه.
ادعاء الدفاع عن الديمقراطية
في خطاب الغنوشي وإخوانه، وفي خطاب نجيب الشابي الذي دسّ عقودا من السياسة في عباءة الإخوان ، يَرُوجُ أن جَبهتَهُم هي اليوم صوت الذود عن الديمقراطية التي يدّعون أنهم كانوا حُكامَ صَون لها. والراجح أن هذا الترويج إنما هو موجّه إلى الخارج الذي عادة لا يصمّ الآذان عن مطلب الديمقراطية إذا كانت جهة الطلب مطواعةَ له وسفيرةً لسفرائه، وإذا انتفت مصلحتُه في الصّمم.
والحقيقة ان جبهة الخلاص تعلم علم اليقين أن الشعب التونسي خبر جيدا “ديمقراطيتها”؛ ديمقراطية تفكيك الدولة وحكم الغنيمة. كما تعلم جماعتها أن دفاعهم عن الديمقراطية زيف مثلما يدركون أن لدى النخب وعيا بأن التعايش بين الدين السياسي والديمقراطية من التّرّهات المعرفية قبل السياسية. فسواء لدى عموم الشعب أو لدى النخب ليس لهذا الإدعاء آذان سامعة.
ادعاء احتكار المعارضة
ادعاء “جبهة الخلاص” أنها جهة المعارضة الوحيدة المقابلة لسلطة سعيد لا يخلو من تمويه خطير. ليس ذلك كذلك لأنه ادعاء نافق رائج ، وإنما لأنه ادعاء تسعى به هذه الجبهة إلى طمس غيرها طمسا بعيد الأهداف. وهو طمس تحرص على أن تُنفقه على الداخل وعلى الخارج بقدر الجهد.
ففي ترويج هذه الجبهة الإخوانية أنها الجهة الوحيدة المقابلة لسعيد والمعارضة له، على المدى البعيد قدر من الخطر إذا سكت عن التمويه الذي فيه مُدرِكوه. فبهذا الإدعاء تُوهم الجبهة أنها جهة تحمل “مشروعا سياسيا” معارضا لـ “مشروع” سعيّد، وأنها ليست مجرد جماعةِ حُكمٍ شاركت فيه سعيّد، راضيةً مرضيةً، بعد أن ساعدته على أن يصل إليه، حين كانت قد عوّلت على شراكة فيه بينها وبينه تكون لها فيها اليد الطولى بصرف النظر عن مشروع الحكم وطبيعته. فمِن أهداف هذا الإدعاء أن تصرف هذه الجبهة الأنظار، ولو على المدى البعيد، عن حقيقة أنها لا تُعارض مشروع حكم بمشروع يخالفه ، وإنما تعارض من منطلق من خسر حكما مباشرا يعمل على استرجاعه على ما هو عليه أو كَيفَمَا كان. فالهدف الخطير الذي تسعى إليه هذه الجبهة على المدى البعيد، إذا تعذر القريب، هو الإيهام بأنها وسعيّد تمام المشهد دون سواهما، وبأنه مَتى لا يكون هو في الحكم تكون هي.
ثم إنّ لهذا الإدعاء خطرا ثانيا مركبا لعله أحَدُّ من سابقه لولا أنّ للواعين به أصواتا صَدّاحةَ وعقولا نبّاهةً. فهو ادعاء تحاول به هذه الجبهة أن تغطِّيَ حقيقة الجهة التي لها فيه أغلب الحظ إن لم يكن تمامه ، هي جهة التيار الدستوري. إن هذا التيار هو اليوم الجهة الوحيدة المقابلة لسعيد، المعارضة له، سواء بالمنتظمين حزبيا أو بغير المنتظمين. فهذا التيار الوطني، وإن كانت قد فضّلت هوامش الخطأ فيه لعب دورَ البطانة لحكم الإخوان، فإن الثقل الأصيل فيه حافظ على أمهات مراجعه، وعلى روح الدولة الوطنية الكامنة فيه، وعلى انتشاره في النسيج الشعبي انتشارا حزبيا مُجمَّعا وانتشار فرديا.
باستثناء هذا التيار الذي يشغل اليوم موقع المعارضة، فإن جبهة الخلاص هي اسم بلا مسمى سياسي وشعبي. وليس أدل على ذلك من تدرّج سعيّد في الإيقاع بمنازعيه منهم حصريا من دون أن ينطق بالتضامن معهم أيُّ صوت شعبي تلقائي حتى حين انغلق السجن على الرأس، بإستثناء قلة مِمَّن هم إخوان بالنسب أو بالرضاع.؟! ولعل التعبيرة الشعبية التونسية ابلغ من أي تحليل مهما كانت بلاغته لوصف حال جبهة الخلاص هذه في تونس اليوم : “باع وروح” ويغلق القوس..
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 16 ماي 2023