الشارع المغاربي: وراء ستار المعارك الدائرة على الأرض الأوكرانية انطلقت حروب المرحلة القادمة بدخول إيران أولا ثم الصين لاحقا لتحقيق جملة من المكاسب والاهداف الاستراتيجية الخاصة بهذين القوتين باعتبار أن أوكرانيا تمثل امتدادا للمجال الأوروبي والأطلسي واحدى اهم جبهات الاشتباك الاقليمي والعالمي.
حققت ايران مكسبا وازنا في معادلة التكنولوجيا العسكرية بفضل القوة التدميرية الساحقة لمُسيّراتها «الإنتحارية» التي دكت البنى التحتية الخلفية لأوكرانيا على حدود بولونيا. فقد تمكنت الطائرات بلا طيار الرخيصة الثمن والفائقة السرعة وذات القدرات الكبيرة للمناورة من التسلل عبر أنظمة الرصد والدفاع الجوي التي ركزها الحلف الأطلسي بمليارات الدولارات والوصول الى منشآت الطاقة والمراكز اللوجستية بأوكرانيا واحداث أضرار فائقة مما استنفر كل القوى المعادية لطهران التي سارعت من واشنطن الى الرياض مرورا بباريس وتل ابيب الى فرض عقوبات اضافية على المجمع الايراني للصناعات الفضائية الحربية.
في المقابل، ولرد الجميل، وافقت روسيا على مد طهران بطائرات مقاتلة من الجيل الأخير قادرة على تعقب ايّة اسراب مهاجمة جوا مما سيعيد صياغة السيناريوهات الاسرائيلية والغربية حول ضربة استباقية للمنشآت النووية في العمق الايراني.
اما الصين فقد صاغت استراتيجيا على مرحلتين كانت الأولى ديبلوماسية بتقديم تصور للحل السلمي في اوكرانيا رفضته كل الأطراف الغربية دون الغوص في تحليل مراميه باعتبار ان بعض البنود تقر صراحة بوجوب بقاء بعض الأراضي الاوكرانية تحت السيادة الروسية. اما الخطوة الثانية فكانت بإرسال أسلحة وذخائر مدفعية ذات مدى بعيد ودقة فائقة ومخصصة لصيد الدبابات كعملية استباق لوصول بعض العشرات من المدرعات الى كييف.
ان انخراط ايران والصين في مجريات الحرب باوكرانيا لا ينحصر في البعد الجيوستراتيجي فقط، وانما يتخطى اللحظة الحربية الى ترتيبات ما بعد الصراع. فلا روسيا قادرة اقتصاديا وبشريا على مواصلة حرب بدأت تستنزف قدراتها المالية والانتاجية ولا أوروبا المرهقة طاقيا والعاجزة عن استيعاب صدمة جائحة كورونا وتبعاتها الاجتماعية مستعدة حاليا لاسناد اوكرانيا لسنوات قادمة رغم التعبئة الإعلامية.
فللقوتين المهيمنتين عالميا، الصين والولايات المتحدة قناعة مشتركة بأن الحرب في سهول الدونباس تبقى جزءا من رقعة الشطرنج الكبرى حسب نظرية بريزنسكي التي تعتبر اوكرانيا ساحة امامية من «أرض الحزام» او «مجال الإحتواء». فالحرب المؤكدة والمؤجلة التي بزغت طلائعها ستندلع قريبا على شواطئ تايوان ومضيق مالاقا اي في قلب «محور الارتكاز الاستراتيجي» حسب عقيدة أوباما التي صاغها حينها جو بايدن حين كان نائبا له.
ان الحرب القادمة اذا اتبعت مسارات الضغط التي تمارسها مراكز المصالح المرتبطة بالمجمع العسكري الصناعي الأمريكي والجناح القومي في القيادة الصينية، ستحتّم بناء اصطفافات سياسية عالمية تتجاوز بكثير انقسام المجتمع الدولي ابّان اندلاع الصراع في اوكرانيا.
لن تسمح القوى المتصارعة مستقبلا بوجود «مناطق رمادية» تقف عندها الدول التي ترفض الانخراط ضمن المحاور. ولأن كل من القوتين العظميين تقفان على رأس تحالفات اقليمية على امتداد المعمورة، فإن كل الحدود الفاصلة بين المحاور ستكون مرشحة للإشتعال.
وما يدعم هذا التصور، تسارع خطى التقارب بين بعض الدول في عديد التشكيلات الاقليمية مثلما يحدث منذ مدة على مستوى امريكا الجنوبية او تجاوز اشكالات عميقة وحتى دموية للتوصّل الى توافقات امنية واستراتيجية على غرار محاولات بناء مجال أوسطي يمتد من ايران الى لبنان مرورا بسوريا وبِعدوّ الأمس، تركيا، تحت غطاء تنسيقي مشترك وبدفع صيني روسي.
الا ان ارتسام هذه «الشقوق التكتونية» للطبقات الجيوسياسية لا يضع منطقتنا المغاربية وتونس تحديدا خارج خطوط الزلازل الأمنية. فبلادنا معرضة للضغوط المستقبلية امريكيا وغربيا وبشكل قد يصعب تحملّه، على عمقها الغربي باتجاه الجارة الجزائر، الحليفة للمحور الصيني الروسي والمتعاونة بشكل حذر مع الطرف الامريكي. كما ان الحضور العسكري الأطلسي شمال تونس، في الجوار الصقلي الذي يمثل خط المواجهة المستقبلي مع التسرب الصيني في العمق الافريقي، سيسعى لانخراط تونس، الحليف الأساسي غير العضو في الحلف الاطلسي منذ سنة 2015، في الجهد الغربي لكسر قوس التواصل بين المتوسط ودواخل القارة السمراء.
لقد كانت حروب الإقليم دوما كارثة على تونس ومسارها التنموي واستقرارها. الا ان الحلقة الثانية لحروب ما بعد نهاية القطبية الإحادية التي انطلقت في سهول الدونباس، قد تعصف بما تبقى من منظومة الأمن القومي الإقليمي وتدفع بنا الى أتون المحاور المتصارعة. وان كنّا لا نقدر على ايقاف عجلة الحرب بين القوى المهيمنة عالميا، فإن من واجبنا ان نسعى الى تصميم استراتيجيات مستقبلية تقي البلاد والاجيال القادمة من تبعات صراعات الغير.
إن اول وأوكد خطوة يجب انجازها تكمن في تفكيك آليات الصراع مغاربيا بالتخفيض السريع من مستوى الصراع بين الجزائر والمغرب استئناسا بالتجربة السابقة زمن الزعماء والأباء المؤسسين حتى لا تعرف المنطقة استيرادا لنزاعات خارجية.
اما الخطوة التالية فيجب ان تنحو باتجاه اوروبا الشريك الاقتصادي والأمني. فأي مس بالاستقرار في منطقتنا وبلادنا، سيترجم فوضى اقليمية قد تنطلق من موجات هجرة مكثفة ولا تقف عند استشراء الإرهاب او التهديدات الهجينة. وهنا، على العقل السياسي التونسي وخاصة المشتغل في حقل العلاقات الدولية ان يعيد صياغة نماذجه ومناويله القديمة وهندسة منظومة خلاقة تجيد تثمين الإرث الوطني لمرحلة التأسيس وتخطط لنسج شبكة مستحدثة للمصالح مع دول ومحاور وتوجهات قد تبدو متناقضة او حتى متصارعة، لكن مكامن التقاطعات والمصالح المشتركة قد تكون المدخل الأفضل لضمان أمن منطقتنا والنأي بها عن اية معادلة تضع تونس ضمن هوامش الحساب.

*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 7 مارس 2023