الشارع المغاربي – حصري وبالوثائق/ محاولات دفن ملفّ شبكات التسفير : أسرار «صفقة» العميد هشام المؤدّب! / بقلم: معز زيّود

حصري وبالوثائق/ محاولات دفن ملفّ شبكات التسفير : أسرار «صفقة» العميد هشام المؤدّب! / بقلم: معز زيّود

26 يناير، 2018

الشارع المغاربي: لم تمنع نجاحات المؤسّسة الأمنيّة في ضرب أوكار الإرهابيين والتكفيريين، مؤخرًا، من عودة قويّة لطرح قضيّة تسفير المئات من الشباب التونسي للقتال في كبرى مناطق الصراع الإرهابي. وقد اقترنت عودة هذا النقاش العام بمحاولات شتّى لتمييع ملفٍ خطير، بهدف إفراغ لجنة التحقيق البرلمانية ذات الصلة من أيّ مضمون. تصريحات العميد بوزارة الداخلية هشام المؤدّب تندرج في هذا المسار التعويمي، خاصّة أنّه انقلب بشكل شبه كلّي على حراكه في هذا الملف سابقا. الموضوع له خلفيّات وأسرار حولصفقة، ننفرد بسبر بعض أغوارها بالحجّة والوثيقة والبيان

خلال جلسة الاستماع للعميد الأمني هشام المؤدّب أمام لجنة التحقيق بمجلس نواب الشعب حول شبكات تسفير الشباب التونسي إلى بؤر التوتّر، يوم الاثنين 15 جانفي 2018، أدلى المؤدّب بعدد من المعلومات التي بمقارعتها بما سبق له من تصريحات وحجج تبيّن أنّها تندرج ضمن ما يُسمّى بـالأخبار الزائفة” (Fake news). ومن الضرورة التوقّف عندها باعتبار أنّ بثّها يرمي إلى تحويل الأنظار عن قضايا ومحاور معيّنة من أجل تمييعها وقلب الحقائق، خدمة لأجندة ومصالح معيّنة

سيل من المغالطات!

من المعلوم أنّ الرقم الرسمي الوحيد للتونسيين الذين التحقوا بالجماعات الإرهابيّة في الخارج يحوم حول ثلاثة آلاف عنصر، وتحديدا 2926 تونسيا وفق ما ذكره سابقا رئيس الجمهورية وأكّده وزير الداخلية. وبصرف النظر عن أسلوب التضخيم الذي مارسته بعض الجهات الأجنبية الأجنبية خصوصا بشأن تربّع تونس على عرش الدول المصدّرة للإرهابيين، فإنّ هناك مراكز دوليّة على غرارالمركز الدولي لدراسة التطرّفومعهد بروكينغزقد أكّدت بدورها الإحصاء الرسمي التونسي المذكور نفسه (أي 3000 عنصر). كما أوضحت أنّ هذا الرقم يعكس أعلى التقديرات ويشمل الذين ماتوا أو غادروا مناطق النزاع. وهو يُعدّ، في حدّ ذاته، عددا ضخما طبعا، لكنّه لا يقلّ بالنصف عن الرقم الذي قدّمه هشام المؤدّب مؤخرا، ويتمثّل في وجود 6 آلاف شاب تونسي توجّهوا إلى سوريا، مُعْلمًا لجنة التحقيق حول شبكات التسفير بالبرلمان أنّ عدد المقاتلين التونسيين يعادل 10 بالمائة من مجموع الإرهابيين في سوريا.

وإذا أخذنا بإحصائيات المؤدّب فإنّ تونس أضحت تتصدّر فعليا ماكينة تفريخ الإرهابيين في العالم، وهو أمر مجانبٌ كليّا للحقيقة، لاسيما أنّه تحدّث عن وجود 6 آلاف تونسي في سوريا فقط، ممّا يعني أنّ العدد الإجمالي قد يفوق ذلك بكثير في حال أضفنا ليبيا وبعض بؤر الصراع الأخرى. ينكشف بذلك إذن مدى التضخيم المبالغ فيه الذي انساق وراءه العميد المؤدّب، غير أنّ طرحه غير المؤسّس على أدلّة وبراهين بدا متضاربا إلى حدّ كبير، وهو ما سنكشف الهدف منه لاحقا. فقد ذكر أنّ هناك 500 عنصر إرهابي تونسي في عداد المفقودين وأنّ من عادوا هم جزء من بين هؤلاء الـ500 مفقود، في حين أنّ عدد العائدين بلغ حوالي 800 وفق ما أعلنه مسؤولون تونسيون، أي أكثر من عدد المفقودين المزعومين لا فقط جزءا منه. هذا الخبط العشواء يُثير الدهشة مجدّدا ويُفقد كلّ المعطيات التي قدّمها المؤدّب أدنى مصداقيّة. أمّا إذا ما توقفنا عند إطنابه في وصف خبرته الطويلة في مجال مكافحة الإرهاب من خلال عمله أو إشرافه لسنوات على وحداتها المختصة مكافحةً واستعلامًا، فإنه يُفترض أن يكون ماسكا بمعلومات دقيقة، لا مجرّد الاستناد إلى مواقع إلكترونية روسية وأمريكية وإسرائيلية، مثلما صرّح بذلك في برنامج بقناةحنبعلأمس الأوّل الأحد.

السؤال المطروح إذن هو: ما الهدف من بثّ هذه البلبلة والسقوط في هذا التضارب في الأرقام، لو لم يكن يسعى إلى تحويل وجهة النقاش والطرح واهتمام اللجنة البرلمانيّة إلى جوانب كانت محسومة رسميا؟!. الإجابة على هذه المغالطة يُقدّمها المؤدّب نفسه في وثيقة سرية هي عبارة عن شكاية تقدّم بها إلى النيابة العمومية، يوم 6 أوت 2013، لِيُعلن فيها تعرّضه لضغوط تهدف إلى منعه من تمريرملف المقاتلين التونسيين بسوريا“. ومع أنّ هذه القضية مسجّلة لدى المحكمة الابتدائية بتونس تحت رقم 2013/7043305، فإنّه لا يُعرفُ إلى حدّ اليوم مآلها. وهي قبل كلّ شيء تدفعنا إلى التساؤل عن أسباب تغييب هشام المؤدّب ما بحوزته من ملفات عن هؤلاء المقاتلين رغم حرصه آنذاك على تقديمه إلى قيادة الوزارة. مقابل ذلك نراه اليوم مكتفيًا بترويج معلومات متضاربة وعموميّات، ليس من العسير على تلميذٍ في التعليم الإعدادي أن يستقيها من الانترنت. ومن ثمة ينبري مُحاولا الضحك بها على ذقون أعضاء اللجنة والرأي العام التونسي عموما!…

الملفّ المسكوت عنه

الجدير بالذكر أنّ المؤدّب كان قد قدّم إلى الجنة البرلمانيّة توصيفات سياسيّة أخرى بلا براهين، إلى حدّ مناقضة تصريحات سابقة له. فقد نفى وجود تعليمات صادرة عن مؤسّسة أو حزب أو جمعية مّا تحُثّ الشباب التونسي على التنقّل إلى سوريا، وكأنّه بذلك يدعو ضمنيّا إلى حلّ اللجنة البرلمانيّة التي استمعت إليه. والحال أنّه هو نفسه من مرّر إلى قيادة وزارة الداخلية سابقاقائمة اسمية وأرقام هواتف وعناوين لـ117 مقاتل تونسي تمّ إرجاعهم من سوريا عبر تركيا وليبيا على متن طائرة خاصّة لدعم إرهابيي الشعانبي، وفق ما عاينّاه من كلامه الوارد حرفيا في رسالة أمضاها بخطّه ووجّهها إلى وزير الداخليّة بتاريخ 1 سبتمبر 2016. هذه المعلومات التي لم يُخفها المؤدّب عن اللجنة البرلمانيّة تتناقض في أبعادها مع محاولته تمييع مسألة صلة بعض الأشخاص أو الهياكل الأمنية أو السياسيّة أو الحزبيّة أو الجمعياتية بشبكات التسفير. ولا ندري هنا إنْ كان المؤدّب قد أخبر اللجنة البرلمانية بالإطار العام الذي سمح له سابقا بالحصول على تلك المعلومات، فضلا عن ماهية الجهات والشخصيات الأمنيّة التي اتّهمها سابقا بتهديده، باعتبارها تتحرّك في دائرة ما يُعرف بـالأمن الموازي“.

وللإشارة فإنّ رئيس الحكومة الأسبق المهدي جمعة كان قد أقرّ هو نفسه، في تصريح للقناة الوطنيّة، أنّ هناك جهة معيّنة عرضت عليه خلال توليه رئاسة الحكومة إعادة إرهابيين كانوا يُقاتلون في سوريا إلى تونس في طائرة خاصّة لكنّه رفض ذلك، متحفّظا على اسم تلك الجهة لاعتبارات وصفها بـأسرار الدولة“… وهو ما يُعدّ تصريحا ذا مضامين خطرة لأنّه يكشف أنّ هناك من كان يسعى إلى توريط الدولة رأسًا في الإحاطة بإرهابيين والتغطية على جرائمهم.

ولا ننسى أنّه جرى آنذاك التسويق لِمَا سُمّي بـمشروع قانون التوبةمن قبل عدد من كبار الشخصيات العامّة السياسيّة والحزبية في صلة بملف شبكات التسفير، ولكن لا شيء يُثبتُ أو يُحدّد بالبرهان والدليل، إلى حدّ الآن، الجهة التي تقف وراء هذا الملف الخطير.

صفقة أم مقايضة؟!

من الوثائق البالغة الأهميّة التي يتكتّم عليها هشام المؤدّب اليوم رسالة أخرى وجّهها إلى وزير الداخلية بتاريخ 16 مارس 2013، أي بعد شهر و10 أيّام تقريبا من اغتيال الشهيد شكري بلعيد، لِيُعلن فيها صراحة عن ضلوع بعض الأطراف في استخراج جواز سفر دون وثائق ودون موافقة الولي للتوجه إلى سوريا. وفي هذا الصدد يتحدّث عن شكاية بشأن المدعوياسين السعداوي الذي تمكّن من السفر باتّجاه تركيا ومنها إلى سوريا للجهاد بعد أن مكّنته الإدارة العامّة للمصالح المختصّة من جواز سفر ثاني بالرغم من احتفاظ العارض (أي والده) بجواز ابنه الأصلي“. والجدير بالذكر أنّ هذه الرسالة/الوثيقة التي تحمل توقيعه مجيّرة بتوصية من وزير الداخلية علي العريض آنذاك، وبخطّ يده، لمتابعة الموضوع والإفادة.

وفي هذا الصدد ينبغي الانتباه إلى فحوى رسالة المؤدّب الأخرى لوزير الداخلية، التي أشرنا أعلاه إلى أنّه وجهها بتاريخ 1 سبتمبر 2016، ويتّهم فيها المدير العام الأسبق للمصالح المختصة بوزارة الداخلية محرز الزواري ويذكره بالاسم بأنّه قام بتهديده مباشرة، علما أنّ الزواري أقيل من منصبه بتاريخ 21 أوت 2013، أيّ بعد الشكوى الأولى الموجّهة إلى وزير الداخلية علي العريّض بشأن جوازات السفر الممنوحة إلى من كانوا يعتزمون الالتحاق بالجماعات الإرهابية بالخارج، فضلا عن كلّ ما يكتنف ذلك من تلميحات لمسألةالأمن الموازي“. فمن المعلوم أنّ مدير عام المصالح المختصّة المذكور سبق أن حامت حوله شبهة ولاءات سياسيّة، بالنظر إلى ما يُروّج حول وقوفه وراء ما عُرف بـالأمن الموازي“. وليس المقصود بهذا الجهاز طبعا وجود عناصر أمنية غريبة عن وزارة الداخليّة، كما قد يعتقد البعض، وإنّما توجيه منتسبين للوزارة لا إلى العمل في نطاق هياكلها المعروفة وإنّما التحرّك ضمن هياكل وأطر أخرى غير معلنة.

خيوط اللغز، والصفقة التي نتحدّث عنها، يكشفها هشام المؤدّب في عدد من العرائض والرسائل التي سبق أن وجّهها إلى أكثر من وزير داخليّة، ولكنّه يطرحها أيضا في الشكاية التي تقدّم بها إلى النيابة العموميّة بتاريخ 6 أوت 2013. وقد تحدّث في رسالة سبتمبر 2016 عن تعرّضه لـضغوطاتوتهديدات، وصلت إلى حدّاختطاف كلّ من يُقابلني بالمكتببوزارة الداخلية، وفق ما ذهب إليه هو نفسه. والأكثر من ذلك أنّه أعطى دليلا على هذهالهرسلةبلغت حدّ تلفيق التهم له عبر الحديث عن اختطاف مواطن أصيل تطاوين قصدَه بمكتبه لاسترجاع درّاجته النارية، قائلا حرفيّا: “هذا الأمر أجبرني إلى تقديم شكاية إلى النيابة العموميّة.  وبعد هذا الحدث بشهر ونصف تمّ تلفيق شكاية ضدّي بالتفقدية أمر تحرش ضدّ موظفة والتي تمّت مكافأتها لاحقا بتعيينها معتمد بومهل“.

ومن الضرورة بمكان الانتباه هنا إلى مسألة حديث المؤدّب عن تلفيق شكاية ضدّه بتهمةالتحرّشبإحدى زميلاته بالوزارة. وهي تهمة ذكرها بطبيعة الحال في القضية المودعة لدى المحكمة الابتدائية بتونس بتاريخ 6 أوت 2013. والمقصود من كلّ هذا أنّ انقلاب العميد هشام المؤدّب اليوم على تصريحاته وشكاويه وعرائضه ورسائله السابقة، لابدّ أن يقف وراءه سبب وجيه يبرّره. وهو ما يجعلنا نتساءل إن كان هو نفسه بصدد التعرّض اليوم إلى عمليّة ابتزاز قد تفرض عليه التراجع عن حراكه السابق، مقابل التخلّي عن تحريك ملفّالتحرّشضدّ شخصه؟! ومن ثمّة تكليفه مثل غيره بالإسهام في ضرب مسار عمل اللجنة البرلمانية للتحقيق حول شبكات تسفير الشباب التونسي إلى مناطق النزاع، وإحداث البلبلة في صلبها وتمييع المعلومات التي بلغتها سابقا. ويعني ذلك أيضا أنّ الأمر قد يتعدّى هشام المؤدّب ويجعل منه مجرّد حلقة ضعيفة لتمرير أجندة معيّنة لأطراف غير معلنة أكانت أمنيّة أم سياسيّة أم حزبيّة؟!. ومن هنا يُمكن أن نفهم دواعي جعل كلّ تلك المعلومات والوثائق اليوم نسيا منسيا، وكأنّ لا وجود لها أصلا

يطرح كلّ ذلك مجدّدا سؤالا شائكا جدّا، لا تخلو مراميه من خطورة، يتمثّل في الآتي: هل أنّ هذهالصفقةأوالمقايضةأوالتسويةتعكس فقط انتعاشة جديدة لمن كانوا يقفون وراء ما يُسمّى بـالأمن الموازي؟!، وهل يعني ذلك عودة الكرّ والفرّ بين أجنحة معيّنة بوزارة الداخليّة؟! أم أنّ الأمر يتعلّق بضغوط سياسيّة أو حزبيّة معيّنة أدّت إلى هذا التغيّر المفاجئ في التقديرات والتصريحات والإقرارات؟!…

في كلّ الأحوال هذا ما يُثير الخشية والريبة، وذلك بالنظر إلى تعارضه مع أولويات وزارة الداخليّة في هذا الظرف الدقيق الذي تمرّ به تونس، لاسيما أنّ الوحدات الأمنيّة أثبتت للجميع خلال الفترة السابقة جاهزيّتها في التصدّي لمن يحاول ضرب استقرار البلاد وإسقاط الدولة، فضلا عن تعدّد نجاحاتها في القيام بعملياتٍ استباقيّة، سواء للوقاية من جرائم محتملة أو مخطّط لها من قبل الجماعات الإرهابيّة أو تفكيك الكثير من شبكات التكفير التي كان بالإمكان أن تمرّ في وقتٍ قياسي إلى تنفيذ عملياتها الإرهابيّة البشعة. ومع ذلك يبقى للحديث عن وقع الاختراقات للجهاز الأمني أكثر من تفصيل وبقيّة


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING