الشارع المغاربي – لأوّل مرّة في تاريخ البلاد: التونسيّون يتحدّون الدولة طلبًا للقوت ودعمًا لفلسطين / بقلم: معز زيّود

لأوّل مرّة في تاريخ البلاد: التونسيّون يتحدّون الدولة طلبًا للقوت ودعمًا لفلسطين / بقلم: معز زيّود

قسم الأخبار

20 مايو، 2021

الشارع المغاربي: باتت تونس وضعيّة استثنائيّة في محيطها العربي على كافّة الأصعدة، إن سلبيّا أو إيجابيّا. فعلى الرغم من حالة الاستقطاب والانقسام السياسي الشديدين بين التونسيّين، فإنّهم توحّدوا خلال الأيّام الأخيرة على التمرّد على السلطة وعصيان قراراتها المتعلّقة بالحجر الصحّي. ففرضوا مواصلة ممارسة أنشطتهم في الكثير من القطاعات. كما تجمهروا، من العاصمة إلى جربة، تضامنا مع الشعب الفلسطيني وتنديدا بالقصف الصهيوني الوحشي لغزّة…

ما من شكّ في أنّ الوضع الوبائي في تونس قد أمسى خطيرا للغاية اليوم. لا يُستشفّ ذلك فقط من قرارات الهيئة الوطنيّة لمجابهة انتشار فيروس كورونا ومن تحذيرات اللجنة العلميّة ذات الصلة، وإنّما حتّى من مجرّد إجراء مقارنات بسيطة بين عدد الإصابات والوفيات في دول شمال أفريقيا والعالم. فهل يعقل مثلا أن يفوق عدد الإصابات في بلادنا ما هو عليه في مصر التي يبلغ عدد سكّانها قرابة عشرة أضعاف عدد التونسيّين؟!. والأكثر من ذلك أنّ ربّما لا ينتبه البعض إلى أنّ عدد حالات الوفاة بسبب فيروس كورونا في تونس الذي يقارب 12 ألف حالة يتجاوز ثلاثة أضعاف ما هو عليه في الجزائر وأكثر من ضعفي عدد المتوفّين في الصين!… أسباب هذه الكارثة الصحّيّة في تونس متشعّبة طبعًا، وترتبط ارتباطا وثيقا بحالة البلاد المتمارضة على كافّة الأصعدة. ولا ريب أنّ سلطات البلاد ونخبها السياسيّة والبرلمانيّة والحزبيّة تتحمّل المسؤوليّة الأولى في ما جرى بدءا بالتسبّب في استضعاف الدولة ومؤسّساتها.

ومن ثمّة، يجد قرار الحجر الصحّي الشامل الذي امتدّ من 9 إلى 16 ماي 2021 مبرّراته المشروعة لمحاولة إنقاذ المنظومة الصحيّة من خطر الانهيار الكلّي. ومع ذلك شكّل التمرّد والعصيان إجابة شبه جماعيّة على قرارات السلطة لأوّل مرّة منذ استقلال البلاد. فقد أدّى التردّي المهول للأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة واهتراء سلطة الدولة إلى استمرار تجمهر التونسيّين وتنظيم تجمّعات مكثّفة، سواء عبر مواصلة ممارسة أنشطتهم المهنيّة والتجاريّة والتسوّقيّة أيّام العيد أو كذلك تنظيم مسيرات احتجاجيّة خلال الفترة ذاتها تضامنًا مع الشعب الفلسطيني وأهالي قطاع غزّة ضدّ ما يُكابدونه من قصف صهيوني وعمليّات تصفية دمويّة جماعيّة وتنديدا بما تشهده القدس الشرقيّة من تكثيف سياسة الاستطيان والتهويد المنهجي على مرأى من العالم بأسره وتحت غطاء غربي مفضوح…

التمرّد مقابل الأخطاء!

لا يخفى أنّ إجراءات التوقّي من انتشار فيروس كورونا كانت قد أتت أكلها في بداية هذه الجائحة، أي في مثل هذه الفترة من عام 2020، لكنّ الوضع الوبائي لم ينفكّ في التدهور منذ فتح الحدود ثمّ أثناء تصاعد الأزمة السياسيّة التي أسقطت حكومة إلياس الفخفاخ وما انجرّ عن ذلك من حالة اختناق ومعارك وصراعات سياسيّة وبرلمانيّة لا تزال ماثلة ومتناسلة إلى غاية اليوم، في ظلّ وعي الجميع باستشراء منظومة الفساد السياسي والمالي. والمقصود بهذا التقديم أنّ التونسيّين في معظمهم كانوا قد تعاملوا بحيطة وميل إلى الالتزام بقرارات السلطة خلال الموجة الأولى للجائحة. أمّا خلال فترة الحجر الصحّي الأخير فقد كان ردّ الفعل العام عكسيّا تمامًا، لا فقط لأنّ اقتصاد البلاد لم يعد قادرًا على تحمّل تبعات حجر صحّي صارم، وإنّما خصوصا لأنّ فئات وقطاعات شعبيّة عديدة قد أصابها الضرّ والضرر ووطأة الحرمان وشرّ التفقير. شهد اقتصاد البلاد إذن انكماشا غير مسبوق قارب نسبة 10 بالمائة، وأسقط نسبة النموّ إلى درجات دنيا تحت الصفر. كما تراكمت خسائر المؤسّسات الاقتصاديّة الصغرى والمتوسّطة التي تُشغّل الفئات الأقلّ دخلا، فتضاعفت أعداد العمّال المسرّحين بنسب غير مسبوقة. ولئن استثنى قرار الإغلاق بعض القطاعات الحيويّة، فإنّه عجز تمامًا عن إيجاد سبل التعويض لقطاعات مهنيّة وتجاريّة هشّة تقتات من بعض المناسبات مثل ليالي رمضان وعيد الفطر.

وفي الأثناء كانت هناك حالة توجّس وخشية كبرى من إقدام السلطة على إقرار الحجر الشامل. وممّا زاد الطينة بلّة الخطأ المتعلّق بالمساحات التجاريّة الكبرى التي شملتها قرارات الغلق وحجر النشاط في البداية، ثمّ التراجع عن ذلك بعد بضع سويعات. وهو ما فُهم على نطاق واسع على أنّه جاء بعد ضغوط مارسها أصحاب المال والأعمال على الحكومة ونجحوا في مسعاهم. ومن ثمّ انطلق وابل بيانات التحدّي والعصيان، فقد نشرت الفروع الجهويّة للاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة وعدد من الغرف النقابيّة، وفي مقدّمتهم تجّار الملابس الجاهزة والأحذية والحرَفيّين وسائقي سيارات الأجرة وعمّال المقاهي وغيرهم، بيانات متواترة تُعلن فيها بلهجة شديدة رفض منظوريها الالتزام بقرارات الإغلاق التي تستهدفها دون سواها!. والأكثر من ذلك، أنّ مسيرات ليليّة نزلت في بعض المناطق والجهات إلى الشوارع زمن حظر التجوّل تنديدا بقرارات الحجر، مُعلنة تحدّيها للسلطة ودخولها في حالة عصيان يمكن توصيفها بـ»عصيان مهني أو تجاري».

وإذا كانت السلطة قد نجحت في فرض قرارات الإغلاق والحجر في مركز الدولة والمناطق الراقية في تونس الكبرى، على غرار فرض إغلاق السوق المركزيّة بوسط العاصمة بالقوّة العامّة، فإنّها عجزت عن مواجهة تعاظم كرة الثلج في الأحياء الشعبيّة والعديد من الولايات والجهات الداخليّة التي لم تشهد إغلاق المقاهي والكثير من المحلّات التجاريّة. كما استمرّت فيها حركة النّاس بشكل عادي أو يكاد. وهو ما يعني أنّ تونسيّين كثرًا قد انضمّوا إلى حركة التمرّد وجعلوا منها حالةً عامّة لأوّل مرّة في التاريخ الحديث للبلاد، إذ من دونهم لا معنى لمواصلة التجّار والمهنيّين أنشطتهم.

رئاسة الحكومة فهمت طبعًا رسالة التحدّي هذه بشكل جيّد، والواضح أنّها حاولت تفادي تصعيد الأوضاع والتوترات المتصلة بالتطبيق الصارم لقرارات الحجر الصحي، رغم كلّ ما قيل بهذا الخصوص. وهو ما يعني أنّها قد تكون أعطت تعليمات للولاة ولأجهزة الأمن بالتعامل بمرونة مع الأوضاع السائدة وفي مناطق وجهات بعينها، حتّى تحول دون تغذية الاحتجاجات المتصاعدة واحتمال تفجّر الأوضاع المتوتّرة هنا أو هناك. وفي هذا المضمار أيضا تندرج الإجراءات التي أعلنها رئيس الحكومة هشام المشيشي لدعم بعض الفئات المتضرّرة من جائحة كورونا، على غرار تقديم قروض بلا فائدة إلى أصحاب المشاريع الصغرى وتمكين صغار التجّار والحرفيّين المنضوين في النظام التقديري من تأجيل دفع الضرائب التي تشمل أعمالهم. ولا ريب في أنّ تجنّب رئيس الحكومة توجيه انتقادات إلى حالة التمرّد التي سادت خلال الأيّام الأخيرة إلّا وعيا بمدى اتّساعها وخشية من التسبّب في انفلاتها. وما تلك الإجراءات، المعلن عنها رغم محدوديّتها، إلا محاولة لامتصاص حالة الغضب المتنامية لدى التونسيّين والفئات الشعبيّة منهم بالخصوص.

قضايا الوجود لا تكترث بالحجر

حالة تحدّي قرارات الحجر الشامل اصطبغت أيضا بطعم تضامني للتونسيّين في أنحاء عديدة من البلاد مع الشعب الفلسطيني ضدّ سياسات التهويد والفصل العنصري والتقتيل التي دأب النظام الصهيوني على ممارستها على مرّ الأعوام. ومن يتابع الصفحات التونسيّة على شبكات الميديا الاجتماعيّة، وخاصّة «فيسبوك»، يلاحظ مدى تركيز التونسيّين على القضيّة الفلسطينيّة واهتمامهم بنصرة إخوانهم الفلسطينيّين. ومع تصاعد وتيرة قمع سلطات الاحتلال للفلسطينيّين منذ بداية شهر رمضان، وخاصّة محاولات الطرد والتهجير الجماعي لأهالي حيّ الشيخ جراح بمدينة القدس المحتلّة بدأ الاستعداد لدى التونسيّين لاستنهاض همم بعضهم البعض انتصارا للحقّ الفلسطيني المشروع. وببلوغ تلك الممارسات أوج وحشيّتها عبر قصف طيران الاحتلال الصهيوني المتواصل لقطاع غزّة أيّام العيد وتقتيل العشرات من المدنيّين والأطفال، لم يبق أمام آلاف التونسيّين أيّ بدّ من التحرّك فورا لنصرة أصحاب الحقّ في قضيّة تتعلّق بالوجود وتتجاوز محظورات الوضع الوبائي مهما كانت وطأته.

ومن ثمّة، شهدت مدن تونسيّة عديدة، خلال الأيّام الماضية، مسيرات ومظاهرات حاشدة تنديدا بالعدوان الإسرائيلي على غزّة وسائر الأراضي الفلسطينيّة المحتلة. العديد من الأحزاب السياسيّة ومنظّمات المجتمع المدني وهياكل الاتحاد العام التونسي للشغل انخرطت في تلك الوقفات الاحتجاجيّة والمسيرات التي اخترقت الحجر الصحّي، على غرار المسيرة التضامنيّة التي انطلقت من أمام قصر الحكومة بالقصبة في اتّجاه سفارة فلسطين بالعاصمة…

تحدّي إجراءات الحجر الصحّي في واقعة الحال بلغ القلب النابض للبلاد، إذ مرّ بشارع الحبيب بورقيبة. وبطبيعة الحال، فإنّ أجهزة الدولة لم تكن قادرة أو حتّى مستعدّة للالتزام بفرض احترام قرارتها والتعرّض لمسيرة تتضامن مع الشعب الفلسطيني، كما ينخرط فيها بعض المحسوبين عليها.

لا يخفى كذاك أنّ العديد من المسيرات التي جابت البلاد من شمالها إلى جنوبها، مثل تلك التي جرت في جزيرة جربة بكلّ ما تحمله من رمزيّة، انتظمت بشكل طوعي جمع بين عموم المواطنين وبعض الجمعيات غير الحكوميّة التي أخذت زمام التنسيق. ومن المفارقات طبعا أنّه يُفترض ألّا تأذن أجهزة السلطة، زمن الحجر الصحي الشامل، بتنظيم وقفات احتجاجيّة أو مظاهرات مضمونة دستوريا. ومع ذلك لم يكن في إمكانها التصدّي لها، لاسيما أنّ مضامينها لا تتعلّق بالشأن الداخلي بشكل مباشر، لكنّها تتقاطع معه، بل وتستند إلى روح الدستور التونسي الذي نصّ في توطئته على مناصرة «حركات التحرّر العادلة وفي مقدّمتها حركة التحرّر الفلسطيني ومناهضة لكلّ أشكال الاحتلال والعنصريّة».

وفي هذا المضمار تعالت حناجر التونسيّين المتظاهرين، من تحت الكمّامات أو من دونها، متناسية متطلّبات الحجر الصحّي ومُردّدة شعار «الشعب يريد تحرير فلسطين»، وذلك في استحضار لأهمّ شعارات الثورة التونسيّة. كانت هذه المسيرات مناسبة ملفتة كذلك للمطالبة بتفعيل مشروع قانون تجريم التطبيع الذي أجهضه، خلال الدورة البرلمانيّة السابقة، حزبا حركة النهضة وحركة نداء تونس. وهو ما يُشكّل تحرّكا سياسيّا من شأنه أن يختبر بشكل جدّي مدى التزام رئيس الجمهوريّة بتفعيل أحد أهمّ شعارات حملته الانتخابيّة. كما من شأنه أيضا أن يحرج التحالف الحكومي الذي لا يخشى فقط الضغوط الأمريكيّة والغربيّة عموما دفاعا عن مصالح تونس في أكثر حالاتها ضعفا كما يُروّج دائما، ولكنّه يحمي كذلك مصالح المطبّعين المهرولين نحو نظام الاحتلال الصهيوني، والمتخفّين مرحليّا وراء شعارات التضامن مع غزّة، من سياسيّين و»مثقّفين» وجمعيّات، وما إلى ذلك ممّا يحتاج إلى مقال آخر مستقلّ بذاته…

هكذا إذن تظافرت أسباب تحدّي التونسيّين للسلطة وعصيان قراراتها اجتماعيّا واقتصاديا وسياسيّا بشكل واسع لأوّل مرّة في تاريخ تونس الحديث من دون صدامات حادّة تُذكر، حتّى أنّ أجهزة الأمن نفسها بدت على وعي بدقّة هذا الوضع غير المسبوق. ولذلك عدلت عن إنفاذ القانون لتفادي الاصطدام بعموم المواطنين…

نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 18 ماي 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING