الشارع المغاربي – عواطف البلدي: “الفنّ هو الحبّ” ولا فرق بين “كورونا” و”كوليرا”.. عبارات اقتبستها الفيلسوفة أم الزين بن شيخة من كتاب غابرييل غارسيا ماركيز “الحب في زمن الكوليرا” لتستمد منه بدورها عبارة “الفن في زمن كورونا”… قيمتان مناهضتان (الحب والفنّ) للموت وللخوف وحّدتا المعنى لإعادة قدرة الفرد على الانتماء إلى فكرة الإنسانية رغم الألم.. أم الزين بن شيخة هي طبعا الفيلسوفة التي لا ترضى بالهدوء والاستسلام والاستكانة لأية فكرة مناهضة للحب وللفن وللحياة..
“الشارع المغاربي” التقى الفيلسوفة والأستاذة الجامعية بجامعة المنار للحديث عن دور الفن ودور الفيلسوف في هذه الظروف الصعبة وفي زمن “كورونا” وعن جديدها “الفنّ والمقدّس.. نحو انتماء جمالي إلى العالم” وفي الشأن العام.
د.أمّ الزين بن شيخة، نشرت مؤخرا كتابا تحت عنوان “الفنّ والمقدّس، نحو انتماء جمالي إلى العالم”، غير أنّنا اليوم نعيش على وقع وباء عالمي مرعب للجميع، فماذا يستطيع الفنّ في زمن كورونا؟
الفنّ في زمن كورونا كما الحبّ في زمن الكوليرا هذا عنوان يصلح بمثابة غنائيّة مناسبة من أجل مقاومة كل هذا الهلع الهائل من كورونا. إنّ فوبيا الفيروس صارت مقلقة أكثر من الفيروس نفسه. وإنّ لامتوقّع هذه البكتيريا اللامرئية أضحى أكبر بكثير من كمية القتل الكامنة فيها. ومن المؤسف أن نقول إنّ الانتماء الفيروسي إلى العالم صار هذه الأيّام هو الانتماء المشترك الوحيد بين البشر قاطبة. ومن المؤلم من جهة أخرى أن نقول أيضا إنّ كورونا أعادت إلى الأفراد قدرتهم على الانتماء إلى فكرة الإنسانية كمشترك واحد بين الجميع. لكن هذا الانتماء غيّر من مضامينه: الإنسانية هنا بوصفها مساحة مفتوحة على الفيروسات القاتلة، والانتماء هنا هو انتماء إلى الألم .
كيف ذلك؟
لقد أعاد فيروس كورونا البشر إلى حجمهم الحقيقي بوصفهم أجساما متساوية في إمكانية إصابتهم بالمرض. لم يعد البشر كائنات أخلاقية خلقت على أحسن صورة كما في الميتافيزيقا اللاهوتية، بل صار الجميع أجساما تستبيحها فيروسات ميكروسكوبية. لقد أصبحنا جميعا دون أيّ تمييز بيننا طبقيا كان أو عرقيا أو دينيا، معرّضين للإصابة أو للموت في أيّة لحظة. وإزاء وباء عالمي يقتحم الأجسام اعتباطا ويوقّع نهاية الحياة فيها، لا يمكن إلاّ أن نتمسّك بالأمل في إمكانية القضاء عليه طبّيا باختراع الترياق المناسب لذلك. والى أن يحين ذلك الوقت، وفي الوقت الذي يشتغل فيه علماء البيولوجيا والبكتيريا على هذا الأمر، ليس لنا إلا مواصلة الحياة بمقاومة الخوف عبر الفنّ والموسيقى والأغاني والقصائد والروايات. وذلك بالرغم من إلغاء كل النشاطات الفنية الجماعية، بوسع الفنانين استئناف اختراع الأمل والحبّ ومشاعر الفرح بين الناس. وهو ما حدث منذ أيّام في حيّ سكني بمدينة إيطالية في حالة حجر صحّي، حيث صدحت حناجر السكان من شرفات شققهم بالأغاني في نوع من التحدّي الرمزيّ لفيروس كورونا. فمشاعر الفرح يمكنها أن تعيد الى الأفراد الأمل في الحياة في أزمنة الكوارث والأوبئة.
“الفنّ والمقدّس” (عنوان كتابك الجديد) : أيّة علاقة بينهما ؟
علينا بدءا تنزيل هذه المسألة ضمن السياق العام الذي تجد فيه إمكانية طرحها. وهو سياق الصدام بين الأصولية الدينية والفن، وهو صدام جسّده تدمير الآثار الفنية من قبل داعش في العراق وفي سوريا منذ 2016 (مدينة نمرود الأثرية وتدمير متحف الموصل، في العراق، وتدمير مدينة تدمر في سوريا)، ولا ننسى ما حدث في واقعة العبدلية في تونس منذ 2012، ومنع الموسيقى من طرف حركة “طالبان” في أفغانستان، ثمّ واقعة شارلي إيبدو وحادثة الباتكلان بفرنسا سنة 2015. في سياق هذه التهديدات للفنّ من طرف الإرهابيين الذين يشتغلون تحت راية الإسلام تحديدا، يجد هذا الكتاب رهاناته الأساسية. وذلك من خلال فكرة فلسفية مفادها أنّه بوسع الفنّ أن يتنزّل ضمن دائرة أشكال جديدة من المقدس ما بعد الديني، والمقدّس الجمالي والفنّي.
لو توضحين أكثر ؟
الفنّ بوسعه انتاج حياة روحيّة إبداعية للأفراد وللشعوب في ظلّ زمن العولمة وسيطرة قيم السوق وقحط المشاعر وتحويل كلّ شيء الى بضاعة. وضمن هذا الأفق اشتغل كتابنا الفنّ والمقدّس على إعادة استشكال مفهوم المقدّس نفسه بوصفه لم يعد من الممكن اختزاله في دائرة الدين فقط. إنّ الفنّ أيضا شكل جديد من اختراع مقدّسات جديدة تجد تجلياتها في الأدب والشعر والفنون الركحية وتقديس بعض نجوم السينما أو الموسيقى..وهو ما أشار إليه الفيلسوف الألماني نيتشه قائلا “ينبغي علينا اختراع ألعاب مقدّسة جديدة”. ولعلّ نبوءته قد تحقّقت لدى أبنائنا الذين أصبحوا يقدّسون ألعاب الفيديو أكثر من أيّ مقدّس تقليدي آخر. لقد غيّر المقدّس اليوم من عناوينه : فلم يعد الدين هو مجاله الوحيد بل صرنا نتحدّث عن مقدسات جديدة : الحرية، المواطنة، المساواة بين جميع الناس..الحبّ مقدّس وحرمة الشخص مقدّسة والوطن مقدّس..
– كيف يشتغل الفنّ بين المنطقتين؟
لقد حقّق الفنّ الحديث نوعا من العبور من مجال كنّا نعتبره مدنّسا وفق تعبيرات دينية، أي مجال الجسد والمحسوس، إلى مجال مستقلّ قادر على أن يكون باحة واسعة لعمل المخيلة ولإبداع أشكال جديدة من الحلم والحياة. لذلك فإنّ العلاقة بين الفنّ والمقدّس هي مجال لمعارك خاضها الفنّ ضدّ كل أشكال احتكار الدين لمخيال الشعوب ولمنتوجاتهم الرمزية ولقدراتهم على الخيال والتخييل. وهذا ما بينته ضمن كتابي من خلال المراوحة بين اشتغال فلسفي على تاريخ الصدام بين الفنّ والدين، وأشكال احتكار الدين مجال الحياة الرمزية للشعوب من جهة، وتأويل آثار فنّية في مجال الأدب والرسم والمسرح بوصفها حدائق لإبداع المقدّس الجمالي، من جهة ثانية. وفي الحقيقة إنّ العلاقة بين الفن والمقدّس مساحة فلسفية معقّدة لمعارك خاضها الفلاسفة منذ قرن من الزمن من أجل الإعلاء من قيمة الفنّ بجعله نمط الكينونة الخاص بنا، أو هو الدرب الوحيد نحو استعادة ألفتنا مع العالم وقد حوّلته الحضارة الرأسمالية الى كوم مفزع من البضائع. إنّ السؤال عن المقدّس في مفردات جمالية هو تحريره من ساحات القرابين والذبائح الدينية التي احتكرت تقديس الآلهة وجعلت من البشر قرابين مؤبّدة لها.
هل يروّض الفنّ المقدّس عبر ولوج المدنّس ؟
الفنّ ينتج المقدّس. والعلاقة لم تعد بين المقدّس والمدنّس مثلما كان نهج التصورات التقليدية عموما للمقدّس، بل ثمّة شكل جديد من السؤال عن المقدّس في معنى المقدّس الجمالي وفق عبارة للفيلسوف الفرنسي المعاصر روني جيرار. إنّ المقدّس الذي يهمّنا من وجهة نظر الجماليات هو المقدّس الفني بما هو مقدس ما بعد ديني يمكنه أن يمنح الأفراد إمكانية مغايرة للأمل وللحلم بعوالم أفضل، أو بوسعه أيضا أن يمنحنا القدرة على مقاومة ما يحدث من قمع للخيال من طرف تصوّرات لاهوتية لا تعترف بقدرة البشر على إبداع أقدارهم بأنفسهم. وهنا تكون مهمّة الفنّ توجيه خيال الناس إلى شكل جديد من الحياة خارج الشكل الجاهز والمؤبّد بوصايا اللاهوت أو بأجهزة الدولة.
ألا ترين أنّ التعاطي الجمالي والفنّي مع المقدّس عملية قد تودي بحياة المبدع أحيانا في ثقافتنا العربية والإسلامية والأمثلة عديدة ؟
صحيح هذا ما حدث من خلال عدّة وقائع يعرفها الجميع في التاريخ الطويل للثقافة الإسلامية وحتى المسيحية لاغتيالات المبدعين والمفكّرين من بينهم متصوّفة وفلاسفة وشعراء وعلماء أيضا. لكن هذا الأمر لم يزد المبدعين من أصحاب العقول الكبرى إلاّ إصرارا على المضيّ قدما بمسيرة الخلق والإبداع. سيكون دوما ثمّة مستبدّين وحمقى وسماسرة لا يناسبهم أن يزدهر الذكاء والإبداع..وسيكون دوما ثمّة مبدعون لمقاومة سياسات الحمق المعمّم وبرنوغرافيا البؤس التي سيطرت هذه الأيّام على العقول والمشاعر معا.
– يُخاض الصراع في هذا الزمن الإمبراطوري على مستوى المخاييل… كيف السبيل للمقاومة ولتحرير مخيالنا من سطوة مخيال امبراطوري عنيف؟
هذا سؤال هام جدّا. نعم نحن في زمن حرب بين أشكال متضاربة من المخاييل. ويبدو أنّ الصراع على أرض الواقع يتمّ بمفردات تخييلية أيضا. ويجري التمييز عادة بين المخيال الديني والمخيال العلمي والمخيال الفنّي. وثمّة إمكانية للحديث عن سياسات خاصّة بكلّ مخيال. ذلك أنّه في حين يجهد المخيال الديني نفسه بوصفه مخيالا جماعويا لاعتقال العقول والأجساد في هويات جاهزة، يهدف العلم إلى السطو على الوقائع وتحويلها إلى قوانين كلّية.. أمّا عن الفنّ فيشتغل فيه الخيال في أفق تحرير للأجساد وللأحاسيس وإبداع تجارب معنى جديدة. وحده الفنّ قادر على الدفع بالخيال الى أقصى إمكانيات الحريّة فيه دون خوف من أيّ شكل من الوصاية أو من المراقبة سواء كانت أخلاقية أو معرفية أو سياسية.
علام يقوم هذا الصراع؟
في الحقيقة يقوم الصراع الحقيقي اليوم بين المخيال الفنّي الإبداعي والمخيال الإمبراطوري الذي يعتقل الأفراد في منظومة قيم السوق المعولمة. والمخيال الامبراطوري هو مخيال عنيف يقع توصيفه بما هو الدرجة القصوى من الإمبريالية المتوحشة التي حوّلت العالم إلى نظام للهيمنة العالمية على الدول، بالتحكّم في السوق العالمية وفق أجندات ولوبيات حوّلت العالم إلى حرب دائمة على السلع والمصالح ورأس المال وسلبت الدول سيادتها وصيّرت الأفراد ذاتيات هشّة وكائنات معزولة في مجتمعات المخاطر والأوبئة. لكن هذا الوضع الإمبراطوري العنيف أنتج أيضا أشكالا جديدة من النضال ضدّ عنف ثقافة السوق المعولم. ومن بين هذه الأشكال النضالية يحتلّ الفنّ مقاما أساسيا. من هنا ظهرت العلاقة بين الفنّ والمقاومة مثلما يضبطها الفيلسوف الإيطالي أنطونيو نيغري في رسائل كتبها في السجن حول الفنّ والجموع. وفي هذه الرسائل يكتب نيغري ما يلي :” أن نفهم ما هو الفنّ اليوم هو أن نفهم كيف أنّ ألم العالم الضائع بوسعه أن يخاطر بنفسه في عمق المحيط العاري والمجهول من أجل كينونة جديدة”. فالفنّ مقاومة لألم الإنسانية الحالية التي تسطو فيه الإمبراطورية كمرحلة قصوى من الامبريالية على كل ميادين الحياة فتحتكرها وتحوّلها الى سلعة. المطلوب من الفنّ في هذا السياق هو على حدّ عبارات رشيقة لنيغري “الرقص على هذا الركح الجديد من بعد الطوفان، من بعد الإنساني ومن بعد الحداثة”. وهو وضع يقتضي التمييز مع نيغري بين ” الرجعيين والثوريين” أي بين دعاة البهرج الإستطيقي الذين يجمّلون العالم بيوطوبيات قد لا تصلح إلاّ لمواكب العزاء، ومن يتألمون من فراغ العالم من المعنى ومن كل تحويل الحياة الرمزية والخيالية الى صحار قاحلة في نوع من “القحط الأنطولوجي” المفزع أيضا. ما يحدث على ركح السياسات في بلادنا شبيه بنوع من نشر الصحاري في قلوب الناس. أمّا عن الفنّانين فمصيرهم مواصلة الأغاني في ما أبعد من قساوة الواقع.
– حاورناك منذ سنتين وكنت متفائلة بقدرة شعبنا ونخبتنا على انجاز الانتقال الديمقراطي بيسر ونجاح ..كيف ترصدين المشهد اليوم ؟
المشهد السياسي في تونس اليوم لا يزال غامضا. وربّما سيظلّ الغموض سمة هذه الحكومات الجديدة في بلادنا بعد الثورة الى زمن غير معلوم. ومفهوم الغموض يمكن تأويله هنا في معنيين : غموض المشروع السياسي الذي لم يستطع السياسيون اليوم تحديد مفرداته والاتفاق على عقد اجتماعي ناجح في سياسة الشأن العام من جهة، وغموض في الخطاب السياسي الذي ينبغي على السياسيين مخاطبة المواطنين به. لقد فقدت السياسة قدرتها على طمأنة المواطنين على أرزاقهم ومستقبل أبنائهم. وحدها خطابات الهلع واليأس والفشل بصدد الانتشار بين الناس على نحو مؤسف ومخيف معا. لقد فقد الناس في بلادنا ثقتهم في الحكّام وهذا خطير جدّا على استمرار الدولة نفسها. وفي الحقيقة هذا الوضع ليس خاصّا بتونس. كل العالم اليوم يعيش تحت رحمة سياسات امبراطورية معولمة ترهن الدول تحت رحمة قوانين البنك الدولي وتجعلها دولا مسلوبة السيادة وفق خرائط الاستعمار العالمي الجديد. لكن هذا لا يعني أنّ هذا الوضع العالمي هو بمثابة القدر النهائي الذي ليس علينا إلا الاستسلام له.
إلَامَ تفتقد حكومات اليوم؟
ما ينقص حكوماتنا هو القدرة على انجاز سياسات ثورية لمقاومة حقيقية للفساد المتفشّي كما لو كان طاعونا في أجهزة الدولة. حكوماتنا تسوّق منذ الثورة خطابا زكيزوفرانيا هو ضرب من النفاق السياسي. كل المشاريع متشابهة: محاربة الفساد، حلّ مشكلة البطالة، تحقيق الأمن الغذائي والاجتماعي..القضاء على التهميش..لكن كل الحكومات ترحل وتترك مجرّد وعود كاذبة..وذلك لأنّ الساسة في تونس لا يملكون الإرادة الثورية الحقيقية في لتغيير مفهوم السياسة. ما يعطّل مكنة الحكم في تونس هو سيطرة تصوّر ديني للدولة تجسّده الأحزاب الإسلامية بكل أطيافها المعتدل منها والسلفي والشعبوي.
ماذا عن بقية الاحزاب؟
حتى الأحزاب التي تسوّق لخطابات حداثية وتقدّمية بقيت أصواتها خافتة لأنّها ذات توجهات ليبيرالية ويمينية ممّا يجعلها تقف دوما في منتصف الطريق ماسكة بيد مصالحها وبالأخرى أنصاف حلول فقط. أمّا عن الأحزاب ذات المشاريع الاجتماعية والشعبية، فهي لا تزال بعيدة عن فرض توجّه وطني حقيقي يضمن العدالة الاجتماعية ويطمئن الناس على مستقبل أبنائهم. هذا لا يعني طبعا غياب الإرادة الطيبة ومحبّة الوطن ونزاهة بعض الأطراف السياسية التي وقع إقصاؤها من المشهد الانتخابي مثلما أراد الشعب ومثلما خطّطت له الأجندات المهيمنة على البلاد ماليّا واجتماعيا. ما نحتاج إليه هو توصيف أكثر عمق لما يحدث لأنّنا حينما لا نفهم ما الذي يحدث تحديدا نبقى غير قادرين على تخيّل إمكانيات مغايرة له. لكن صلب هذا الغموض وفوضى المفاهيم الذي يجعل من أطراف لا تؤمن بفكرة الدولة المدنية هي التي تسطو على مقاليد الحكم فيها، لا يزال ممكنا انتاج أشكال نضالية مغايرة تجد تعبيراتها ضمن نضالات المجتمع المدني وضمن نضالات الشباب المبدع لفضاءات ثقافية وحيوية جديدة. يمكن لدولة أن تجهض ثورة لكنّها غير قادرة على القضاء على المناضلين. نحن في صيرورة نضالية ومن لا يؤمن بذلك سيظلّ يعطّل التاريخ في وطننا.
– يُتّهم جزء من النخبة بالاستقالة أو بالعزوف وبالارتباك أو بالانتهازية ..كيف ترد الدكتورة أمّ الزين ؟
مسألة تخوين المثقّف صارت أمرا مزعجا ..فإن هو شارك مباشرة في سياسة ما يحدث وقع اتهامه بالتواطئ والتورّط وان هو اتخذ مسافة ممّا يحدث يقع اتهامه بالصمت والاستقالة والخيانة. وفي الحقيقة ينبغي تغيير مفردات توصيف مهمّة المثقف ودوره اليوم. لأنّ هذا المفهوم ينسحب اليوم على رهط واسع من النخب الإعلامية والحقوقية والخبراء في الاقتصاد من جهة، ومن جهة ثانية ثمّة الدعاة والشيوخ والفقهاء الجدد الذين يزاحمون المثقف على خطاب الحقيقة. ما المقصود اليوم بمفهوم المثقف في هذا السياق المعقّد من الزحام حول فهم الواقع واقتراح مشاريع وحلول للأزمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي نعيشها؟ ربّما تغدو وظيفة المثقّف هي الكشف عن المغالطات والأكاذيب التي يتضمّنها كل خطاب يدّعي الحقيقة ويدّعي القدرة على قولها للناس. لكن أيّ مقياس للحقيقة عندئذ؟ ومن يمكننا أن نأتمن عليها في مناخ إعلامي وتواصلي ورقمي لم يعد بوسعنا فيه التمييز بين الضجيج والكلام؟ قد يكون بوسعنا القول إنّ مفهوم المثقف ضاع في ضبابية المشهد، لكن ثمّة كتّاب وفلاسفة وعقول حرّة لا يزالون يحرسون بشراسة إمكانية الحرية والعدالة بين الناس، ومعنى الإنساني الممكن دوما بيننا. فالتفاؤل ههنا موقف نضالي يحتّم علينا أن نستثمر في ثقافة الأمل على نحو إبداعي موجب، لا على نحو لاهوتي كسول. الأمل هو مساحة كل الإبداعات الفكرية والفنية والثقافية التي تينع على أيادي المبدعين ورعاة الكينونة والقادرين على جعل المستقبل ممكنا دوما.