الشارع المغاربي: عبير موسي ظاهرة سياسيّة بارزة في تونس. لا مجال إلى التشكيك في هذا التوصيف حتّى لدى خصومها وإنْ كابروا باستحياءٍ في التكتّم على ضمور أحجامهم أمامها. مع ذلك، فإنّ الوقوف على وجوها المختلفة يكشف أنّها لاعتبارات سياسويّة اختارت تصعيد سمة “المهرّجة” على حساب مكانة “امرأة السياسة “….
في وقت مّا، منذ سنوات، كانت الكتابة عن شخصيّات مؤثّرة في المشهد السياسي التونسي مثل كمال لطيّف وشفيق الجرّاية كالسير في حقل مليء بالألغام لأنّ من يجرؤ على تلك الخطوة المتهوّرة كان سينال نصيبًا وافرًا من التشويه والضغوط وما إلى ذلك. اليوم تحاول عبير موسي الاضطلاع بهذا الدور المؤذي حيال كلّ من يبادر بنقدها، بل وإزاء كلّ من يرفض الاصطفاف وراءها، وكأنّها منزّهة من الأخطاء والتجاوزات المتراكمة التي تأتيها…
إلقاء التّهم، يمينًا ويسارًا، ورمي كافّة منتقديها بتدمير الدولة وضرب أمنها وخيانة الوطن والعمالة للخارج أصبح من أبرز سماتها، بل ومن العبارات الدارجة تقريبًا في كافّة خُطبها… موسي لم تعد تكتفي، مثلما تعوّدت زمن البرلمان المنحلّ، بكيل اتّهاماتها لخصومها التقليديّين وفي صدارتهم حركة النهضة وحلفائها؟ فقد طالت أسهمها المنفلتة، حقّا وباطلا، مختلف الفاعلين في المشهد التونسي بما في ذلك كلّ من لم يعبأ بها ولم يستدر نحوها مطلقًا. لا يخصّ الأمر إذن استمرار مواجهتها لكافّة تيّارات الإسلام السياسي أو خصوصا اليوم لرئيس الجمهوريّة قيس سعيّد الذي قطف ثمار حراكها السياسي ضدّ حركة النهضة ومشتقّاتها، ثمّ حرمها بقوّة السلطة من تتويج مسارها المتوقّع انتخابيّا عبر فرض مشروعه السياسي وتبخيس الأحزاب وعدم الإنصات إلّا لصوت صاحبه…
الحرب ضدّ الكلّ
تشابكت سيناريوهات الحلّ المحتملة في ذهنيّة عبير موسي من أجل كسر حلقة الانغلاق التي تُخيّم على آفاقها واستئناف مسيرة صعودها نحو قصور الحكم، فلم تجد سبيلا إلّا مناصبة العداء لكلّ من يختار خطّا مستقلّا عنها. وضعت وسائل الإعلام المختلفة في السلّة نفسها، وكأنّ لها مصلحة خصوصيّة في معاداتها. والحال أنّ هذا النهج سبق أن جرّبته حركة النهضة زمن سطوتها باختلاق منوال “إعلام العار” فانقلب ضدّها. السؤال البديل هو هل هناك جهة واحدة لم تستهدفها عبير موسي بسهامها اللاذعة؟ قطعا لا، فهي لم تترك شاردة أو واردة إلّا وحاولت جرّها إلى مستنقع معاركها. ويكفي أن نشير هنا إلى حملاتها ضدّ الاتحاد العام التونسي للشغل ومكوّنات المجتمع المدني عموما وحتّى المؤسّسات الدوليّة مثل الأمم المتحدة…
هل يعود هذا التشنّج ضدّ الجميع إلى مجرّد حقدٍ أعمى أو محاولة انتقام لشخصها ولمكانتها السابقة بعد سقوط نظام بن علي عام 2011 زمن كانت تشغل منصب أمينة عامّة مساعدة مكلّفة بشؤون المرأة في حزب “التجمع الدستوري الديمقراطي” المنحلّ؟… كلّا، عبير موسي مثلها مثل سائر الفاعلين السياسيّين في البلاد ليست نقيّة كبياض الثلج في هذه الأيّام القارسة، بدليل القضايا المرفوعة ضدّها، وإن كانت ضئيلة جدّا بالمقارنة مع عشرات القضايا التي تتفنّن في رفعها ضدّ الجميع، حتّى تاهت بوصلتها …. الأرجح إذن أنّها من معتنقي شعار أنّ “السياسة لا أخلاق فيها” مطلقا، متجاوزةً بذلك أقصى تعاليم الحكم لدى ماكيافلّي نفسه!.
نعم عبير موسي ظاهرة سياسيّة في تونس بالنظر إلى صعودها الصاروخي زمن احتضار الأمل على امتداد السنوات العشر الأخيرة. فقد نجحت فيما فشل فيه غيرها، ولاسيما قبل 25 جويليّة 2021 وخاصّة في إضعاف حركة النهضة بشكل غير مسبوق وتلويث صورة زعيمها وكشف بعض ممارساته الخفيّة وخاصّة اتّصالاته الخارجيّة، حتّى أنّ معظم استطلاعات الرأي كانت تُرشّح الحزب الدستوري الحرّ آنذاك إلى الفوز بأيّة انتخابات تشريعيّة مقبلة. وهو ما كان يعود إلى وضوح خطّها السياسي المعادي بشكل مطلق للإسلام السياسي بكافّة تيّاراته وتلاوينه، بل ويرجع خاصّة إلى الظروف الدقيقة التي كانت تعشيها تونس جرّاء تحويلها إلى حلبة صراع جنوني على الهويّة، في ظلّ مهادنة منهجيّة للتيارات التكفيريّة كانت تعتمدها حركة النهضة، فأغرقت البلاد في انعكاساتها القاتلة أمنيّا واجتماعيّا واقتصاديّا. مع ذلك حتّى هذا الملفّ لا يبدو مسألة مبدئيّة واستراتيجيّة بالنسبة إلى عبير موسي. ويكفي التذكير بأنّ أحد ألدّ أعداء موسي، وهو يوسف القرضاوي زعيم تنظيم “اتحاد العلماء المسلمين”، كان قد وُصف – في الخطاب الرسمي التونسي خلال زيارته لتونس عام 2009 بمناسبة احتفاليات “القيروان عاصمة للثقافة الإسلاميّة” – بأنّه “رمز من رموز التسامح”…
أكذوبة السيادة!
مُنعت عبير موسي من التوجّه، بمناسبة 14 جانفي، إلى قصر قرطاج لتنفيذ وقفة احتجاجيّة كان من المحتمل أنْ تُطوّرها إلى اعتصام مفتوح حيث تُنصب خيام رثّة أمام أهمّ رمز للحكم في البلاد، بصرف النظر عن الساكن المؤقّت لقصر الرئاسة اليوم. فهل كانت تجرؤ زمن حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي ولو على المرور فقط أمام قصر قرطاج من دون أخذ إذن مسبق من أعوان وليّ نعمتها؟!… لماذا اختارت الاحتجاج أمام قصر رئاسة الجمهوريّة في هذه المناسبة تحديدا؟، أي في ذكرى الثورة التي ترفضها وتعتبرها “مؤامرة”، مع أنّها أوصلتها إلى اعتلاء دفّة العمل السياسي، ولولاها لما بارحت الصف الثالث لقيادات نظام بن علي… هي إذن “الغاية تُبرّر الوسيلة”، فالسيادة تبدو بالنسبة إليها مسألة نسبيّة، أو كما يقول العبارة التونسيّة: “تحضر وتغيب”… يُفسّر هذا النهج مثلا اعتصام موسي وجماعتها أمام مقرّ مكتب الأمم المتحدة بتونس بل إعلانها حرفيّا عن “الانطلاق في تطويق المقرّ الأممي بدرع بشري”. تلك سابقة خطيرة تضرب القواعد الدبلوماسيّة المتعارف عليها، بذريعة أنّ الأمم المتحدة نفسها تقوم بتشجيع نظام غير شرعي على المضيّ في تنظيم انتخابات فاقدة للشرعيّة وما إلى ذلك. جاء في بيان رسمي لحزب موسي ما يوضحّ هذا التضارب الصارخ، مبرّرا الاعتصام المذكور بـ “مواصلة المنظمات الأمميّة والاقليميّة تجاهل دورها في حماية حقّ الشعب التونسي في اختيار حكامه وممثليه بالمجالس المنتخبة.. واستعداد بعضها لتجنيد مراقبين وملاحظين لتبييض عملية اغتصاب الإرادة الشعبيّة”… أيّ حديث عن سيادة البلاد إذن، وهي التي تُطالب الأمم المتحدة بصريح قولها بدعم “حقّ الشعب التونسي في تقرير مصيره”، وكأنّ البلاد لا تزال تحت نير الاحتلال الأجنبي…
من حقّ موسي طبعًا معارضة تنظيم انتخابات صوريّة بكلّ الوسائل السلميّة الممكنة، ومن حقّها عدم الاعتراف ببرلمان غير شرعي، ومن صميم دورها كذلك أن تُطالب بانتخابات ذات حدّ أدنى من المشروعيّة ومطابقة للمعايير الدوليّة، غير أنّ من يرفع شعار السيادة لا يفترض به أن يُطالب منظمات دوليّة وأجنبيّة بالاضطلاع بأيّ دور من أجل صيانة هذا الحقّ…
إمّا معي أو ضدّي!
تعتنق موسي نهجا شموليّا لا يُصنّف مختلف الجموع والفئات والمؤسّسات والهيئات والأشخاص سوى صنفين فحسب، فإمّا أن يكون هؤلاء أتباعا مريدين لها أو أعداء يحقّ لها محاربتهم والتصدّي لهم ونعتهم بأشنع الأوصاف وكيل الاتّهامات المختلفة لهم، ورفع القضيّة تلو الأخرى ضدّ العديد منهم…
كذلك لا يعدو حديثها عن الديمقراطيّة أن يكون إلّا مجرّد معول لتحقيق غاياتها في الوصول إلى الحكم. في هذا النطاق لا تختلف موسي كثيرا مثلا عن الرئيس النظام الراحل بن علي الذي كان يستخدم معجما سياسيّا ديمقراطيا لا صلة له مطلقا بواقع ممارساته السياسيّة. والحقيقة أنّ أبرز خصومها السياسيّين الحاليّين لا يختلفون عنها في هذا المضمار، وفي مقدّمتهم رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي…
ولا يخفى من ثمّة أنّه في الحزب الدستوري الحرّ، لا صوت يعلو على صوت موسي، بل ولا أحد يجرؤ على النطق بكلمة دون إذنها. هو تقريبا حزب شخصي، حزب للحساب الخاص، يفتقد لأيّ وجوه سياسيّة غيرها، حزب عبير موسي فقط… بمعنى أنّه حزب قابل للاندثار سريعا من دونها… وهو ما يدركه كلّ من حولها. وربّما لا تتردّد هي نفسها في ترديد ذلك لمساعديها بأنّ وجودهم وارتقاءهم أو حتّى سقوطهم مرتبط بها هي لا غير
”صاحبة الخوذة“
نجحت عبير موسي مرّات عديدة في استفزاز خصومها وتحقيق مكاسب لدى الرأي العام، إلى درجة دفع بعضهم إلى فقدان التحكّم في أعصابهم والاعتداء عليها بالعنف لفظيّا وجسديّا في أكثر من مرّة. معلوم طبعا أنّ العنف غير مبرّر في كلّ الأحوال، ولاسيما ضدّ المرأة لأنّه يستبطن استضعافا كريهًا للنساء في المجتمعات الذكوريّة. ومع ذلك فإنّ هناك حدّا أدنى من السلوكيّات السليمة التي يفترض أن يأخذ بها رجال السياسة ونساؤها. وهذا بالتحديد ما تفتقده عبير موسي، فهل ننسى واقعة “الخوذة” التي كانت ترتديها في مجلس نواب الشعب المنحل وكأنها تخوض مباراة حاسمة في كرة الرڤبي أو كذلك استعمالها مضخّم الصوت تحت قبّة البرلمان السابق..
ومنذ أيّام تناقلت الشاشات مشهد صراخها تحت حماية رجال الأمن، وهي تتّهم أحدهم بقولها حرفيّا: “راجل يتحرّش شفتوه من لوطة، عاد حُطْ الحديد أهون، هاذي عملة تتعمل، هاذي عملة، مرا تتظاهر تعملوا فيها هكّا، مرتْ راجل”… نعم هي على حدّ تعبيرها “مرتْ راجل” وليست كيانا مستقلّا بذاته. فوفق وصف النائبة السابقة لأمين عام حزب التجمّع المكلّفة بشؤون المرأة لنفسها، فإنّها لا تعدو أن تكون سوى كيان مكمّل للرجل، تمامًا كما حاولت حركة النهضة سابقا أن تُصنّف المرأة في دستور 2014 الذي أسقطه قيس سعيّد بجرّة قلم…
حين نشاهد مدى غرابة الفيديوهات الشخصيّة التي يُروّجها الكثير من التونسيّين والتونسيّات على شبكة “فيسبوك”، فإنّنا لا نستغرب تلك الشطحات المتجّددة التي تبثّها دوريّا، ولكن ليس من دور النخب السياسيّة أن تتسّاقط إلى مثل تلك المنحدرات البهلوانيّة… تعوّدت موسي على إنهاء خطبها بعبارة “سجّل يا تاريخ”. ولذا نقول لها بدورنا : سجّل يا تاريخ أنّ عبير موسي لا تختلف عن سائر الفاعلين السياسيّين الذين دفعتهم أنانيّتهم ونوازعهم الشخصية إلى الاكتفاء أجنداتهم الذاتيّة على حساب مصالح هذه البلاد المعتلّة بنُخبها… سجّل يا تاريخ أنّ عبير موسي قد غرقت في استعراض “سكاتشات” المظلوميّة وفوّتت على نفسها وعلى أتباعها فرصة تاريخيّة في مراجعة الذات والمصالحة مع هموم البلاد…
* نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 24 جانفي 2023