الشارع المغاربي: تونس في حالة انتظار وحيرة أمام الفشل في النهوض بالشعب وفي توخي الآليات والحلول ضمن إصلاحات اقتصادية وسياسية ودستورية ضرورية لتمكين البلاد من الإقلاع وتجاوز العطالة الحالية لاسيما أنها في قلب مناخ سياسي صعب في محيطها المتوسطي والإقليمي .
نحن اليوم في مأزق، بل ويمكن القول نحن في آخر المأزق ومطالبون اليوم بالقيام بوقفة تأمل والتساؤل حول أسباب ومسببات هذه الوضعية والعمل على التغلب عليها وخلق آليات جديدة لإصلاح حال البلاد، وفي نظرنا هناك ثلاثة عقبات كبرى تدور حولها أسباب الانكماش والاحتقان الحاليين:
العقبة الأولى
النهضة ومسؤوليتها السياسية والقانونية
نلقي المسؤولية عن وضعنا الحالي وفي هذه الأزمة أولا وبالذات على القطب الاسلاموي الذي يحل بالمنصب الأول في خلق خطورة الوضعية الحالية لكونه بصفة مباشرة أو غير مباشرة حاكم هذه البلاد منذ 2011 ، ونعني حركة النهضة.
فالنهضة فرضت التنظيم الدستوري الحالي ولا جدال في أن الدستور الحالي هو من صنع النهضة سطرته على مقياسها وكما تعلمون عندما وقع الإمضاء على النص الدستوري النهائي فرضت ان يكون الممضين عليه الثلاثي علي العريض وهو وقتها رئيس حكومة ومصطفى بن حعفر رئيس المجلس التأسيسي والمنصف المرزوقي الرئيس مؤقت للجمهورية .
فالنص وضع على مقاسها ووقع تطبيقه على مقياس اختيارات وأوامر النهضة وذلك مشهود عليه الى حد يومنا هذا، فكما نعلم، لا يُمرر مشروع قانون إلا برضاء النهضة وأكثر من مرة رأينا مشاريع قوانين مستوحاة من نظريات وخط النهضة تمر عن طريقها أو تدفع لتمريرها عن طريق أطراف أخرى موالية لها وفي تبعية لها وهذه مسؤولية كبيرة تتحملها النهضة أمام الشعب ولا بد من المطالبة بمساءلة هذا الحزب عما ارتكب من تجاوزات وانحرافات دستورية وقانونية وسياسية .
ونحن نتصور ان الحالة السياسية وصلت الى أخر المأزق وأن لا حل للازمة التي تعيشها البلاد من 10 سنوات الا في مراجعة جذرية لهذا التوجه قانونيا ودستوريا وسياسيا واقتصاديا.
العقبة الثانية:
الديمقراطية الوهمية
نصّ الدستور صراحة على ان النظام السياسي المعتمد هو الديمقراطية التشاركية وتبجحت الاحزاب في كثير من المناسبات بأن النظام السياسي التونسي من بين الأنظمة السياسية المتقدمة جدا حيث ان فكرة التشاركية ليست منتشرة كثيرا في بقية الانظمة السياسية الحالية.
لكن هذا الاعتزاز ليس في محله لكون هذه الديمقراطية التشاركية ما هي الا ديمقراطية وهمية وقع توظيفها من طرف الاطراف السياسية التي حكمت منذ المصادقة على الدستور بالتداول اولا من قبل نداء تونس وبعده من قبل النهضة .
ويمكن القول ان هذه الديمقراطية وهمية لهذه الاسباب:
اولا : لم يقع استكمال إرساء الهيئات الدستورية خاصة المحكمة الدستورية.
ثانيا : وقع الاستغناء عما اتى به الدستور في حل المشاكل السياسية في حالات النزاع خاصة بين السلطات.
ثالثا : غياب مبدأ المساءلة الذي هو مبدأ أساسي في الأنظمة الديمقراطية الحقيقية مما جر بتونس الى وضعية جد مضحكة نذكر كأمثلة على ذلك ان الوزير الذي لم ينجح في وزارته لا يتم الاستغناء عنه وإقالته فقط وإنما تتم ترقيته الى منصب أعلى مثلما حصل مع علي العريض او زياد العذاري ويوسف الشاهد . رابعا : قوانين المالية منذ 2011 وقع معها غلق الميزانيات بموجب قانون وهذا يعني ان الحسابات التي وقع غلقها تصبح نهائية وغير مسموح بمراجعتها وهو بما يشبه تحصينا ضد كشف التجاوزات في ادارة الشأن العام المالي وفي التصرف في المالية العمومية.
خامسا : من علامات الفشل الذريع لهذا النظام هو سوء ادارة اهم ملف وطني وكان سبب اندلاع ثورة 2011 وهو الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي. ومثلما يعلم الجميع فخلال ثورة 2011 طالب الشعب بإصلاح الأوضاع الاجتماعية الرثة لأغلبية كبيرة منه وإرساء منهج ومنوال سياسي واقتصادي وتنموي، ويعني تداول 7 رؤساء حكومات في 10 سنوات أنه:
أولا : لم يكن لأية حكومة الوقت الكافي للتفكير ولانجاز الإصلاحات السياسية للبلاد
ثانيا : منهج وفلسفة تشكيل الحكومات الذي لا يتم على أساس البرامج ومشروع اقتصادي واجتماعي متكامل بل تتم في النظام الحالي على أساس توازنات لمصالح خاصة لأطرف سياسية وشاهدنا رئيس الحكومة الأخير الذي قال بصريح اللسان في خطابه أمام مجلس النواب يوم جلسة المصادقة على حكومته انه بلا برنامج وأعاد التصريح بذلك في الكثير من المرات.
والأغرب من هذا هو عدم اعتناء الأطراف السياسية بمتطلبات الوضعية الاقتصادية والسياسية للبلاد وهذا ما يدل عليه الدستور الذي جاء عقب ثورة اجتماعية ، لكنه لا يتضمن بابا ولا حتى فصلا واحدا للحديث عن الشواغل الاجتماعية للبلاد والحال ان هذه الثورة وقعت على أساس المطالبة بالإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية .
فالكل يعلم ان الدستور الحالي لا يتضمن الا فقرة واحدة في الفصل 89 ( الفقرة 5) التي تختزل المسائل الاقتصادية والاجتماعية بالتنصيص على أنه لا يشترط على الحكومة الجديدة الا تقديم ” عرض موجز لبرنامج عملها” لا أكثر، وهذا يدل على عدم اكتراث واضعي الدستور بالهدف الأساسي للثورة المتمثل في الانجاز والإصلاح .
هذه معضلة كبيرة يتقاسم المسؤولية فيها كل من النهضة بالأساس وما دار في فلكها من حزيبات وضعتها للتصرف فيهم والتحكم في تحركاتها بما يطيب لها وما يناسب أهدافها وأجنداتها السياسية البحتة .
العقبة الثالثة : معضلة رئاسة الدولة
طبيعيا الأنظمة السياسية المتداولة في العالم تكون مؤسسة على شكل هرمي على رأسه حامل آمال المنتخبين والضامن للانجاز وتحقيق امال هذه الحركة الانتخابية الشعبية. ورأس الهرم دائما مناط بذمته مثل هذا العبء مهما كانت حقيقة النظام الدستوري، نظام برلماني أو رئاسي.
مع كل أسف نقول إن الرئاسة الحالية للدولة بعيدة عن تحمل مثل هذا العبء وذلك لاعتبارين اثنين: من ناحية أولى، رئيس الدولة الحالي صرح بكل وضوح قبل انتخابه وأثناء انتخابه وبعد تسلمه السلطة، بأنه لا يحمل مشروعا ولا وعودا وبأن ليس من مهمته مثل ذلك العمل، فنحن نجد أنفسنا أمام وضعية سياسية لم يعرفها التاريخ السياسي والدستوري في بلادنا .
من ناحية ثانية، نحن نقول إنه حتى في صورة ما إذا وضع مشروع رئاسي لبقية العهدة الرئاسية فإننا نشك بقوة في إمكانية انجاز مثل تلك البرامج وذلك لسبب واضح هو أن العمل السياسي لا ينجح الا بفضل الاعتماد على قوى سياسية مساندة لذلك المشروع وليس ذلك الحال عندنا فرئيس الدولة صرح بوضوح منذ العملية الانتخابية بأنه ليس متحزّبا ولا ينوي الانضمام او تكوين او التصاهر او دعم أي حزب .
فكيف سيتمّ الإصلاح ؟ نظريا لا يتمّ ذلك الا طبق مسارين لا ثالث لهما اما الانقلاب خارج الدستور او القيام بتعديل دستوري وهذا مثلما يعرف الجميع يتطلب مشاورات عديدة وأغلبية برلمانية وزمنا طويلا يمتد على عهدين على الاقل..
لذلك لا نرى في الوضع الحالي اي مجال لتحقيق هذه الفرضيات وما نستنتج من هذا بكل أسف هو أن البلاد التي عانت من مآس كبيرة بالخصوص بعد 2011 تجد نفسها أمام تركيبة سياسية مشلولة لا يعول عليها لإصلاح البلاد والنهوض بها في طريق النمو والتقدم والاستقرار السياسي المناسب لوضعيتها ولمتطلبات المرحلة ، خاصة ان المحيط الجيوسياسي الذي تنصهر فيه تونس يعيش اليوم نفس الوضع بسبب ازمة تفشي فيروس كورونا التي تنذر بانهيار اقتصادي واجتماعي ، وضع لخصه احد رؤساء الدول الأوروبية بالقول “on va souffrir “.
صدر بالعدد الالكتروني من “الشارع المغاربي” pdf بتاريخ 19 ماي 2020.