الشارع المغاربي: صار اليوم مأثورا عن رئيس السلطة التونسية الرقصُ على حبال الكلام. فهو يلائم قسرا بين الألفاظ والجمل وإن تنافرت في أصل وضعها وفي سياق دلالاتها. وقد استقر ذلك لديه سمةً دائمة، وترجمانا لِبِنيَة ذهنية بمقتضاها يخاطب التونسيين ويدير الشأن العام ويطلق المواقف والآراء، ولا سيما الرقص على قَدَم الأسئلة الحاضرة التي تقوم عنده مقام الرقص على قَدَمِ الأجوبة الغائبة.
1/الرقصة الأولى: ملف الأفارقة في تونس
في هذا الملف قال سعيد في خطابه يوم 14 جويلية 2023 في مجلس الأمن القومي:”نحن أفارقة ونعتز بانتمائنا الإفريقي نجير مَن يلجأ إلينا، ولكن نرفض أن نكون لا أرض عبور (كذ) ولا أرض توطين”، لأنّ” قيمنا(…) ترفض(…) أن نترك هؤلاء الفقراء والبؤساء والمهجّرون(كذا)”.
ويظهر إيقاع الرقص على الألفاظ المتنافرة والجمل المتضادة في قوله:”نجير من يلجَأ إلينا”. ويظهر التضادُّ بين فعل” نُجير” المسند إلى السلطة وفعل”يلجأ” المستند إلى المستجيرين”. ذلك أن لمواطني الدول حركة بينها ثلاثية العناوين وهي السياحة والهجرة واللجوء. وليس منها “إجارة” المستجير التي هي قبلية المرجعية. لكن قبول “اللاجئ” هو من مرجعيات الدولة الحديثة. فالرقص هو على قدم مشدودة إلى ما قبل الدولة الحديثة وعلى أخرى مُنزّلة في مرجعها.
وسواء كان قبول الوافدين، مستجيرين بنا أو لاجئين إلينا، فإنهم في الحالين مقيمون إقامة لا يبدو أنها تختلف وجوبا عن”التوطين”. لذلك لا معنى لنفيه أن تونس”أرض توطين” لهؤلاء الوافدين. ولا معنى أيضا لنفيه أنها” أرض عبور”، لأننا نعاين يوميا بصفة مباشرة حركة “عبور” دؤوبة، على ما يتخللها من مآس لا يتصورها أي خيال مرضي “صادي”.
فهؤلاء الضحايا هم، بمنطق ذاك الخطاب الرئاسي، مرحّب بهم باسم الإجارة أو اللجوء من جهة أولى ، ومن جهة ثانية لا مجال لتوطينهم، ومن جهة ثالثة لا مجال لعبورهم إلى أوروبا. فما هو إذًا مصيرهم !؟ فحيرة الرقص ها هنا هي قُعُود ولا حركة.
2/الرقصة الثانية: هاجس الإنتخابات
في الخطاب نفسه جدّد سعيد رفضه لتهمة العنصرية التي أطلقها عليه الخارج، لما قال في خطاب 21 فيفري باحتمال أن يهدد هؤلاء الوافدون “التوازن الديمغرافي”في بلادنا. وعلى ذلك الإتهام الآتي من الخارج قال:”اعتقد مَن في الداخل أنها فرصة لا يمكن أن يتركها دون أن يقتَنِصها ليحقق مآرب استعدادا للإنتخابات” الرئاسية. وقوله:”مَن في الداخل” هو تخصيص تمييزي مقابل “الخارج”الذي أشاع تلك التهمة.
وتبعث عناصر هذا السّجلّ اللغوي على استنتاجات ثلاثةٍ كامنةٍ الأصول في”لاَوعيه” وفي وعيه كمونا شَفَّ عنه رقصُه بين الألفاظ. الاستنتاج الأول أنّ”الخارج” هو عنده مُحدِّد انتخابي في”الداخل” أو مؤثّر. فهل بهذا التحديد أو التأثير فاز في انتخابات 2019 !؟
الاستنتاج الثاني أن ملف الأفارقة هو عند سعيد شأن يتماسك فيه الخارج والداخل تماسكا ذا تبعات انتخابية قادمة. فهل استرضى في الملفِّ نفسِه الخارجَ الأوروبي اليوم لينال منه دعما انتخابيا غدا، طالما أنه قد أسقط هذه الحسبة التي في خاطره على مَن”في الداخل” المعلوم لديه كما سنرى، والذي أغضبه ما اعتبره “اقتناصا”لِغضبَ الخارج من أجل”مآرب” انتخابية قادمة !؟. فهل المحلل له محرّم على على غيره وإنْ بمنطق الإشتباه الذي لا دليل له.
الاستنتاج الثالث أن هذا الملف المعقد لا تشغله منه أبعادُه الأمنية ولا الإنسانية ولا المجتمعية. إنما الذي يشغله منه هو تبعاته الإنتخابية القادمة الخاصة به. فهل انتخبه التوتسيون ليدير هذا الملف وغيره اهتداءً بمصالحمهم الحياتية العامة أو اهتداءً بمصالحه الإنتخابية الخاصة!؟
3/الرقصة الثالثة : شبح عبير موسي
قال في الخطاب نفسه:”من المفارقات في تونس أنهم يرفضون الإنتخابات التشريعية ويتهافتون على الإنتخابات الرئاسية”. وإنّ الضمير يعود في هذا القول على” الحرب الدستوري الحر”عودا جليّا. فهو الحزب الوحيد الذي رفض المشاركة في”الإنتخابات التشريعية” الفارطة، والذي أعلن ترشيح رئيسته عبير موسي للإنتخابات الرئاسية القادمة. وإن هذا التضمين لهذا الحزب ولرئيسته يستبطن به صاحبُه هواجس انتخابية كشفها رقصُه على الألفاظ. من ذلك لفظ “المفارقات” الحامل لمعاني الغرابة، ولفظ”يرفضون ” الذي تخيّر له “مقابلا”هو لفظ “يتهافتون”. ويبدو نسق هذا الرقص اللفظي غريب الإيقاع. ذلك أنه، رئيسا للسلطة، ليس وصيا على من يرفض هذه الإنتخابات ويُقبِل على تلك. وأين المفارقة في رفض انتخابات تشريعية تفضي إلى مجلس مكبل؟! وأين المفارقة في الإقبال على انتخابات رئاسية تكون مطمحا لتغيير الأحوال !؟. فهل يفكر في إصدار مرسوم يستأذنه بمقتضاه هذا الحزب في أي الإنتخابات يشارك!؟.
ثم إن قوله يخفي هوسا بالسلطة والحكم، اليوم وغدا، من زوايا ثلاث. الزاوية الأولى هي أمنيتُه الدفينة ألا ينازعه هذا الحزب في الرئاسية وكان عليه أن يكتفيَ بالحضور في برلمان كسيح، تكون رئيستُه عضوا فيه، فَيتَسنَّى له أن يُجريَ عليها فصلَه الدستوري القاضي بألا يترشح في الرئاسية مَن ترشح في التشريعية. لكن رئيسة هذا الحزب تركت فصلَه المَصُوغَ على مقاسها في التّسلل.
الزاوية الثانية أن نظرية “الإستبدال” الأسلوبية تساعد على كشف حرصه على التفرد بالترشح الجدي غدا، كحرصه على التفرد بالحكم اليوم. ففي التشريعية استعمل فعل “يرفضون”.و دلالة الإعراض فيه معتدلة. لكنه لم يستعمل في شأن الرئاسية الفعل الذي يقابله نحو” يَقبلون”مثلا، وإنما استعمل فعل”يتهافتون” الحامل لشحنة حنق وضيق من احتمال أن ينازعه هذا الحزب في الرئاسية. فالرئاسية أثيرة لديه، ومَن بسعى إليها بحظوظ جدية لا تعتدل إزاءه مشاعرُه الإقصائية.
الزاوية الثالثة هي وعيه بأن وَهَنَ الكيانات السياسية والمدنية والإجتماعية واخطاءها الكامنة فيها قد اقدَراه على تحييدها عن منازعته في المشهد السياسي . لكن الكيان الوحيد الذي رسّخ وجوده المتأصل من أصالة التيار الدستوري في المجتمع التونسي هو الحزب الدستوري الحر. لذلك أدار عليه وعلى رئيسته غضَبَه المتوجس من القادم الإنتخابي. فهل يأذن هذا بانتخابات رئاسية أكيدة النزاهة وتتساوى فيها الحظوظ!؟
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 25 جويلية 2023