الشارع المغاربي – في‭ ‬الثورة‭ ‬الثقافية‭ ‬القادمة / بقلم: مولدي الاحمر- الجامعة التونسية

في‭ ‬الثورة‭ ‬الثقافية‭ ‬القادمة / بقلم: مولدي الاحمر- الجامعة التونسية

قسم الأخبار

1 يونيو، 2023

الشارع المغاربي: هناك‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬مفهوم‭ ‬نخبوي‭ ‬ضيق‭ ‬للثقافة ‬بالمعنى‭ ‬العام‭ ‬للكلمة‭. ‬فلفترة‭ ‬طويلة‭ ‬سادت‭ ‬ثقافة‭ ‬مشروعة‭ ‬وظلت‭ ‬أخرى‭ ‬غير‭ ‬معترف‭ ‬بها‭ ‬أو‭ ‬تحتاج‭ ‬دوما‭ ‬لـ‭”‬التهذيب‭”. ‬وهناك‭ ‬مركز‭ ‬للثقافة‭ ‬يستقطب‭ ‬كل‭ ‬نشاط‭ ‬فني،‭ ‬مشروع‭ ‬أو‭ ‬مهذب،‭ ‬هو‭ ‬العاصمة‭. ‬وهناك‭ ‬نخب‭ ‬مسكونة‭ ‬بـ‭ “‬هو‭” ‬ثقافي‭ ‬مرجعي‭ ‬هيمن‭ ‬على‭ ‬العقول‭ ‬والنفوس‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬استعماري،‭ ‬يستمر‭ ‬في‭ ‬التجديد‭ ‬اليومي‭ ‬لهذه‭ ‬الهيمنة‭ ‬بطرق‭ ‬شتى،‭ ‬أو‭ ‬نخب‭ ‬محلية‭ ‬في‭ ‬الأطراف‭ ‬جرت‭ ‬معالجة‭ ‬أذواقها‭ ‬ووعيها،‭ ‬واستقطبت‭ ‬بالتهذيب‭ ‬المزدوج‭ (‬الداخلي‭ ‬المركزي‭ ‬والخارجي‭ ‬المهيمن‭) ‬لتدخل‭ ‬في‭ ‬القالب‭ ‬الثقافي‭ ‬العام‭ ‬المشروع‭. ‬هذه‭ ‬النخب‭ ‬تنتج‭ ‬ثقافة‭ ‬تقولها‭ ‬وتمسرحها،‭ ‬وتخدمها‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة،‭ ‬وتروج‭ ‬لها‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬التي‭ ‬تتخذها‭ ‬نموذجا‭ ‬تخبو‭ ‬أمامه‭ ‬جميع‭ ‬ابداعات‭ ‬غير‭ ‬الأصليين‭ ‬وغير‭ ‬المهذبين‭.‬‭ ‬

قد‭ ‬يسارع‭ ‬البعض‭ ‬بالقول‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬تعميم‭ ‬مظلل،‭ ‬وربما‭ ‬هرع‭ ‬لمفهوم‭ ‬الشعبوية‭ ‬سلاحا‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬كل‭ ‬فكرة‭ ‬تعرّي‭ ‬سلطة‭ ‬بدأت‭ ‬تفقد‭ ‬مواردها‭ ‬وسيطرتها‭ ‬على‭ ‬صنع‭ ‬قوانين‭ ‬اللعبة،‭ ‬لكن‭ ‬التعميم‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬يخص‭ ‬الحالات‭ ‬المخالفة‭ ‬وهي‭ ‬موجودة‭ ‬ولها‭ ‬مكانتها‭ ‬وإشعاعها،‭ ‬إنما‭ ‬النموذج‭ “‬الشرعي‭” ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬قاد‭ ‬الثقافة‭ ‬والفن‭ ‬لفترة‭ ‬طويلة‭ ‬في‭ ‬تونس،‭ ‬وهذا‭ ‬النموذج‭ ‬ليس‭ ‬ذوقيا‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬سلطويا‭ ‬أيضا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬طول‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬المؤسسات‭ ‬والموارد،‭ ‬وادعاء‭ ‬أصحابه‭ ‬تمثيل‭ ‬الذوق‭ ‬التونسي‭ ‬الأصيل‭ ‬والرفيع،‭ ‬ألم‭ ‬يكن‭ ‬اختيار‭ ‬وزير‭(‬ة‭) ‬الثقافة‭ ‬دوما‭ ‬موضوع‭ ‬شد‭ ‬وجذب‭ “‬اجتماعي‭-‬فني‭”‬؟‭.    ‬

والتاريخ‭ ‬السري‭ ‬لهذا‭ ‬المفهوم،‭ ‬في‭ ‬ضيقه‭ ‬ونخبويته،‭ ‬مزروع‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬علاقة‭ ‬المدينة‭-‬الدولة‭ ‬بالريف‭ ‬بصفة‭ ‬عامة،‭ ‬وهي‭ ‬ظاهرة‭ ‬عالمية‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬كونية،‭ ‬لكن‭ ‬ينضاف‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬حالتنا‭ (‬وهناك‭ ‬جيران‭ ‬مثلنا‭) ‬هيمنة‭ ‬الـ‭”‬هو‭” ‬الاستعمارية‭ ‬القديمة‭ ‬المتجددة،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬منعها‭ ‬تولستوي‭ ‬في‭ ‬روايته‭ “‬الحرب‭ ‬والسلام‭” ‬من‭ ‬التجذّر‭ ‬بعيدا‭ ‬في‭ ‬مخيال‭ ‬مجتمعه‭ ‬حينما‭ ‬اعتبر‭ ‬نابليون،‭ ‬الذي‭ ‬انبهر‭ ‬به‭ ‬المصريون‭ ‬وهو‭ ‬يغزو‭ ‬بلدهم،‭ ‬مجرد‭ ‬قاطع‭ ‬طريق‭ ‬بلطجي‭ ‬فاقدا‭ ‬للانسانية‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬لاحتلال‭ ‬بلده‭ ‬متنكرا‭ ‬في‭ ‬ثوب‭ ‬ناشر‭ ‬للحضارة‭. ‬

وقد‭ ‬نشأت‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬التأثير‭ ‬الكولونيالي‭ ‬على‭ ‬مجتمعنا،‭ ‬الذي‭ ‬انحازت‭ ‬نخبته،‭ ‬بعد‭  ‬سيطرتها‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬المستقلة،‭ ‬إلى‭ ‬صف‭ ‬ثقافة‭ ‬المستعمر‭ ‬الوافدة،‭ ‬وذلك‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬اللاوطنية‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬غالبية‭ ‬النخب‭ ‬التونسية‭ ‬شاركت‭ ‬بوطنية‭ ‬حامية‭ ‬في‭ ‬دحر‭ ‬الاستعمار،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الانبهار‭ ‬بمفاهيم‭ ‬الرسالة‭ ‬الانسانية‭ ‬للفاتحين‭ ‬الجدد‭. ‬ولأن‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تلاقح‭ ‬الند‭ ‬مع‭ ‬الند،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬علاقة‭ ‬سلطوية‭ ‬قاهرة‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬شبيه‭ ‬هجين‭ ‬لها‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬كيف‭ ‬يدوس‭ ‬الفاتحون‭ ‬على‭ ‬الإنسانية‭ ‬بخطاب‭ ‬الانسانية،‭ ‬فإن‭ ‬انبهارها‭ ‬منعها‭ ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬المسافة‭ ‬النقدية‭ ‬تجاه‭ ‬الوافد‭ ‬المهيمن،‭ ‬فأخذت‭ ‬مكانها‭ ‬في‭ ‬شبكته‭ ‬الثقافية‭ ‬الاستراتيجية،‭ ‬وتقاطعت‭ ‬مصالحها‭ ‬الاعتبارية‭ ‬البسيطة‭ ‬مع‭ ‬تمثلاتها‭ ‬لذاتها‭ ‬كوسيط‭ ‬حضاري،‭ ‬مهمته‭ ‬نشر‭ ‬النموذج‭ ‬الحداثي‭ “‬الصحيح‭ ‬والشرعي‭ ‬والكوني‭” ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬به‭ ‬الفاتحون‭. ‬وهكذا‭ ‬حولت‭ ‬هذه‭ ‬النخبة‭ ‬كل‭ ‬مخزون‭ ‬الثقافة‭ ‬الابداعية‭ “‬الأخرى‭”‬‭ ‬للتونسيين‭ ‬موضوعا‭ ‬للفعل‭ ‬التاريخي‭ ‬التحويلي،‭ ‬بالنقض‭ ‬والتحقير،‭ ‬مدمرة‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬كل‭ ‬تمثل‭ ‬فني‭ ‬مختلف‭ ‬للعلاقة‭ ‬بالذات‭ ‬وبالطبيعة‭ ‬وبالوجود،‭ ‬أو‭ ‬مقولبة‭ ‬له‭ ‬كي‭ ‬يستجيب‭ ‬لمفاهيمها‭ ‬ومعاييرها‭ ‬ويكرس‭ ‬هيمنتها،‭ ‬ومحطمة‭ ‬اقتصاديا‭ ‬كل‭ ‬إبداع‭ ‬حرفي‭ ‬مخياله‭ ‬متأصل‭ ‬في‭ ‬نماذج‭ ‬حياتية‭ ‬مختلفة‭: ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1930‭ ‬كتب‭ ‬لوي‭ ‬ماسينيون،‭ ‬بمناسبة‭ ‬المعرض‭ ‬العالمي‭ ‬للصناعات‭ ‬والحرف،‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬النخب‭: “‬لقد‭ ‬دمرت‭ ‬النخب‭ ‬المغاربية‭ ‬الصناعات‭ ‬التقليدية‭ ‬لبلدانها‭ ‬عندما‭ ‬غيرت‭ ‬أثاث‭ ‬منازلها‭ ‬بصالون‭ ‬لويس14‭”. ‬

هذا‭ ‬التمركز‭ ‬على‭ ‬الذات‭ ‬النخبوية‭ ‬الثقافية‭ ‬وهذا‭ ‬الانغلاق‭ ‬في‭ ‬الفضاء،‭ ‬غذته‭ ‬وأسست‭ ‬له‭ ‬السياسات‭ ‬التنموية‭ ‬للدولة‭ ‬المستقلة‭ ‬التي‭ ‬قادتها‭ ‬هذه‭ ‬النخب‭. ‬فخلال‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬الملاحظون‭ ‬يركزون‭ ‬مشاهداتهم‭ ‬وتقييماتهم‭ ‬على‭ ‬نظام‭ ‬التعاضديات‭ ‬وجدواه‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬عمل‭ ‬عميق،‭ ‬يمارس‭ ‬أحيانا‭ ‬بطرق‭ ‬خرقاء‭ ‬عبر‭ ‬الراديو‭ ‬والمدرسة،‭ ‬موضوعه‭ ‬تقزيم‭ ‬واحتقار‭ ‬فنون‭ ‬وطرق‭ ‬تفكير‭ ‬القرويين‭ ‬والجباليين‭ ‬والبدو،‭ ‬وغرغرة‭ ‬القيم‭ ‬والمعايير‭ ‬النخبوية‭ ‬الحضرية‭ ‬لهؤلاء‭. ‬ولكي‭ ‬تخفي‭ ‬خضوعها‭ ‬السري‭ ‬اللاواعي‭ ‬للهيمنة‭ ‬الثقافية‭ ‬الاستعمارية‭ ‬استوحت‭  ‬هذه‭ ‬النخب‭ ‬من‭ ‬مسرح‭ ‬موليار،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬صوت‭ ‬البرجوازية‭ ‬الساخرة‭ ‬من‭ ‬شكلانية‭ ‬مجتمع‭ ‬النبلاء،‭ ‬مسرحية‭ “‬الماريشال‭ ‬عمار‭” ‬كي‭ ‬تسخر‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬البدوي‭ ‬بممثلين‭ ‬قسم‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬بدوية‭! ‬

ليس‭ ‬هدف‭ ‬هذا‭ ‬التوصيف‭ ‬الانحياز‭ ‬إلى‭ ‬نماذج‭ ‬ثقافية‭ ‬أصابها‭ ‬التلف‭ ‬ضد‭ ‬أخرى،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬لذلك‭ ‬تحليليا‭ ‬ومعياريا‭. ‬فلا‭ ‬الحياة‭ ‬البدوية‭ ‬مازالت‭ ‬مستمرة،‭ ‬ولا‭ ‬مخيال‭ ‬الجبليين،‭ ‬المتحصنين‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬طوفان‭ ‬بالعلو،‭ ‬صمد‭ ‬أمام‭ ‬طوفان‭ ‬أشكال‭ ‬الاتصال‭ ‬الجديدة‭ ‬المتعددة،‭ ‬ولا‭ ‬الفلاحين‭ ‬في‭ ‬السهول‭ ‬أبدوا‭ ‬بشكل‭ ‬كثيف‭ ‬عطشهم‭ ‬للأرض‭ ‬أثناء‭ ‬الثورة،‭ ‬ولا‭ ‬المدن‭ ‬العتيقة‭ ‬التونسية‭ ‬مازالت‭ ‬مكان‭ ‬سكنى‭ ‬النخب‭ ‬الثقافية‭ ‬الحضرية،‭ ‬ولا‭ ‬السفر‭ ‬والتواصل‭ ‬العيني‭ ‬مع‭ ‬الغرب‭ ‬مازالا‭ ‬حكرا‭ ‬على‭ ‬النخب‭ ‬المتغربة‭. ‬بل‭ ‬الهدف‭ ‬هو‭ ‬تعرية‭ ‬الثمن‭ ‬الفني‭ ‬والثقافي‭ ‬الحضاري‭ ‬لعدم‭ ‬الاعتراف‭ ‬بقيمة‭ ‬المضمون‭ ‬المعياري‭ ‬والفني‭ ‬لإبداعات‭ ‬الآخر‭ ‬المختلف،‭ ‬ليس‭ ‬بوصفها‭ ‬فلكلورا‭ ‬قديما‭ “‬غرائبيا‭” ‬يمكن‭ ‬الاهتمام‭ ‬به‭ ‬مناسباتيا‭ ‬لتحقيق‭ ‬أغراض‭ ‬خاصة‭ ‬استعراضية‭ ‬وانما‭ ‬بوصفها‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬علاقة‭ ‬بالذات‭ ‬وبالطبيعة‭ ‬والوجود‭ ‬جدير‭ ‬بالتفكٌر‭ ‬والاحترام‭ ‬والإغناء‭.   ‬

لم‭ ‬يتوقف‭ ‬مسار‭ ‬الطحن‭ ‬و‭”‬التهذيب‭” ‬عندما‭ ‬فشل‭ ‬مشروع‭  ‬التعاضد،‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬المشروع‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يتوقف‭ ‬قط،‭ ‬وهو‭ ‬ربما‭ ‬تعطل‭ ‬فقط‭ ‬منذ‭ ‬2011‭. ‬وهكذا‭ ‬أمكن‭ ‬خلال‭ ‬تسعينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬لوزير‭ ‬الثقافة،‭ ‬أصيل‭ ‬الشمال‭ ‬الغربي‭ ‬للبلاد‭ ‬وابن‭ ‬منطقة‭ ‬من‭ ‬أروع‭ ‬إنتاجاتها‭ ‬الفنية‭ ‬اللغة‭ ‬الفرجوية‭ ‬والرمزية‭ ‬الحربية‭ ‬للطبال‭ ‬والزكرة،‭ ‬أن‭ ‬يمنع،‭ ‬لفترة‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬الزكرة‭ ‬والطبال‭ ‬والمزود‭ ‬في‭ ‬الراديو‭ ‬والتلفزيون‭. ‬

كانت‭ ‬هذه‭ ‬السياسة‭ ‬درامية‭ ‬بسبب‭ ‬حجم‭ ‬التناقضات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬المشروع‭ ‬الضخم‭ ‬يتضمنها،‭ ‬إذ‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬الثقافات‭ ‬المحلية‭ ‬وفنونها‭ ‬تُطحن‭ ‬بسبب‭ ‬لامشروعيتها‭ ‬الذوقية‭ ‬والفنية،‭ ‬كان‭ ‬التراث‭ ‬الشعري‭ ‬والغنائي‭ ‬البدوي‭ ‬يعمّر‭ ‬الراديو‭ “‬مهذبا‭”‬،‭ ‬وكانت‭ ‬العاصمة‭ ‬تسحب‭ ‬إليها‭ ‬النخب‭ ‬وتهذبّها‭ ‬كي‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬قالبها،‭ ‬تماما‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬نخبة‭ ‬الدولة‭ ‬الحسينية‭ ‬تستقطب‭ ‬أعيان‭ ‬الدواخل‭ ‬وتزوّجهم‭ ‬جواريها‭ ‬ليصبحوا‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬الدولة،‭ ‬وكما‭ ‬فعلت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بعض‭ ‬عائلات‭ ‬النخبة‭ ‬الحضرية‭ ‬العريقة‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬تونس،‭ ‬مع‭ ‬نخبة‭ ‬بورقيبة‭ ‬القروية‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭ ‬إثر‭ ‬الاستقلال‭. ‬وعندما‭ ‬يفشل‭ ‬فنان‭ ‬في‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬القالب‭ ‬فإن‭ ‬عمله‭ ‬الفني‭ ‬يصبح،‭ ‬كما‭ ‬لاحظ‭ ‬ذلك‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬الفنان‭ ‬المسرحي‭ ‬الرائع‭ ‬رؤوف‭ ‬بن‭ ‬يغلان،‭ ‬الانتقام‭ ‬بالسخرية‭ ‬من‭ ‬أصوله‭ ‬الاجتماعية‭. ‬

لقد‭ ‬فشلت‭ -‬بتفاوت‭- ‬السياسة‭ ‬التنموية‭ ‬لكل‭ ‬النخب‭ ‬التونسية‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تخرج‭ ‬الثقافة‭ ‬من‭ ‬تقوقعها‭ ‬على‭ ‬الذات‭ ‬داخل‭ ‬بيضتها‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬العاصمة،‭ ‬ومن‭ ‬الـ‭ “‬هو‭” ‬التاريخي‭ ‬المهيمن‭ ‬الذي‭ ‬جعلها‭ ‬لفترة‭ ‬طويلة،‭ ‬تُصمم‭ ‬منتوجها‭ ‬–‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬السينما‭- ‬وفق‭ ‬انتظاراته‭ ‬وتشعر‭ ‬بأنه‭ ‬المُمتحن‭ ‬الدائم‭ ‬لها‭. ‬وفشلت‭ ‬بذلك‭ ‬في‭ ‬مساعدة‭ ‬التونسيين،‭ ‬دون‭ ‬وصاية‭ ‬مرجعية‭ ‬عليهم،‭ ‬في‭ ‬توفير‭ ‬الشروط‭ ‬اللازمة‭ ‬لتطوير‭ ‬مخيالهم‭ ‬الابداعي‭ ‬الفني‭ ‬والاقتصادي‭ ‬على‭ ‬الأرضية‭ ‬الفنية‭ ‬والتاريخية‭ ‬التي‭ ‬نشؤوا‭ ‬فيها‭ ‬دون‭ ‬عقد،‭ ‬وتحويل‭ ‬المحلي‭ ‬إلى‭ ‬وطني‭ ‬وإقليمي‭ ‬ولما‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬كوني‭.‬

خلال‭ ‬الثورة‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬هذا‭ ‬المكبوت‭ ‬الثقافي‭ ‬انتصاب‭ ‬لهجة‭ ‬الـ‭ “‬ڨ‭” ‬على‭ ‬منابر‭ ‬الخطب‭ ‬السياسية،‭ ‬وتدفقها‭ “‬بلا‭ ‬خجل‭” ‬على‭ ‬الموائد‭ ‬الحوارية‭ ‬التلفزية،‭ ‬فارضة‭ ‬اعترافا‭ ‬وطنيا‭ -‬ربما‭ ‬مؤقتا‭- ‬بشرعيتها‭. ‬وفي‭ ‬الأثناء‭ ‬بدأت‭ ‬المدارس‭ ‬في‭ ‬الأرياف‭ ‬والقرى‭ ‬تنتج‭ ‬نخبا‭ ‬علمية‭ ‬وفنية‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬للمرور‭ ‬إلى‭ ‬الساحة‭ ‬الوطنية‭ ‬وحتى‭ ‬الدولية،‭ ‬إلى‭ ‬الوسيط‭ ‬الثقافي‭ ‬التاريخي‭ ‬في‭ ‬العاصمة،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬قرى‭ ‬كان‭ ‬اسمها‭ ‬فقط‭ ‬يقابل‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬بابتسامة‭ ‬تعالٍ‭ ‬قفزت‭ ‬رياضيا‭ ‬إلى‭ ‬العالمية‭ “‬تحت‭ ‬حِس‭ ‬مسْ‭”‬،‭ ‬محدثة‭ ‬صدمة‭ ‬ثقافية‭ ‬للذات‭ ‬المتكورة‭ ‬على‭ ‬ذاتها‭ ‬وعلى‭ ‬الـ‭ “‬هو‭” ‬المرجعي‭ ‬القابع‭ ‬داخلها،‭ ‬وذلك‭ ‬بعدما‭ ‬كُتب‭ ‬في‭ ‬الجرائد‭ ‬التونسية‭ ‬إن‭ ‬الفريق‭ ‬المصري‭ ‬لكرة‭ ‬الطائرة‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬له‭ ‬منافس‭ ‬على‭ ‬البطولة‭ ‬الإفريقية‭ ‬عندما‭ ‬انسحب‭ ‬من‭ ‬اللعبة‭ “‬الكبار‭”‬،‭ ‬وحَسم‭ ‬مركب‭ ‬الهزيمة‭ ‬الموقف‭ ‬قبل‭ ‬بداية‭ ‬المنافسة‭!. ‬

لقد‭ ‬بدأ‭ ‬عالم‭ ‬الوساطة‭ ‬التونسي‭ ‬المُهذب‭ ‬للفن‭ ‬بالانهيار،‭ ‬ونهض‭ ‬عالم‭ ‬آخر‭ ‬على‭ ‬منصات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬يبحث‭ ‬في‭ ‬الخصوصية‭ ‬الفنية،‭ ‬رقيق‭ ‬الإحساس‭ ‬بالإحساس‭ ‬المغاير،‭ ‬وانفتحت‭ ‬بحلوله‭ ‬عوالم‭ ‬جديدة‭ ‬ضد‭ ‬مقولات‭ ‬النمطية‭ ‬والشرعية‭ ‬الذوقية‭ ‬ومرجعية‭ ‬القالب‭ ‬الواحد‭ : ‬قبل‭ ‬يومين‭ ‬قالت‭ ‬لي‭ ‬إحدى‭ ‬طالبات‭ ‬الموسيقى،‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬الريف‭ ‬التونسي‭ ‬إنها‭ ‬وجدت‭ ‬قرابة‭ ‬بين‭ ‬فن‭ ‬الصالحي‭ ‬ولونا‭ ‬موسيقيا‭ ‬بلغاريا،‭ ‬وأنها‭ ‬مندهشة‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬الكونية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفن،‭ ‬وأنها‭ ‬تعد‭ ‬الآن‭ ‬رسالة‭ ‬ماجستير‭ ‬حول‭ ‬الموضوع‭!  ‬

إن‭ ‬الثورة‭ ‬الثقافية‭ ‬القادمة‭ ‬ستكون‭ ‬ثورة‭ ‬الاعتراف‭ ‬والتعدد‭ ‬واللامركزية،‭ ‬وبناء‭ ‬المجد‭ ‬الحديث‭ ‬على‭ ‬الأصل‭ ‬العريق‭… ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬اغتيلت‭ ‬هذه‭ ‬الثورة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تحويل‭ ‬وجهتها‭ ‬بالتمييع،‭ ‬وبتهذيب‭ ‬المهذًبين‭ ‬كي‭ ‬يصبحوا‭ ‬أكثر‭ ‬حرية‭ ‬في‭ ‬التهجين‭ ‬والابتذال‭. ‬قلت‭ ‬دائما‭ ‬إن‭ ‬الثورة‭ ‬القادمة‭ ‬مازالت‭ “‬بكماء‭”‬،‭ ‬ما‭ ‬يتلجلج‭ ‬في‭ ‬صدرها‭ ‬أكبر‭ ‬بكثير‭ ‬مما‭ ‬تحاول‭ ‬قوله‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭.‬

*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 30 ماي 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING