الشارع المغاربي: أصدرت «مجموعة الأزمات الدوليّة» (International Crisis Group)، مؤخرا، تقريرا جديدا عن تونس، خصّصته لتناول خلفيّات تراجع العمليّات الإرهابيّة في البلاد، مُنبّهة إلى أنّ سياسة الدولة الراهنة في مكافحة الجماعات الإرهابيّة قد تفرز مخاطر وشيكة تكمن خصوصا في تفاقم العصابات الإجراميّة والتنظيمات العنيفة…
«الجهاديّة في تونس: تجنّب تفاقم أعمال العنف» (Jihadisme en Tunisie : éviter la recrudescence des violences)، كان هذا عنوان التقرير الجديد الذي نشرته «مجموعة الأزمات الدوليّة» عن تونس يوم 4 جوان الجاري. ورغم أهميّته الآنيّة، فإنّ هذا التقرير لم يحفل باهتمام الإعلام التونسي لأنّه لم يكن من طينة «الجوائح السياسيّة والاجتماعيّة الصادمة» التي ترفع نسب المشاهدة والاستماع لدى الجمهور، وإن كانت في منتهى التفاهة.
أوضح التقرير أنّ حدّة العمليّات الإرهابيّة في تونس، التي يُسمّيها بـ»الهجمات الجهاديّة»، قد تراجعت بشكل ملحوظ جدّا في البلاد منذ التصدّي الأمني والعسكري الناجح لهجوم تنظيم «داعش» الإرهابي على مدينة بن قردان في مارس 2016. وفي المقابل، اعتبر أنّ هذا التراجع لا يعود إلى الإجراءات الحكوميّة المتّخذة لضرب التنظيمات الإرهابيّة، بقدر ما انجرّ و»بشكل رئيسي» عن ملاحقة منابع تنظيمي «القاعدة» و»الدولة الإسلاميّة» الإرهابيّيْن في سائر أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويُمهّد التقرير لاستنتاجاته الأساسيّة بالإشارة إلى أنّ بضعة آلاف من التونسيّين قاتلوا في صفوف التنظيمات الإسلاميّة المتشدّدة سواء في ليبيا أو في بعض بلاد الشرق الأوسط، فضلا عن أنّ متشدّدين تونسيّين كانوا قد ارتكبوا أربع هجمات إرهابيّة في فرنسا وألمانيا بين عامي 2016 و2021.
ومع ذلك يستنتج أنّ «الأيديولوجيا السلفيّة الجهاديّة تلاشت من المشهد في البلاد، بما في ذلك بين القطاعات المهمّشة من السكّان التي تنزع للتماهي أكثر مع ثقافة العصابات لا مع مفهوم الشهادة». والمقصود بذلك أنّ العمليّات الانتحاريّة التي كان يُنفّذها الشباب المنصهر في تلك الجماعات المتطرّفة قد اضمحلّت لأنّ فكرة «الشهادة» واستتباعاتها، أي ما سينعم به هؤلاء الانتحاريّون مثلا من «حور عين» بمجرّد الموت والدخول إلى الجنّة، لم تعد تُغري الشباب المهمّش المقيم غالبيّته في الأحياء الشعبيّة والمناطق المحرومة.
استمرار الخطر الإرهابي
رغم التراجع الملفت للعمليّات الإرهابيّة، فإنّ «تونس ليست آمنة تمامًا من التشدّد الإسلامي»، وفق ما جاء في التقرير، وهو ما يعود جزئيّا إلى الانعكاسات والتبعات غير المقصودة لإجراءات مكافحة الإرهاب الجارية حيّز التنفيذ منذ عام 2013. في هذا المضمار، يفيد بأنّ معظم السجناء ذوي الصلة بالنشاط الإرهابي البالغ عددهم 2200 سجين من المنتظر إطلاق سراحهم على مدى الأعوام الثلاثة المقبلة. ومن ثمّة، ذهب إلى أنّ الظروف السجنيّة و»سوء المعاملة» التي خضع لها هؤلاء، من شأنها أن تُفضي بهم إلى النكوص نظرا إلى احتمالات إعادة تأهيلهم الضئيلة. وهو ما يعني أنّ هناك «مخاطرة مرتفعة في أنّهم سيستأنفون نشاطهم المتشدّد عند إطلاق سراحهم أو سيختارون طريق الجريمة». وهذا بالإضافة إلى أنّ الرقابة الإداريّة الشديدة المفروضة عليهم بعد مغادرة السجن من شأنها أن «تدفع بعضهم، ممّن يشعرون بأنّهم عوملوا بشكل غير منصف، إلى تجديد اتّصالهم بالجماعات الجهاديّة».
يقدّم التقرير رقمًا آخر في غاية الأهميّة، إذ يُفيد بأنّ هناك نحو 100 تونسي في منطقة الساحل الإفريقي ينتمون إلى تنظيمات إرهابيّة ترتبط بتنظيمي «القاعدة» و»الدولة الإسلاميّة»، «قد يختارون نقل المعركة إلى بلدهم الأصلي في أيّ يوم»، أي إلى تونس.
وما لم يقله التقرير هنا أنّ هناك قوى إقليميّة ودوليّة قد تُقرّر، في أيّ وقت من الأوقات، لاعتبارات جيوسياسيّة تقديم تسهيلات ماديّة ولوجستيّة إلى تلك العناصر، بل وقد تفرض ضغوطا سياسيّة لتيسير عودتهم إلى تونس. وطبعًا فإنّ 100 عنصر في جماعة إرهابيّة عقائديّة لا يُعدّ عددًا هيّنا إطلاقا، بل قد تفوق مخاطره استعدادات كتائب وأفواجا عسكريّة بأكملها، باعتبار أنّ تلك العناصر الإرهابيّة في حال تنظّمها واختراقها لبعض الأحياء الشعبيّة أو المفازات الغابيّة القريبة من المدن قد تعتمد على الكرّ والفرّ وتلتجئ إلى العمليّات الانتحاريّة وتحاول عبر كلّ الوسائل الميدانيّة والافتراضيّة استقطاب الشباب المهمّش في كلّ جهات البلاد، لاسيما أنّ التطاحن السياسي السائد وانتشار دعوات التكفير حتّى تحت قبّة البرلمان واستبطان الفكر المتشدّد من شأنها كلّها أن تُشكّل أرضا خصبة لتحرّكات هؤلاء…
إجراءات استبقائيّة!
علاوة على استمرار الخطر الإرهابي، اعتبر هذه المنظمة الدوليّة أنّ «الحكومة تستمرّ في فرض إجراءات قمعيّة وغير مركَّزة في مكافحة الإرهاب»، وأنّ بعض تلك الإجراءات «تُحدث تفكّكا في التماسك الاجتماعي وتآكلاً في ثقة المواطنين بمؤسّسات البلاد». وهو ما اعتبرت أنّه «يرفع معدّلات الجريمة وأشكال أخرى من انعدام الأمن في المناطق الحضريّة، وخصوصا إذا استمرّت الأحوال الاجتماعيّة والاقتصاديّة بالتردّي». ومن ثمّة تدعو «مجموعة الأزمات الدوليّة» السلطات التونسيّة إلى إجراء إصلاحات في مجالي الأمن والعدالة الجنائيّة لمنع حدوث تصاعد في حدّة العنف. وفي هذا المضمار، تؤكّد على وجوب سنّ قانون طوارئ جديد بدلا من «الأمر عدد 50 لسنة 1978 المؤرّخ في 26 جانفي 1978 المتعلّق بتنظيم حالة الطوارئ». فمن المعلوم أنّ هذا الأمر القانوني قد بات غير ملائم للتحوّلات التي شهدتها البلاد بعد أكثر من أربع عقود على إصداره، فضلا عن أنّه ينتهك مقتضيات دستور 2014 في نقاط عدّة منه.
ومن أجل تجنّب الارتدادات العكسيّة المحتملة، على غرار تفاقم مشكلة الجريمة المنظمة والاضطرابات في المناطق الحضريّة، أوصت هذه المنظّمة الدوليّة بتعديل القانون الأساسي عدد 26 لسنة 2015 المتعلّق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال، بالإضافة إلى مطالبتها بتعديل بعض فصول مجلّة الإجراءات الجزائيّة في اتّجاه التخفيف من حدّة الإجراءات الإداريّة والجزريّة المشطّة المسلّطة على المتّهمين في قضايا إرهابيّة، على غرار إلغاء الاستثناء المتعلّق بإمكانيّة عدم السماح للمحامي بزيارة ذي الشبهة خلال فترة 48 ساعة الأولى من الاحتفاظ به، وكذلك تقليص الحدّ الأقصى لفترة الاحتفاظ لدى مراكز الأمن، باعتبارها الفترة التي تشهد انتهاكات أكثر من غيرها، فضلا عن المطالبة باتّخاذ إجراءات عديدة أخرى سبق أن طالبت بمثلها الهيئات الوطنيّة والمنظمات الحقوقيّة التونسيّة وتتعلّق مثلا بتحسين ظروف الاحتجاز، والحدّ من اكتظاظ السجون، وتأمين الرعاية الصحيّة والنفسيّة الملائمة للمساجين وتركيز الجهود على إعادة التأهيل الاجتماعي وتقديم فرص للاندماج والعمل إلى من قضوا فترة عقوبتهم.
وفي السياق ذاته، دعت إلى التركيز على الوقاية عوضا عن الاكتفاء بالإجراءات الجزريّة، وإلى ضرورة تعزيز التنسيق بين مختلف الوزارات والهيئات الوطنيّة والحقوقيّة ذات الصلة، حتّى تتّسم جهود مكافحة الإرهاب بأكثر فعاليّة وتُشكّل مقاربة شاملة لا تقتصر على الجانب الأمني. وهو ما من شأنه أن يُعزّز الثقة في مؤسّسات الدولة وينعكس إيجابيا على المجتمع بأسره…
يبقى من الضرورة أن نسوق ملاحظة منهجيّة، فـ»مجموعة الأزمات الدوليّة» تعلن نفسها في موقعها الرسمي «منظمة مستقلّة». ورغم ذلك، يُلاحظ من يُدقّق في قراءة تقريرها أنّها عندما تتحدّث عن العمليّات الإرهابيّة المرتكبة في تونس فإنّها تُسمّيها حرفيّا «هجمات جهاديّة» أو «عنف جهادي»، كما تنعت التنظيمات الإرهابيّة بـ»مجموعات مسلّحة». أمّا حين يتعلّق الأمر بتلك التي جدّت في فرنسا أو ألمانيا فإنّها تُغيّر توصيفها لتُسمّيها «عمليّات إرهابيّة». وهو ما يمسّ في تقديرنا من حيادها وتوازن تقاريرها.
ومع ذلك، فإنّ هذا التقرير يكتسي أهميّة لا شكّ فيها، لاسيما أنّه من اليسير أن نلاحظ أنّ البلاد أخذت تشهد فعليّا تفاقم الأعمال الإجراميّة وازدياد خطورة العصابات المنظّمة، في ظلّ انسداد الأفق السياسي واستشراء الفساد واستمرار الإفلات من العقاب وشدّة التراجع الاقتصادي وعمق الإحباط الاجتماعي…
نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 8 جوان 2021