الشارع المغاربي: إعلان رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد عن استبدال عيد الثورة وتغييره من 14 جانفي إلى 17 ديسمبر ليس أمرًا هيّنا مطلقا، على الرغم من أنّ للدولة التونسيّة وشعبها اليوم أولويّات أخرى عاجلة تحتاج إلى أسبقيّة الاهتمام. ومع ذلك عجّل سعيّد بفرض إجراء لا يمتلك أحقيّته، بل ويُصادر بمنظوره الاختزالي حقائق التاريخ ويُعمّق الانقسامات بين التونسيّين.
سمّاها دستور 2014، في توطئته، «ثورة الحريّة والكرامة، ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011». هكذا انتصر الدستور باسم الدولة التونسيّة لتضحيات شهداء الثورة وجرحاها الذين بذلوا حياتهم انطلاقا من المناطق الداخليّة المحرومة، وفي الآن نفسه اعترف بأنّ حراك 17 ديسمبر ما كان ليبلغ ذروته لولا مآلات 14 جانفي. ومع ذلك فإنّ النُخب التي هيمنت على مقاليد السلطة على امتداد عشرة أعوام تنكّرت لهم واكتفت بإقرار يوم 14 جانفي عيدا للثورة. وبدلا من إنصافهم بتصويب الدفّة وإصلاح الخطأ، أصرّ رئيس الجمهوريّة على ارتكاب خطأ جديد.
كان بإمكان رئيس الدولة أن يُعلن عن إقرار يوم 17 ديسمبر عطلة رسميّة وعيدا وطنيّا يُحيي ذكرى انطلاقة الثورة في سيدي بوزيد، ولكن دون المساس بتاريخ 14 جانفي الذي شهد إضرابًا عامّا مهيبًا شاركت فيه آلاف مؤلّفة من التونسيّين من كامل البلاد، وأدّى إلى استعجال رئيس النظام السابق تأمين هروبه إلى خارج البلاد. فانفتحت أبواب الحريّة أمام هذا الشعب، ولكنّ عقليّة الغنيمة التي استبدّت بالنخب الحاكمة بلا استثناء أنتجت شكلا فاسدا من الديمقراطيّة، فحالت كلّيّا دون تأمين شرط الكرامة والعدالة الاجتماعيّة.
قيس سعيّد، الذي لم يُسمع له صوتٌ بين 17 ديسمبر و14 جانفي، لم يُخالف فقط دستور 2014، بل انقلب حتّى على خياراته عبر انتهاك مقتضيات «الأمر الرئاسي عـ17ـدد» الذي أقرّ في الفصل 20 منه بأن «يتواصل العمل بتوطئة الدستور وبالبابيْن الأوّل والثاني منه، وبجميع الأحكام الدستوريّة التي لا تتعارض مع أحكام هذا الأمر الرئاسي».
وفي الحقيقة، لا يمكن استغراب ما ذهب إليه الرئيس منذ إعلان الأمر عـ117ـدد الذي داس روح الدستور واغتاله تمامًا بكلّ أبوابه، بما أنّه أعطى لنفسه رسميّا صلاحيّات مطلقة وغير قابلة للطعن، بل ولا نظير لها حتّى في المدوّنات القانونيّة التي تُسطّرها أعتى الأنظمة الدكتاتوريّة. وما دام قد فصّل الأمر 117 وكأنّه أمر إمبراطوري لا يُعلى عليه، فإنّه من الطبيعي أن يستطيب تجاوز بنوده والاستغناء عن مقتضياته متى وكيفما شاء.
ظنّ سعيّد أنّه المؤهّل الوحيد لإعادة كتابة تاريخ هذه البلاد، وتغيير ما يشاء بجرّة قلم، وتمرير آلي لأيّة قرارات مصيريّة تتبادر إلى ذهنه في اجتماعٍ صوري لمجلس الوزراء. ومن ثمّة، أحال المؤرّخين وكافّة الشهود على عصر الثورة إلى «التقاعد الوجوبي».
بحث سعيّد بهذا الإجراء إثبات وقوفه إلى جانب الفئات الشعبيّة المحرومة التي انتفضت في سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر 2010 بُعيْد إضرام البوعزيزي النار في جسده، ثمّ امتدّ وهج الغليان الشعبي إلى الولايات المجاورة ومعظم مفاصل البلاد لتبلغ الاحتجاجات السلميّة المتصاعدة أوجها في العاصمة يوم 14 جانفي 2011.
وربّما من حسن الحظّ أنّ سعيّد لم يختر بعد تاريخ فوزه الساحق في الانتخابات ليجعله عيدا وطنيّا، وهو الذي قال مرارًا إنّ الشعب التونسي سطّر عبر انتخابه ملحمة جديدة من شأنها إعادة كتابة تاريخ البلاد وثورتها!. عساه يذكر إذن أنّ بن علي كان قد حوّل تاريخ السابع من نوفمبر إلى صنمٍ مخيفٍ خيّمَ على الساحات والشوارع الكبرى في كافّة مدن البلاد، وجعل التونسيّين يعيفون هذا الرقم البريء ممّا يُحاك له، باستثناء رفعة قيمته في لعبة الورق الشعبيّة «الشكُوبّة» التي يستعيض بها الكثيرون عن التفكير في هموم أيّامهم.
وبصرف النظر عمّا يُردّده المؤرّخون ويرفضه بعض مناوئيهم من أنّ «الثورات تُؤرّخ بخواتيمها لا ببداياتها»، فإنّ كتابة التاريخ الحديث لم تعد حكرًا على المنتصرين وكبار السياسيّين و»جهابذة» الحكّام مهما اشتدّت سطوتهم أو بلاغة شعبويّتهم. كما لم يعد شأنا مقصورًا على المؤرّخين بمفردهم، بل بات ثمارا لإجماع وطني وذهنيّة شعبيّة لا يمكن أن تمحوها «تدابير استثنائيّة» سينتهي مفعول سلطتها المطلقة مهما طال أمدها.
الثابت إذن أنّ حذف 14 جانفي من خارطة الثورة بقرار شعبوي متهافت لن يُؤدّي إلى تغيير التاريخ أو محو ذاكرة جماعيّة سطّرها شعب بأسره، لأنّه لا يعدو أن يكون سوى قرار ظرفي مؤقّت سيزول أثرُه ويخفت صداه عند اصطدام وهم «الشرعيّة الثوريّة» المشتهاة بإكراهات الواقع المرير..
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 7 ديسمبر 2021