الشارع المغاربي: بعد مرور قرابة سنة ونصف بدأ حكم 25 جويلية في فتح ملفات قضائيّة لها علاقة بقيادات من حركة النهضة واعتمد في ذلك أسلوبين اثنين:
1) الابتعاد كليا عن الملفات الحارقة التي سيؤدي فتحها إلى نتائج غير محسوبة في وقت لم يتمكن النظام الجديد من الإمساك بالسلطة كليا من ناحية ومن ناحية أخرى قد يؤدي فتح هذه الملفات إلى المسّ من علاقات التبعيّة التي انتهجها حكم حزب النهضة منذ سنة 2011 مع دول حافظ النظام الجديد على علاقات متميّزة معها كعلاقته بقطر التي كانت من بين أوّل الدول التي زارها رئيس الجمهورية حيث اختتم زيارته لها بتعيينه رئيسا للرابطة الدولية لفقهاء القانون الدستوري. كما حافظ على علاقاته بالنظام التركي – الذي زار رئيسه الرئيس التونسي بعد شهرين من استلام منصبه- رغم أن معالجة خلل الميزان التجاري مع هذه الأخيرة يستلزم سياسة تحرّر اقتصاد البلاد من التبعية التي فرضتها عليه حركة النهضة. ولعلّ أبرز ملف كان من المفروض أن يفتح هو ملف التسفير الذي لعبت فيه قطر وتركيا دورا أساسيا حسب ما شهد بذلك التونسيّون الذين ألقي القبض عليهم في سوريا وتحدّثوا عن الظروف التي أدت بهم إلى الانخراط في تدميرها بمساعدة من جهات بعضها رسمي. كل ذلك الى جانب إهمال الملف الضخم للاغتيالات الذي خُصص له اجتماع لمجلس الأمن القومي وشاهد الناس حُكّته (boite d’archive) على مكتب الباجي قائد السبسي رئيس الجمهورية آنذاك.
2) حصر الاتهامات التي وجهت إلى قيادات حركة النهضة في إطار المخالفات العادية التي لا ينظمها خيط سياسي جامع يمثل خطة حزبيّة نفذتها هذه القيادات للتمكين لحزبها. فعلي العريض صدر ضدّه حكم بالسجن سنة واحدة لاتهامه بتسفير شبان إلى سوريا والحال أن التسفير كان سياسة دولة اشتركت فيها منظومة 2011 بكل اطرافها دون استثناء وكان من المفروض أن تشمل المقاضاة في هذه الحالة هذه المنظومة لا أن يتم الاقتصار على علي العريض. والغريب فعلا أن النهضوي نور الدين بن حسن الخادمي الذي يعتبر من أكثر الدعاة حماسا للتسفير من خلال خطبه مُكّن من السفر إلى قطر رغم الشبهات الكثيرة التي طالته ورغم أنه كان وزيرا للشؤون الدينية وكان على الدولة أن تفتح ملف العلاقة بين هذه الوزارة والتسفير خصوصا بعد إدانة وزير الداخلية.
اليوم يلاحظ المرء أن النواة الصلبة لحركة النهضة جميعها وُضعت في السجن بدءا برئيس الحركة راشد الغنوشي وانتهاء بنور الدين البحيري مرورا بعلي العريض وعبد الحميد الجلاصي والحبيب اللوز والصحبي عتيق ومحمد بن سالم وغيرهم بحيث أفرغ الحزب من قياداته التي تصدّرت المشهد السياسي والإعلامي طوال العشر سنوات الماضية وكانت صاحبة اليد الطولى في الحكومة والبرلمان. فهل أثّرت هذه الإيقافات على بنية الحركة؟ ولماذا لم نشاهد ردّ فعل على هذه الإيقافات؟ ولماذا اتجهت الحركة إلى التهدئة عبر خطاب رئيسها المؤقت الداعي إلى الصبر والتهدئة؟ وما الفرق بين فترة التسعينات التي ردّت فيها الحركة على السلطة بتحرير المبادرة وهذه الفترة التي رضيت فيها بما قرّر رئيس الدولة دون اعتراض منها؟ ثم هل أن سبب الدعوة إلى التهدئة حكمة قذفها الله في قلب راشد الغنوشي أو اعتقاده بأن ما تقوم به السلطة يمهّد للقضاء على بقية التشكيلات الحزبية والنقابية أو ما سمي بالأجسام الوسيطة بحيث يتحمّل السجن لأيام معدودات في انتظار أن يتم التخلص من البقية؟.. أسئلة كثيرة تراود الذهن بعد مرور سنوات لم تحاسب فيها حركة النهضة على الجرائم التي ارتكبتها في حق البلاد والعباد والراجح لدينا بعد التأمل أن حكم 25 جويلية غير جاد في محاربة أسّ البلاء وسبب الدمار الذي عرفته البلاد خلال العشرية الماضية ومما يؤكد هذه الفرضية أن:
1) حكم 25 جويلية أغلق مقرات الحركة ولكنه لم يصادرها ويعلم الجميع بأن هذه الحركة لا تستعمل مقراتها إلا في ما هو معلوم وملاحظ لدى الناس ممّا لا يثير الشبهة أو الريبة ولكنها تستغل الجوامع والمساجد للإعداد والتخطيط لمشاريعها التي لا عدّ ولا حصر لها ومن أشهرها حادثة باب سويقة التي انطلقت من جامع صاحب الطابع والهجوم على السفارة الأمريكية الذي انطلق من جامع الفتح وإمامه الوزير النهضوي نور الدين بن حسن الخادمي، الأمر الذي يعني أنه لا فائدة من إغلاق المقرات إذا بقيت الجوامع تحت سيطرتها خصوصا لمّا نضع في الاعتبار أن وزير الشؤون الدينية الحالي نهضوي الهوى والدليل على ذلك اعتباره الغنوشي مجددا في الفكر الإسلامي ومشاركته في مناقشة رسالة في هذا المعنى.
2) رغم القبض على أهمّ قيادات حركة النهضة فإن السلطة لم تستخلص النتائج المترتبة عن ذلك. ذلك أنه من المفروض أن يتم حلّ الحزب الذي يتم القبض على قياداته لأسباب فيها شبهة جنائية الى جانب مصادرة أملاكه لأنه لا يمكن للذي يستغل منصبه في وزارة سياديّة كالداخلية لتسفير شبابنا إلى بؤر التوتر خدمة لأجندات غير وطنية وأجنبية أو يُتّهم بغسل الأموال والتستر على الجريمة أن يكون إلا قياديا في تنظيم إجرامي. لذلك يجب حلّ الأحزاب التي يقودها ذوي الشبهة قبل أن يستفحل داؤها وتأملوا مليا ما حدث لتونس خلال حكم حركة النهضة وما حدث لمصر في سنة واحدة من حكم المرشد لولا خروج الشعب المصري رافعا شعار “يسقط يسقط حكم المرشد” وهو ما استجاب له الجيش المصري حالا.
3)بعد أن استلم رئيس الجمهورية السلطة وإثر صدور المراسيم التي مكنته من وضع يده على كامل أجهزة الدولة، اكتفى بذلك ولم يتجه إلى معالجة الاختراقات التي حدثت في الإدارة. وأذكر أن راشد الغنوشي قال في الشريط الذي تحدث فيه مع بعض السلفيين إنهم عيّنوا الوزراء وأن الإدارات ليست بأيديهم وأن ذلك يتطلب منهم جهدا لوضع أعوانهم في مفاصل الدولة. هذا المخطط نفذه الغنوشي وزرع أعوانه في مختلف المواقع، وبدل أن يتجه الحكم بعد 25 جويلية إلى إعادة النظر في كل التعيينات وفي كل الإدارات مع نشر قائمة اسمية في الذين تحصلوا على تعويضات من المالية العمومية فضل الصمت عن ذلك رغم المطالبات العديدة.
والذي نخلص إليه أن تعامل حكم 25 جويلية مع حركة النهضة قضائيا وسياسيا تحكمه الانتخابات الرئاسية لسنة 2024 حيث يسعى إلى تحاشي إغضاب الأصوات النهضوية باعتبارها أكبر كتلة منضبطة وذلك من خلال:
1) الصمت على التعويضات والإبقاء على القرار الذي اتخذه يوسف الشاهد بتحويل مساهمات التونسيّين لدعم الصناديق الاجتماعية إلى تعويضات لمجرمي ماء الفرق الصادر في الرائد الرسمي في 18 جانفي 2019 بالصفحة 157 الى جانب الإبقاء على من عيّنتهم حركة النهضة عيونا لها في الإدارة التونسيّة وأغلبهم اليوم في خدمة الحركة وليس الدولة.
2) فتح ملفات قضائية ضد قادة الحركة والتمطيط في آجالها لتلهية الرأي العام المعارض من ناحية وطمأنة أنصار الحركة من ناحية أخرى.
كل ذلك انتظارا للانتخابات الرئاسية لسنة 2024 وهي قريبة لا تفصلنا عنها سوى سنة واحدة.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 11 جويلية 2023