الشارع المغاربي: إنهم قادة إخوان النهضة؛ قادة صفّها الأول الذين في صدارتهم شيخُهم. وليس هذا الحدث بالهيّن. ففي الماضي القريب، كان في نظر المحتكمين إلى سطح الأمور احتمالا متعذّر الحصول. ذلك أن القابعين في السجن اليوم، إنما كانت مفاتيحه في مقابض أيديهم، وكانوا يفتحون أبوابه أنّى شاؤوا ولمن شاؤوا. ومع ذلك تجنّدت مُهَجٌ وعزائم متراكمة الفعل، فزرعَت أسباب أن ينعقد حدثُ سجنِهم. وهو حدث يقتضي بعضَ النظر، وتقتضي أسبابُه المزيدَ.
أولا: حدث السجن
إنّ المعتقلين اليوم هم قادة الصف الأول من إخوان النهضة بمعية زعيمم. إنهم قادة الحركة “التاريخيون”، وقادة حكمها المباشر الذي امتد عشرية كاملة. وإزاء ذلك ، لا يتخلّق فينا تعاطف معهم لأننا نعلم، سياسيا، ما قترفت أيديهم في حق تونس. ولأننا نعلم، قانونيا، أثقال التّهم التي وُجّهت إليه وخاصة تلك التي لم تُوجّه.
لكن التشفّي لا يعتمل في الخاطر، لأننا نؤمن بالقانون نصا وروحا وإنْ في طرفه خلل. وإنّ ذاك هو ما يحفظ فينا التعلق بالعدالة ونكران الإنتقام. فالعدالة نسّاجة لوحدة المجتمعات، لكن الإنتقام هَدّام لها مزّاق.
على أن قدرا ليس هينا من الإرتياب في زمن الإعتقال يطل بوجهه.فهل هو زمن قانوني أو زمن سياسي. فإن كان زمنا قانونيا فخراجه للمجتمع والدولة. وإن كان زمنا سياسيا فأشواكه على صاحبه، والزمن دوّار.
وإن سجن أولئك الساسة يمر اليوم مرورا شبه عابر. فكأن شيئا لم يقع، وكأن”حمارا قد قضم قرعة” وكفى. وكأن المعتقلين اليوم ليسوا عِلية حركة كانت ، إلى وقت قريب، تُشهر أنها القوة السياسية الأولى في تونس، ويتبجّح شيخها بأن مقود الحكم تحت يده، وتحرص على أن تُصبغ الدولة والمجتمع بلونها الإخواني الوافد، وتُطبِق على الحكم إطباقا كاملا شاملا، امتدّ في الزمان عشرية من الأعوام، وامتدّ في الدولة إلى كل مؤسساتها وأجهزتها، وامتدّ في المجتمع إلى قسم منه معتبر، وإلى أغلب نسيجه الجمعوي والحزبي والمسجدي.
ومع ذلك يلازم سجنَ قادةِ هذه الحركة الأُوًّلِ صمتٌ وتجاهل شِبهُ كاملين. فلا العمق الشعبي المحافظ الذي اعتقدت هذه الحركة أنه من أتباعها قد حرك ساكنا، ولا أنصارها الذين جنَوا من حكمها سخي المنافع، وكانت لهم صولات من التجمهر تحت رايتها، ولا الأحزاب الاي كانت في فلكها ، ولا المنظمات ولا الجمعيات، ولا أي كيان كان له في الماضي القريب قدح اغتراف من إنائها.
وإنّ قسما غالبا من الإعلاميين الذين كانت لهم أثناء حكم هذه الحركة مغانم ، قد أداروا ظهورهم ،صمتا، عن الحمار الذي قضَم قرعتها وأكل دستورها. لا بل انضم بعضهم إلى جوقة ” كلنا ذاك الرجل” وصاروا يضعون أسطر التأكيد تحت عبارة “عشرية الخراب” حتى كأنهم لم يكونوا من مُشهري مزاياها المزيفة ومروّجيها .
ثانيا: أسباب التجاهل:
إنّ تجاهلا إلى هذا القدر، لِحَدث في هذا الحجم ، لا يمكن قَصرُه على سبب واحد أو اثنين. فهو، وجوبا، حصيلة أسباب شتى مركبة متداخلة.
1/دورة الدوائر:
حين منحت دورةُ الزمن الوغد فرصةَ النفوذ لإخوان النهضة في تونس، لم يُداروا حقدهم ولا تشفيهم ولا دوسهم على العدالة ولا تنكيلهم بسابقيهم في الحكم. فبكلّ ذلك عاملوا أعمدة النظام السابق على الشياع، فلم يميزوا بين مذنب وبريء. وأوغلوا في ذلك بأن صبوا حقدهم على كيان الدولة وعلى ثوابتها وعلى قيم المجتمع الراسخة. لقد طغوا في أرض تونس واستباحوا مصالحها وثرواتها وقيمها وشعبها معتقدين أن الزمن قد منحهم تونس مَتاعا لهم إلى الأبد.
ولما وقف الشعب التونسي على حقيقة معدنهم، صار يرتقب لحظة خلاص منهم. ولئن لم يتأكد اليوم الخلاص منهم ، لأسباب معقدة تتصل بالاطراف الداخلية والخارجية التي أذنت بإزاحتهم عن الحكم، فإن قُبوع قادة هذا التنظيم في السجن، لم يحركّ في وجدان التونسيين أدنى تعاطف، لا بل استبطن قسم منهم بعض الإنفعال الذي يخفي تشفيا صامتا أحيانا ومعلنا أحيانا أخرى.
/2روح الغنيمة:
في لحظة غفلة وتِيهٍ، منحت أكثرية تونسية من الناخبين أصواتها لهذه الحركة. وهذا التصويت هو عقد سياسي وأخلاقي بين الناخب والمنتخب. لكن الإخوان خانوا ذاك العقد، وتعاملوا مع الحكم الذي آل إليهم بما هو فرصة للإغتنام والنهب والنآمر والمخادعة وبيع مصالح البلاد والتمكن من مفاصل الدولة ومن أوصال الحكم تمكنا خاليا من روح الوطنية، محكوما بالولاء للقوى الخارجية التي حكّمهم على رقاب التونسيين. فكان متوقعا ألا ينسى التونسيون ذلك، فلا يبالون اليوم باعتقال أولئك الساسة الذين خانوا العهد ولا بمصيرهم. وإن أي تونسي مخلص نبيه لا يعتمل اليوم في خاطره إلا الحرص على المحاكمة القانونية العادلة.
3/غرباء الديار:
من أخطاء هذه الحركة التي لا تُحصى، أنها حرصت على أن تعيد صياغة الدولة والمجتمع . ولئن وجدت بعض السبيل إلى الدولة، فإنها لم تجده إلى المجتمع . والحصيلة أنها قد فصلت عن المجتمع التونسي نفسها وجمهورها فصلا ترتب على حرصها على الإغارة السياسية والثقافية عليه. وبالتدريج، صار هذا التنظيم، حتى وهو يحكم، كيانا منفصلا عن المجتمع، محاطا ببطانة من أتباعه، غريبا عن عموم المواطنين الذين صاروا يجاهرون باليأس منه، وخيبة الأمل فيه، والكره السياسي له. فأنّى لهذا التنظيم أن يجد اليوم سندا شعبياا! .
لا بل إن قسما من الإعلاميين الذين فوضهم هذا التنظيم للنفاذ إلى المجتمع ،قد نزلوا من السفينة سريعا وركبوا غيرها على عادة من شعارهم” الحي باباهم”، وانخرطوا في شبكات ” أوغلوية”مَرْضيّ عليها اليوم رضاءً ممتدا من الأمس ، وقد يكون للعدالة قول في ذلك.
4/أخطاء التحالفات:
قد يقال: إن إخوان النهضة قد حكموا دوما بشركاء يُموّهون بهم، وكانت لهم معهم مصالح ومنافع. فأين هؤلاء! ألا يسندون أولياء نِعَمهم ولو بالحد الأدنى!
إنّ صمت من كانوا في ركاب الإخوان من الأخزاب هو حصيلة لا مفر منها للرّوح التي حَكَمت تعامل الإخوان مع الأحزاب السياسية التي منحوها هوامش من الحكم زائفة عارضة. فقد اختار الإخوان حثالة الساسة والأحزاب واحتالوا على من قبلوا الإختراق والإتباع. وكانوا في كل منعرج يلتهمون الشريك ويمرّون إلى غيره وهم يتلمّظُون ويشحذون الأسنان. ولئن ذهب هؤلاء الشركاء طعاما للإخوان ، فإن أطلالهم لا تجد القدرة ولا الوجاهة ولا الحافز لتنطق بكلمة إسناد للقابعين في السجون؛ مجرد كلمة.
5/خطة الفضح:
ضمن النسيج الحزبي، مارس هذه الخطة الحزب الدستوري الحر الذي كان له دور أكيد في الأسباب التي ادت تباعا إلى أن يقبع اليوم قادة الإخوان في السجن. فقد أدرك هذا الحزب أن التآمر الذي كانت تمارسه حركة الإخوان لم يكن يصل بسلاسة إلى عموم التونسيين وباكتمال. فضغط هذا الحزب بخطة الفضح والكشف ضغطا متصلا صبورا، فكان أن أزاح بذلك عن الإخوان وعن شيخهم وعن حلفائهم في الحكومة وفي البرلمان آخر أوراق التخفّي، وعلم من لم يعلم ، وأزورّ عنهم العموم إلى حد الاستحسان الانفعالي الجمعي لمصيرهم الراهن بدل المناصرة، ولو المبدئية، لإجراءات اعتقال سليمة. ثم إن إصرار هذا الحزب على الكشف والوضح، قد أوجع وقتئذ الإخوان وشيخهم وشركاءهم، فكان أن واجهوا هذا الحزب بأصل معدنهم البائس ، فزاد ذلك في إظهار صورتهم الحقيقية التي لا تليق البتة بتونس شعبا ودولة ومجتمعا وساسةً ومصالحَ قومية .
إن كل أشباح النهب الإخواني والإرهاب والإغتيال والتسفير إلى أوكار القتل وتخريب الأوطان إنما تستيقظ اليوم في الوجدان الجمعي، فلا يحرك إزاء سجن هؤلا جفنا.
لكن السؤال الأوكد اليوم هو هل في اعتقال هؤلاء عدالة مجتمع أو تصفية حساب سياسية عارضة بعد اشتباك بين أجنحة الأسرة السياسية والثقافية الواحدة؟ وهل يقضي السجن على فكرة سياسية، لا سيما إذا لوّنت بؤسها بالمشترك الديني؟. أليس التنوير الفكري والسياسي والثقافي هو اليوم منهج أكيد؟ ألم تفد علينا في 2011 الفكرة الإخوانية بعد أكثر من عقدين من التخفي عن العيان ومن السجن ؟ ألم يستعد طالبان في أفغانستان الحكمَ بعد عشرين سنة؟!.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 12 سبتمبر 2023