الشارع المغاربي: كان من المنتظر أن يؤدي وفد عن صندوق النقد الدولي زيارة الى بلادنا ما بين 5 و17 ديسمبر الجاري للقيام بمراجعة لأداء الاقتصاد التونسي والنظر في أخر التطورات الاقتصادية والمالية في تونس وإعداد تقرير في ذلك في إطار المادة الرابعة من قانون الأساسي للصندوق. وعادة ما يسمى هذا التقرير بـ”تقرير المهمة الاستشارية في إطار المادة الرابعة من القانون الأساسي للصندوق”.
وقد كان مسؤول الصندوق في شمال افريقيا والشرق الأوسط واسيا الوسطى والقوقاز جهاد أزعور صرح في ندوة صحفية على هامش الاجتماعات السنوية للصندوق والبنك العالمي في مراكش من 9 الى 15 أكتوبر الماضي أن “التعاون بين تونس والصندوق متواصل” مضيفا ان برنامج الإصلاحات المقدم من طرف الحكومة التونسية والذي كان تونسيا بحتا هو فخر لها” لكنه أشار في نفس الوقت الى “تونس لا تزال في حاجة الى مزيد تشديد سياساتها النقدية لاحتواء التضخم” وختم حديثة بالقول إن”وفدا للصندوق سيزور تونس قبل نهاية العام”.
في نفس الاتجاه وبذات المناسبة “زف” محافظ البنك المركزي التونسي هذه البشرى الى تونس وكل التونسيين معتبرا أن هذه الزيارة تمثل علامة إيجابية في العلاقة بين تونس والصندوق بما معناه أن هذا الأخير، أي الصندوق، راض على تونس ومازال هناك امل في تجسيم الاتفاق التقني بخصوص القرض الممدد بقيمة 1.9 مليار دولار على أربع سنوات وفي أن يجد طريقه الى التنفيذ.
الجديد هو أن الوفد المنتظر حلوله بيننا هذه الأيام قرر تأجيل الزيارة الى أجل غير مسمى دون أن يفصح عن الأسباب الكامنة وراء هذا القرار. وقد ذهب البعض الى تفسير ذلك بأن تونس بصدد النظر في الميزانية الجديدة وقد يكون الوفد خير تأجيل المجيء الى ما بعد المصادقة على الميزانية أي عسى أن تتضح له الرؤية من ناحية التوجهات الاقتصادية والمالية التي ستسير فيها البلاد وخصوصا ما يتعلق بـ”الإصلاحات الكبرى” وبعض الإجراءات الجبائية التي أوصى بها الصندوق من قبل. وتجدر الإشارة هنا الى ما صرح به محافظ البنك المركزي لوكالة تونس افريقيا للأنباء على هامش اجتماعات مراكش المشار اليها حيث قال “الإصلاحات التي تمت مناقشتها مع الصندوق وقع تجسيدها وتطبيقها ضمن قانون المالية لسنة 2023 على غرار الترفيع في الأداء على القيمة المضافة للمهن الحرة”.
غير أن مثل هذا التفسير لا يبدو وجيها بما انه سبق لوفود الصندوق ان زارت تونس في مثل هذه المدة من العام في فترات سابقة ولم تشكل نقاشات الميزانية عائقا للزيارة لذلك يتجه الشك الى ان في الامر أسباب أخرى. فالعلاقة بين تونس والصندوق رغم ما يقال من ان “الاتصالات مستمرة” ليست على أحسن ما يرام لا بسبب خلاف حول ما ينص عليه القانون الأساسي للصندوق أو التزامات تونس بها او بخصوص الإصلاحات وإنما بسبب تصريحات قيس سعيد ورفضه التوقيع على اتفاق القرض الممد المذكور. وللتذكير فإن الحكومات التونسية والبنك المركزي كانوا قدموا للصندوق كل التعهدات بتنفيذ التوصيات التي اشترط تطبيقها في سبيل الحصول على المبلغ موضوع التفاوض. ولكن الصندوق كان اشترط الى جانب ذلك توقيع الرئيس التونسي بنفسه على نص اتفاقية القرض بالنظر لتصريحاته التي تداولتها وسائل الاعلام وأخرها التصريح الذي أعلنه في محضر رئيسة الحكومة الإيطالية اليمينية المتطرفة الصائفة الماضية في تونس.
لقد قال “إن الذين يقدمون الوصفات الجاهزة أشبه بالطبيب الذي يكتب وصفة دواء قبل أن يشخص المرض، فالمرض في الطبيب الذي يقدم أدوية لا ترجى منها عافية ولا يتحقق بواسطتها شفاء بل على العكس تماما ستتفجر الأوضاع التي لن تمس بالسلم الاهلية في تونس فحسب بل ستطال آثارها المنطقة كلها دون استثناء”.
لذلك يبدو ان تأجيل الزيارة ناجم عن تعطل العلاقة بين الرئيس قيس سعيد والصندوق ليس بسبب خلاف في التوجهات والخيارات كما سبق قوله وإنما بسبب مثل هذه التصريحات التي ربما رأى فيها الصندوق تطاولا. ويبدو أن التطبيق الذليل للتوصيات والاملاءات المسماة إصلاحات كما جاءت في ميزانية سنة 2023 وكما تجسمت أكثر فأكثر في ميزانية 2024 (التخفيض في نسبة كتلة الأجور من الناتج الداخلي الخام، سد باب الانتداب، التقليص من حجم الدعم، مزيد تشديد بعض الإجراءات الجبائية، “إصلاح” المؤسسات العمومية تحت عنوان إعادة هيكلة رأسمالها الخ…) لم تجد نفعا ولم تغير في موقف الساهرين على الصندوق من قيس سعيد.
في غضون ذلك تستمر مصاعب المالية العمومية في تونس والازمة العامة التي تعصف بالاقتصاد التونسي على أكثر من صعيد وتستمر الحكومة ومنظومة قيس سعيد ككل تخبط خبط عشواء للخروج من هذه الازمة فيما تغرق كل يوم أكثر ومن جراء ذلك تتجه البلاد الى أفاق تنبئ بالإفلاس والانهيار.
بالعودة الى موضوع زيارة وفد صندوق النقد الدولي في إطار المادة الرابعة من قانونه الأساسي يجدر التوقف عند ما ينص عليه هذا الفصل الرابع (أو المادة الرابعة كما جرى عليه الاصطلاح).فمن جملة ما ينص عليه التزامات البلدان الأعضاء وهي أربعة هذا نصها حرفيا:
“1 – السعي لتوجيه سياساته الاقتصادية والمالية المحلية نحو تعزيز النمو الاقتصاديالمنظم بقدر معقول من الاستقرار السعري، مع مراعاة ظروفه الخاصة؛
2 – العمل على دعم الاستقرار بإرساء أوضاع اقتصادية ومالية أساسية منظمة وإقامة نظام اقتصادي لا تترتب عليه اضطرابات عشوائية؛
3 – تجنبا لتلاعب بأسعار الصرف أو النظام النقدي الدولي لمنع إجراء تعديل فعال في ميزان المدفوعات أو لكسب ميزة تنافسية غير عادلة تميزه عن الأعضاءالآخرين؛
4 – انتهاج سياسات الصرف الأجنبي التي تتوافق مع مستوى التعهدات الواردة ضمن أحكام هذا القسم”.
الى جانب ذلك ينص هذا الفصل في الفقرة قبل الأخيرة منه على ما يلي، وهو الإطارالقانوني الذي تأتي فيه هذه الزيارة في صورة وقوعها:
“القسم 3 : الرقابة على ترتيبات الصرف الأجنبي:
أ – يشرف الصندوق على النظام النقدي الدولي لضمان كفاءة عمله، كما يشرف على امتثال كل بلد عضو التزاماته الواردة في القسم 1 من هذه المادة
ب – حتى يتسنى للصندوق أداء وظائفه بموجب الفقرة (أ) أعلاه، فإنه يمارس رقابة صارمة على سياسات أسعار الصرف في البلدان الأعضاء، ويعتمد مبادئ محددة يسترشد بها جميع البلدان الأعضاء فيما يتعلق بهذه السياسات. ويقوم كل عضو بتزويد الصندوق بالمعلومات اللازمة لتلك الرقابة، ويتشاور معه، بناء على طلب الصندوق، بشأن سياسات أسعار الصرف التي ينتهجها. وتتفق المبادئ التي يعتمدها الصندوق مع الترتيبات التعاونية التي تحتفظ بموجبها البلدان الأعضاء بقيمة معينة لعملاتها مقابل عملة أو عملات بلدان أعضاء أخرى، وغيرها من ترتيبات الصرف الأجنبي التي يختارها البلد العضو وتتوافق مع أهداف الصندوق وأحكام القسم 1 من هذه المادة. ويراعى في هذه المبادئ احترام السياسات الاجتماعية والسياسية الداخلية للبلدان الأعضاء، ويحرص الصندوق عند تطبيقها على مراعاة الظروف الخاصة لكل بلد عضو”.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 5 ديسمبر 2023