الشارع المغاربي: في خرق للقانون وتعد على حق دستوي، يعمد عدد من الباعثين العقاريين الى استغلال رغبة مئات التونسيين ان لم يكونوا آلافا في اقتناء مسكن للتحيل عليهم ولهف اموالهم مقابل عقود غير قانونية وأساليب تحيّل مختلفة للتفصي من المسؤولية.
بعض الباعثين العقاريين أضحوا يتصيّدون ضحاياهم بعناية فائقة فارضين عليهم شروطهم ومستغلين نقص الرقابة للتلاعب بالقوانين المنظمة للقطاع. في الاثناء تعمقت مآسي عديد الحرفاء رغم تواتر تشكياتهم على وزارتي الاسكان والعدل والغرفة النقابية للباعثين العقاريين والقضايا المرفوعة ببعض الباعثين العقاريين.
ضحايا بالجملة
سنة 2016 قرر قيس اقتناء شقة من احد الباعثين العقاريين فاتفق مع زوجته على الحصول على تقاسم الاعباء المالية قبل ان يتصل بالباعث ويبرم معه وعدا بالبيع لاقتناء شقة بـ 193 آلف دينار.
قيس أكد لـ “الشارع المغاربي” انه سلم الباعث في جويلية 2017 تسبقة بـ 68 ألف دينار من مجموع 193 الف دينار (ثمن الشقة الجملي) مقابل تعهد الباعث بتسليمه شقة مكونة من 3 غرف وقاعة استقبال ومطبخ وبيت استحمام في اجل اقصاه شهر سبتمبر 2018.
وأضاف: “بعد مرور سنتين على امضاء الوعد بالبيع لم يلتزم الباعث بتعهداته مما دفعني الى مقاضاته والحصول على حكم ابتدائي بالغاء العقد واستعادة مالي. واكتشفت خلال سعيي لاستعادة مالي انني لم أكن المتضرر الوحيد وان حرفاء آخرين كانوا ضحية عملية تحيّل مدبرة من قبل الباعث العقاري فوجهنا في جوان 2020 شكاية الى وزارة العدل”.
وجاء في الشكاية التي حصلت “الشارع المغاربي” على نسخة منها ان 13 حريفا لدى نفس الشركة الحاصلة على ترخيص من وزارة التجهيز لمزاولة نشاط البعث العقاري دفعوا مبلغا جمليا في حدود 1.5 مليون دينار دون أن يحصلوا على شققهم او يتسلموا شهائد ملكيتها.
وأكد المشتكون انهم تعرضون للتحيّل من قبل صاحب شركة البعث العقاري بعد أن امضى معهم على وعود بالبيع طالبين التدخل لانصافهم ومساعدتهم على استعادة اموالهم.
قيس اتهم من ناحيته الباعث العقاري بارتكاب تجاوزات مختلفة في حق الحرفاء مشيرا الى انه تسلم مقابل الشقق من بعض الحرفاء دون تمكينهم من شهائد رفع اليد حتى يتصرفوا في عقاراتهم بالبيع او بالرهن مضيفا انه تأخر في تسليم شقق الى حرفاء آخرين رغم مرور سنوات على امضاء وعد بالبيع وأنه تعمد بيع نفس الشقة لاكثر من مشتر بالنسبة لفئة ثالثة من الحرفاء وماطل في دفع اقساط قرض بنكي كان قد حصل عليه لبناء الاقامة بما عطل تمكين اصحاب الشقق من شهائد ملكية مبرزان الباعث العقاري رفض اعادة اموال بعض الحرفاء رغم صدور احكام قضائية لفائدتهم.
كما اتهم قيس الباعث العقاري بعدم التقيد بالقانون في ابرام الوعد بالبيع لعديد الحرفاء مشددا على انه كان يمتنع عن تسليمهم نسخ من العقود لمراجعتها وعلى انه كان يفرض عليهم الاكتفاء باستشارة محام بعينه تبين في ما بعد انه محامي الشركة.
آخر همهم مصلحة المشترين
“الشارع المغاربي” حصلت على نسخ من 12 وعدا بالبيع وتثبتت في مدى قانونيتها مقارنة بالتزامات الباعث العقاري المنصوص عليها بكراس الشروط المعتمد لممارسة النشاط فتبين وجود عدة اخلالات من شأنها الاضرار بمصالح المشترين.
اللافت في كل عقود الوعد بالبيع انها كانت كلها تصب في خانة حماية حقوق الباعث العقاري على حساب المشترين ولم تتضمن اي تعهد من طرفه لحماية حقوق الحرفاء. ولئن تضمنت وصفا موجزا للعقار موضوع البيع ونصت على الثمن النهائي للبيع وطرق خلاص الشقق وآجال التسليم فقد خلت من ادراج اية فصول تنص على رضوخ الباعث لعقوبات تأخير في صورة عدم ايفائه بالتزاماته في الاجال المنصوص عليها بالعقد ولم تنص على ضمان حسن تنفيذ البناء أو اعادة التسبقات التي دفعها المشتري في صورة تقاعس الباعث عن عمله.
كما لم يتضمن العقد اية إشارة الى ضرورة استعانة الشركة بمهندس معماري او مهندس مستشار او مكتب دراسات او مكتب لمراقبة أشغال البناء.
وكشف تفحص عقود الوعد بالبيع التي امضى عليها صاحب الشركة انه كان يتعمد ادراج معطيات متناقضة في نفس العقد فتراه تارة يشدد على ان المؤسسة بصدد تشييد مركب سكني واخرى يؤكد على ان “المشتري تجول بالشقة وقبلها على الحالة التي هي عليها دون التعبير عن اي احتراز او تحفظ”.
وفي عقد يعود الى سنة 2013 يؤكد الباعث العقاري ان شركته بصدد تشييد مجموعتين سكنيتين على رسم عقاري في أريانة وانه ملتزم بتسليم الشقة للمشتري بعد 6 أشهر فقط ثم يقر في ماي 2013 انه شيد مركبين سكنيين على نفس الرسم العقاري متعهدا بتسليم الشقة المباعة الى الحريف بعد 10 أشهر فقط. والغريب انه يشدد في عقد آخر بتاريخ ماي 2016 على ان شركته بصدد بناء اقامة سكنية بنفس الرسم العقاري الكائن بأريانة بما يؤكد انه كان يواصل ابرام عقود وعد بالبيع موهما حرفاءه تارة ببناء المجمعين السكنيين وأخرى بأن العقار في طور البناء.
الملاحظ أيضا ان الباعث العقاري كان يقر في عقود الوعد بالبيع التي امضاها بين 2013 و2019 على ان المجمعين السكنيين مرهونين لبنك نظير قرض بـ 1.7 مليون دينار بما يؤكد انه لم يكن يدفع اقساط القرض خلال تلك الفترة.
هل يكفي سحب الترخيص؟
افاد قيس ان الباعث كان يداوم على تسلم الاموال من المشترين ثم يتجنب ايداعها في الحساب المتفق عليه مع البنك لخلاص القرض مشيرا الى ان ذلك تسبب في حرمان الحرفاء من الحصول على شهادة رفع اليد.
وأفاد انه وجّه بمعية 12 ضحية شكاية لوزارة التجهيز والاسكان بتاريخ نوفمبر 2018 طالبوا فيها بوضع حد لتجاوزات الباعث العقاري.
وفي 4 أوت 2020 اتخذ وزير التجهيز والاسكان قرارا بسحب ترخيص ممارسة مهنة البعث العقاري من صاحب الشركة حسب وثيقة حصلت عليها ” الشارع المغاربي”.
وأسس الوزير قراره على جملة من الاخلالات المرتكبة من قبل الباعث العقاري من بينها عدم احترام الفصول الخاصة بوعود البيع المبرمة مع المشترين كعدم التنصيص على عقوبات التأخير وعدم تسليم الشقق لاصحابها في الاجال المحددة وعدم استجابة الباعث الى مراسلات الوزارة او حضور جلسات العمل المبرمجة مع الوزارة والبلدية.
ولئن نص الفصل الثاني من قرار سحب الترخيص على ان الإلتزامات المحمولة على الباعث تجاه المتعاقدين معه والمشترين تبقى سارية المفعول الى أن يتم الإيفاء بها فإن جل المشترين لم يستعيدوا الاموال التي دفعوها او يتسلموا شققهم رغم لجوء اغلبهم الى القضاء الى حدود كتابة هذا المقال.
الغريب في ملف الباعث العقاري انه كان بين سنتي 2000 و2022 محل تتبعات قضائية خلصت الى الحكم عليه بـ 18 سنة سجنا في قضايا شيكات بلا رصيد وان اغلب الاحكام صدرت قبل حصوله على ترخيص لممارسة نشاط البعث العقاري رغم ان الفصل الخامس من كراس شروط مزاولة المهنة ينص على ان يكون “الباعث العقاري متمتعا بحقوقه المدنية والسياسية ولم يسبق الحكم عليه جزائيا من أجل أفعال مخلة بالشرف والأمانة”.
تصيّد الحرفاء
نوفل هو متضرر آخر اكد في شهادة أدلى بها لـ “الشارع المغاربي” انه فوجىء بعد اقتناء شقة من شركة للبعث العقاري وابرام عقد الوعد بالبيع في 2014 بمحاولة تسليمه شقة اخرى كائنة بعنوان مختلف عند الامضاء على عقد البيع.
وأبرز المتضرر انه حصل على حكم قضائي بات يقضي بالزام الباعث العقاري بتمكينه من شهادة ملكية في الشقة الاولى لافتا الى انه لم يتسلم الى حد اليوم ما يثبت ملكيته للشقة.
وأضاف “لم يكتف الباعث العقاري بمحاولة اجباري على قبول شقة غير التي اقتنيتها بل سعى الى اثقال كاهلي بدفع 7 آلاف دينار بدعوى مصاريف عدادات الماء والكهرباء ولكني لم ارضخ له واستخرجت من ادارتي “الصوناد” و”الستاغ” ما يثبت ملكيتي العدادات بما جنبني دفع نفقات اضافية.
وتابع “ما لاحظته خلال تعاملي مع شركة البعث العقاري الناشطة بنابل انها كانت تتصيد حرفاءها وتفرض عليهم عقودا مُبهمة قبل ان تعمد الى هرسلتهم عبر عدول تنفيذ لمطالبتهم بدفع اموال اضافية.. لقد تفطنت الى انهم ابرموا عقود وعد بالبيع مع تونسيين مقيمين بالخارج ومواطنين من جنسيات عربية مقابل أسعار باهظة ثم رفضوا تمكينهم من شققهم او تسليمهم شهائد ملكيتها.. ما اعلمه حتى الآن انهم تحيلوا على قرابة 20 شخصا ولم يسلموهم شهائد الملكية”.
نوفل فسّر عدم تمكين المشترين من شهائد الملكية بتعمد صاحب الشركة خلال السنوات الماضية مطالبتهم بدفع اثمان الشقق نقدا او عبر شيكات حتى لا يتم ايداع الاموال في حساب البنك المُقرض لافتا الى ان ذلك تسبب في عدم حصوله على شهادة رفع اليد بما يعني بقاء العقار على ذمة البنك ومنع المشترين من التمتع بملكية الشقق.
واستغرب المتحدث من عدم تحرّك البنوك المقرضة للمطالبة بخلاص القروض التي منحتها لبعض الباعثين العقاريين مشيرا الى استمرار الباعث في بناء الاقامات وامضاء العقود مع المشترين رغم عدم تسوية وضعية شقق تم بيعها منذ 8 سنوات.
وضع اليد على نقابة السكان
ماجد من ناحيته تطرق الى اخلال اخر قال ان شركات بعث عقاري ما فتئت ترتكبه مؤكدا أنه فوجئ بالباعث العقاري يرفض بعد مرور سبع سنوات على اقتناء شقة بأريانة تسليمه شهادة ملكية بدعوى وجود مصاريف اضافية مثقلة على كاهله.
وقال ان الباعث تسلم 98 ألف دينار من المشترين بمعدل الف دينار عن كل واحد منهم بدعوى كلفة تقسيم الاقامة مشيرا الى انه تفطن في ما بعد الى ان كلفة التقسيم لم تتجاوز 20 الف دينار.
كما تفطن الى ان عددا من اعوان الشركة العقارية سيطروا على نقابة السكان معتبرا ذلك تضارب مصالح يتيح لهم الدفاع عن الشركة عوض الدفاع عن مصالح السكان خاصة بعد معاينة وجود عيوب في البناء وحدوث تشققات متفاوتة في العديد من الاماكن.
وأشار ماجد الى انه تم تذكير الشركة في عديد المرات بضرورة تدارك الاخلالات والى انها لم تتحرك لاصلاحها.
وختم بالقول ” في ظل تعنت الباعث العقاري وجهت له اكثر من تنبيه للمطالبة بشهادة ملكية وأرسلت اليه تنبيها اخر للتأكيد على ان التأخير منعني من التصرف في الدار بالبيع او بالرهن”.
اما عادل الذي اقتنى شقة بضاحية برج الوزير من ولاية اريانة فقد عرّج على مشكل الاستلام النهائي للعقار لافتا الى انه تفطن عند تسلم شقته الى وجود عيوب في البناء والى ان ذلك لم يكن حكرا على شقته.
وأكد انه استغل قدوم الباعث العقاري صحبة احد المهندسين لاعلامه بوجود تحفظات على عدة شقق مبينا انه وعد السكان برفعها في اقرب الاجال.
وواصل “انتظرنا عودة الباعث العقاري لرفع الاخلالات فلم يأت ولكننا فوجئنا بالشركة وقد حصلت على شهادة الاستلام النهائي من البلدية رغم كل العيوب التي واجهناها بها. وحاولنا مرارا الاتصال بالباعث فلم يتسن لنا الحصول على اجابة منه بل لاحظنا انه يتجنب التواصل معنا او الاصغاء الى مطالبنا”.
هاتف مخاطبكم مغلق !
ملاك التي تعمل كوسيطة عقارية كشفت بدورها عن وقوعها في اكثر من مناسبة في حرج مع بعض حرفائها بعد ان وجهتهم الى اكثر من باعث عقاري مشددة على ان اغلبهم كان يتحيل على الحرفاء ثم يغيّر عنوان شركته ورقم هاتفه.
ملاك اكدت انها باتت ترفض التعامل مع أي باعث عقاري قبل التثبت في سيرته مع البنوك حتى لا تؤثر سمعتهم السيئة على معاملاتها اليومية مع الحرفاء.
ولفتت الى ان بعض الناشطين في مجال البعث العقاري يبعثون شركات ثم يوقعون بعديد الضحايا ويلهفون اموالهم بالاستعانة ببعض المحامين وحتى موظفين عموميين ثم يعلنون افلاس شركاتهم قبل ان يبعثوا شركات جديدة ويعيدون الكرة مع مشترين اخرين.
“الشارع المغاربي” تمعنت في سيرة بعض الباعثين العقاريين فلاحظت ان بعضهم أسّس اكثر من شركة ناشطة في نفس المجال بما يؤكد كلام الوسيطة العقارية.
وقد سعت الصحيفةاللاتصال بوزارة التجهيز وبعثت بريدا الكترونيا اليها لاستفسارها عن الاجراءات الادارية والقانونية التي اتخذتها لفرض رقابتها على الباعثين العقاريين وعن عدد التراخيص التي تم سحبها في السنوات العشر الاخيرة فلم تتلق اية اجابة الى حدود نشر هذا المقال. كما حاولت “الشارع المغاربي” الاتصال بفهمي شعبان رئيس الغرفة النقابية للباعثين العقاريين فوافق على اجراء حوار معه قبل ان يتجاهل محاولات اتصالاتها الهاتفية به في ما بعد. في الاثناء تحوّل حلم مئات التونسيين بسبب جشع باعثين عقاريين وتحايلهم على القانون الى كابوس لا نهاية له.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ 17 جانفي 2023