الشارع المغاربي: لِمَلف الموقوفين في تهمة “التآمر على أمن الدولة” بعدان رئيسيان؛ البعد الشعبي – أو الشعبوي- والبعد القانوني الذي تخالطه السياسة.
أما البعد الشعبي فذو زوايا ثلاث يحدوها الإنفعال والتسرّع اللذين يختص بهما “العوام” مثلما يرى الجاحظ. الزاوية الأولى أن مَن لا يصفق فرحا بسجن من خرّبوا البلاد ، بأي موجب كان أو بأي إجراء، هو وجوبا من المدافعين عن إخوان النهضة وعن صنائعهم وحلفائهم طيلة العشرية المشؤومة. والزاوية الثانية أن أنصار سعيد، وهم على الجملة من”العوام”، صاروا أشبه بنِحلَة مذهبية تتكون من “مريدين” شعارهم المستَورَد هو “كلنا” يباركون به ما يقرر الرئيس مباركة اتباعية خالصة. والزاوية الثالثة أن التخريب السياسي والإجتماعي والمالي الذي ألحقه الإخوان بالبلاد زرع في خواطر التونسيين حنقا إزاءهم ترجمه “العوام” تشفّيا في المعتقلين منهم انفعاليا فاقدا للإتزان الذي تقتضيه روح العدالة. ونقدّر أن هذا البعد لا يبعث على الخوض فيه إلا من جهة تطويقه وليس هاهنا مجال لذلك.
وأما البعد القانوني والسياسي فالخوض فيه مستوجب. فهو، بوجهَيه، شأن عام يتجاوز ردهات المحاكم. ذلك أن المتهمين معتقلون. وملفاتهم في طور من أطوار المحاكمة. وهم على الجملة ساسة.
وإنّ للمحامين المدافعين عن المتهمين حقا في الخوض في القضية، سواء لأنهم لسان الدفاع المطلع أو لأنهم من ذوي الإختصاص. ويحق أن يكون خوضهم علنيا، لأن للملف جانبا سياسيا أكيدا يتعلق بالشأن العام، لا سيما أن المتهمين هم بالغلبة ساسة كما ذكرنا، وسبق لبعضهم الإضطلاع بمهام رسمية انتخابا أو تعيينا.
يصر لسان الدفاع عن الموقوفين على أن إجراءات اعتقالهم غير سليمة ومخترقة للقواعد القانونية. ويصرون خاصة على ان الشُّبَهَ لا تُجيز الإعتقال، لأن” الملفات فارغة”. وإن القول بـ “فراغ الملفات” في أقوال الدفاع يَجري على عموم المتهمين طورا، وينحاز طورا آخر لمتهمين دون غيرهم. فلئن تجرأ البعض على اعتبار ملف الغنوشي فارغا فإن لا أحد قال بفراغ ملف البشير العكرمي.
لكن الغالب على ما يقول لسان الدفاع أن القضايا مفتعلة وأن ملفاتها تخلو من قرائن الإشتباه و مؤيداته. من ذلك أن المحامي أحمد صواب، وهو قاض سابق في المحكمة الإدارية أظهر للعموم في حوار تلفزي ملف أحد المعتقلين الذي لا يحتوي على أكثر من ورقة وهي عريضة الدعوى.
كما يحاجج لسان الدفاع عن المعتقلين بأنه لم تضبط لدى منوبيهم أدوات إجرام أو وسائل إرهاب أو عناصر إثبات لـ “التآمر على أمن الدولة”، تتعدى مكالمات هاتفية أو إرساليات أو جلسات حوار في الشأن العام أو التعبير المستحق عن مواقف سياسية مناوئة للسلطة .
ويرد لسانُ الدفاع على تهمة “التخابر مع أطراف أجنبية” بشهادات ممثلي البعثات الدبلوماسية في تونس الذين مثّل التواصلُ معهم موضوع تلك التهمة. ففي شهاداتهم ينكرون ان يكون المتهمون قد تآمروا معهم على أمن الدولة التونسية بأية صيغة كانت. ولئن كان هذا الإنكار متوقعا في كل الأحوال سياسيا وبروتوكوليا، فإنه منح لسان الدفاع امتياز استعماله استعمالا قانونيا.
إن خلاصة ما يصرّ عليه لسان الدفاع عن المعتقلين هو أن القضايا مفتعلة، وأن الملفات خاوية من مؤيدات الاشتباه، وأن محركها هو الهاجس السياسي لدى السلطة، بدليل أن رأسها قد نطق بالأحكام الباتة قبل أن ينطق بها القضاءُ، وأنه جرّم القضاة الذين لا يجرّمون المعتقلين. لكن الخطاب الصادر عن لسان الدفاع خارج أروقة المحاكم هو خطاب متوقع. فمصدره هيئة محاماة تدافع عن موكليها، رغم أن من أعضاء الهيئة ساسة موصولون حزبيا وتنظيميا ببعض المعتقلين.
لكن الشيء الذي يبدو مستجدا ولافتا للنظر إنما ما جاء في عريضة وقّع عليها 52 أستاذا في القانون الدستوري والعلوم السياسية والقانونية والتصرف. فهلاء هم على الجملة من زملاء سعيد في المهنة وفي الإختصاص. وهُمْ، على مقتضى منازلهم المعرفية، مؤهلون اختصاصيا للنظر في ملف أولئك المعتقلين تأهيلا يجري به رأيهم المشترك مجري الحجة. وما يزيد من حجية رأيهم هو اجتماعهم على رأي رجل واحد، رغم ما بينهم من تمايز وتباعد من جهة الأمزجة الفكرية والثقافية والسياسية. وليس أدل على ذلك مِن أن تضمّ العريضة إمضاء نذير بن عمو” المحافظ جدا” وسناء ابن عاشور “المنفتحة جدا”.
ومما جاء في العريضة أن المعتقلين “موقفون سياسيون”، وأنه حفت بإيقافهم مداهمات بلا أذون، وأن التعلل في ذلك بقانون الإرهاب باطل، لأنّ” قوانين الإرهاب قوانين خاصة”، ولا وجاهة في أن تجري على قضية الحال. ذلك أن قرائن الإتهام المفترضة أو عناصره ليست أدوات إجرام أو مخططات إرهاب وإنما هي مدونات وإرساليات في حواسيب وهواتف لا تمثل خطرا على الدولة أو على الأمن العام. كما جاء في العريضة رفضُ أصحابها “الصمت الرسمي” تجاه هذه القضية، والحال أنها قضية رأي عام يحقّ للكافة متابعتُها ومعرفة دقائقها.
ولعل مركز الثقل في هذه العريضة هو أن أصحابها طالبوا فيها “بالإفراج الفوري والشامل عن الجميع”. وإن لهذه المطالبة دلالة على أن أصحابها يرون تلك الإعتقالات في غير محلها القانوني. وإذ يوجّهون مطالبتهم تلك إلى رأس سلطة التنفيذ، فإنهم يُضمِرون أن القضية سياسية خالصة، وأن القول الفصل فيها ليس للقضاء وإنما لرأس الحكم ، وهذا ما ينسجم مع تصنيفهم المعتقلين “موقوفين سياسيين”.
إلى هذا الحد لا يختلف رأي أصحاب العريضة عن رأي لسان الدفاع. فإذا كان لسان الدفاع محكوما بواجب الدفاع عن موكليه، وبالرابطة السياسية لدى بعضه، فإن رأي هؤلاء الأساتذة محمول على الحياد وعلى روح القانون وعلى أهلية النفاذ إلى أنّ الوجه القانوني في هذا الملف نسخه الوجه السياسي منها.
ثم إن الملفت للنظر في نص العريضة أنها لم تتضمن أي إيماء إلى تبرئة المتهمين أو إلى إدانتهم. فلعل أصحابها ليسوا منفصلين عن الرائج الذي يرجح” إدانة” بعض المعتقلين على الأقل. والمرجح أن أصحاب العريضة ليسوا بالغافلين عن العداء السياسي الغالب على التونسيين إزاء إخوان النهضة الذين حكموا البلاد فأفسدوا، والذين علية قادتهم ضمن المعتقلين . لا بل إنّ مِن الممضين على العريضة مَن لم يخفوا يوما مخالفتهم السياسية الصريحة للإخوان منهجا وممارسة وفكرا. لكن هؤلاء الأساتذة إنما قادهم في تلك العريضة الإنتصار للقانون ورفضهم أن يطوّعه الحاكم لاستبعاد معارضيه من مشهد معارضته. وإذا كان رأس السلطة يعلم”حقيقة التآمر”ولا يقدر على إظهار حججها لسبب غير معلوم أو معلوم، فإن ذلك لا يبرر له، حسب المضمّن في روح العريضة، أن يدوس على ما يقتضي القانون من سلامة الإجراءات، ومن اعتماد المؤيدات ، ومن إطلاع الرأي العام على ملف ذي صبغة عامة. ولعل المعجم السياسي الوارد في العريضة لا يفيد بأن دافعها سياسي. لعله يفيد بأن ملف المتهمين سياسي خالص، ويندرج في سياق صراع بين حاكم ومعارضين له كان أغلبهم شركاء له، ولعل قاعهم مازال كذلك بطريقة أو بأخرى. وأخيرا ألا يضمر أصحاب هذه العريضة أن” التآمر” المفترض هو على أمن سعيد رئيسا وليس على أمن الدولة؟ لا ندري على وجه التحديد. لكن الأكيد أن هذه العريضة هي شهادة شهود عليه من زملائه.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 13 جوان 2023