الشارع المغاربي: دأب رأس السلطة”سعيد” على أن يقوم الليلَ والناسُ نيام على عادة المُتهجّدين. لكنّ قيامَه ليس للتّهجد وإنما لإصدار المراسيم والقرارات والتّعيينات ، ولتفقّد أحوال”الرعية” النائمة. فقَبل نحو أسبوعين، أعفى في منتصف الليل رئيسة الحكومة” نجلاء بودن”، وعيّن مكانها ”أحمد الحشاني” تعيينا اتصل به أبداؤه القَسَمَ اللّيليّ.
1/ في مراسم الإعفاء والتعيين:
جاء الإعفاء والتعيين خاليَين من المراسم الرائجة. فقد كان مُستَوجبا أو مُستَحسنا أن يؤصّل سعيد الإعفاءَ والتعيينَ تأصيلا دستوريا. وكان مستوجبا أو مستحسنا أن يحفّ بالإعفاء والتعيين بيانٌ رئاسيّ مجمل لدواعيهما، يتضمّن مجاملة شاكرة للمعفاة، و تنصيصًا على مقاييس تعيين الحشاني دون سواه. وقد كان مستوحبا أو مستحسنا أن يتوجّه المعفاةُ والمعيّنُ بكلمتين إلى الشعب التونسي. فهُما، ورأسَ السلطة، خدم له مفترضون.
من كلّ ذلك خلَت المراسم خُلوّا متوقعا من رأس السلطة الذي يرى نفسه متعاليا على مجاملة مَن يعملون تحت إمامته، وعلى حق المواطنين في معرفة ما يُصدِر وما يُقرر. فلعله يرى نفسه المخول الوحيد للكلام والبيان، ويرى وجوب أن تخفض له كلُّ طبقة “حُكمه”جناحَ الصمت والسمع والطاعة.
2/ في سيرة الحشاني الشخصية:
بيانُ ما وَرَدَ في عدد من جريدة “لوموند”الفرنسية صادر من أيام، وما ورد في سائر الوسائل والوسائط الإعلامية، أن أحمد الحشاني من مواليد 1955، حاصل على الإجازة في القانون سنة 1983، وتقاعد سنة 2019 بعد مسار مهني في البنك المركزي التونسي، مسك أثناءه الموارد البشرية. ووالده هو المرحوم “صالح الحشاني” الذي اشتغل عسكريا في الجيش التوتسي، وحُكم عليه بالإعدام في محاولة الإنقلاب على بورقيبة التي قادها سنة1962 الأزهر الشرايطي. ووالدته فرنسية الأصل والجنسية. وشقيقه الأكبر فرنسي متقاعد بعد اشتغاله ضابطا في الجيش الفرنسي. وجدته من والده تنحدر من إحدى حلقات البايات الحسينِيين، وهي حلقة علي باي، سيء الذكرى في المخيال الشعبي التونسي.
فالحشاني ، فضلا على محمولات مصير والده، هو مَزيج “شخصي” من العسكرية، والإنكشارية، والحسينية التركية، والفرنسية، وأوساط “الأرستقراطية البلدية”. فهل اختاره “سعيد” الولوع”بشعب الأعماق” بعبارته لأنه ابن ذاك شعب، ولأنّه من سُلالة “الإتفجار الثوري” الشعبي الذي جعل له “سعيد” سيدي بوزيد عاصمة له؟! لا نعلم، إلا إذا كان “أحمد الحشاني” قد انحَدَر مِن أحراش”أولاد حفوز”.
وقد لا تكون هذه العناصر الذاتية حاسمة في وَسمِ شخصيته مواطنا تونسيا. فهي قابلة للإنصهار في تونسيته مثلما انصهرت فيها عناصرُ عامة الشعب التونسي على تنوع روافدها.
ثم إنّ هذه العناصر، على عمق اتّصالها بأعماق الرجل ، قد لا تكون طابعةً بِلَونِها مزاجَه “السياسي” سواء في حال سكونه أو في حال حركته. لكن هذا الإحتمال إنما يُقيِّدُه شرطٌ رئيس. هذا الشرط هو أن يكون ذا وجهٍ سياسيّ يُقاس به ويَنقاسُ عليه قياسا يظهر تونسية سياسية متحررة من نلكم الأثقال الشخصية والرواسب الذاتية. فهي أثقال حاسمة ورواسب مَكِينَة لا يقدر على التعالي عليها تعاليا سياسيا إلا مَن عَلاَ كعبُ تَسيُّسِه بالتحصيل الفكري العميق، والممارسة المبكرة، والنشاط المتصل. ففي هذه الحال يتشكل مزاجه الفكري ونهجه السياسي ورؤيته الثقافية تشكلا متعاليا على تلك الأثقال والرواسب . فهل في “سيرته الساسية” قَدْر من ذلك؟
3/ في”سيرة” الحشّاني السياسية:
لا سيرة سياسية له على الإطلاق .هو، مِن هذه الزاوية، نسي منسيّ، ولا يُعرف له نشاط ولا فعل ولا كتابة تتعدى ما يدوّن في صفحته في شبكة التواصل الإجتماعي التي قبض المتابعون مبكرا على مَا فيها. وإنّ ما فيها، بما هو إفضاء تلقائي، هو مرآة لدواخله.
تُظهر صفحتُه أنّ فراغه الفكري وخواءه السياسي قد أعجزاه عن التعالي على أثقال تلك العناصر الحاسمة في سيرته الشخصية. فبعض خواطره السياسية العامة الممزوجة بالنّكت هي صدى جليّ مباشر لتلك العناصر. وهو صدى نفسيُّ المَلمَحِ لا سِياسيُّه. وقد يضع ذلك في ميزان الشك توازنَه في تصريف الشأن العام، وفي تمثّله لِعقد الدولة التونسية، ولرموزها ونظامها الجمهوري.
فمِن عداء والده السابق لبورقيبة ورث عداءه له إرثا يتلبّس بِه. وامتدّ هذا العداءُ إلى نظامها الجمهوري، فإذا به يدافع عن وجوب أن تسود تونس ملكية برلمانية. ومِن مُنحَدره الإنكشاري “البَايَوِي” كشف عن حنين إلى”بايَوِيَّة برلمانية” قد يكون منسوجا من سيرة “جدّه” “باي الأمحال”، سيء الذكرى كما قلنا.
لم يختر أحمد الحشاني أصوله العائلية القريبة والبعيدة، ولا ذنب له فيها ولا دور. ولم يختر أن ينتسب اليوم إلى”بلدية العاصمة”.و ليس مطالبا بأن ينسى تلك الأصول. لا بل يحق له، مواطنا فردا، أن يحن إليها، أو أن يعتزّ بها، أو أن يحمِل خاطرُه ما شاء من أصدائها، أو من مآثرها، أو من أوجاعها. ويحق له ، بالقدر نفسه، أن يحلم بإستثناف عهد البايات، أو أن يدعوَ إلى الملكية البرلمانية نظاما نقيضا لنظام الدولة التونسية الجمهوري، أو أن يعاديَ رموزها المؤسسين الذين في صدارتهم الزعيم بورقيبة.
لكن العجيب الغريب أنّ هذا الذي يعادي البورقيبيةَ والدولة الوطنية ونظامها الجمهوري، والذي لم يُظهر تعاليا سياسيا ونفسيا على عداء أصوله العائلية لها، والذي بقي فيه حياّ ذاك المزيجُ من البابوية الإنكشارية والفرنسية، العجيب أنه صار رئيسا لحكومة الدولة التونسية على أيام نظامها الجمهوري الذي صار اليوم اسما بلا معنى، تلك الدولة التي تفانى في تأسيس نظامها مؤسسون أفذاذ.
فأين الحشاني من النظام الجمهوري وهو المتوازن على انكشارية الأب وفرنسية الأم؟ فلعل سيرة علي باي هي مرجع توازنه في ما يدعو إليه في”صفحته”. ثم هل المكوّن الفرنسي فيه هو ما حفّز سعيد على اختياره له عسى أن يَزيَنَّ به وجهُه في أعين دولة ما؟ أو هل في نقمة المعين على بورقيبة وفي”استقباحه لزمنه الجميل”، بما هو مشترك بينه وبين سعيد، ما حثّ على ذلك التعيين؟. ذلك أن سعيد قد أشهر هذه الأيام عداءه المغالي للبورقيبية و”لِزَمنها”و لتعبيرها السياسي الدستوري سواء المنتظم منه حزبيا أو غير المنتظم. فهل يستبطن هذا العداء هاجسا لدى سعيد انتخابيا حثّه على أن يختار على رأس الحكومة شريكا له في ذاك العداء ملائما للمرحلة؟ وإذا صح ذلك فقد صحّ أنّ مقياس الإختيار هو الزمن الإنتخابي وليس الزمنَ الإقتصاديَّ والماليّ الضَّنَكَ؟. هذه أسئلة لا نعلم لها أجوبة أكيدة، لكننا نطرحها ببراءة الأطفال في قلمنا.
4/ في احتمالات التّوفّق في الإختيار:
لا جدال في أن الأزمة المالية والإقتصادية هي اليوم رأس الأزمات على حدة غيرها وتأكدها. ولعل الأصل أن تتحكم هذه الأزمة في اختيار من يمسك الحكومة. ولا يبدو أن أحمد الحشاني مرشح للفوز على تلك الأزمة. فهو خريج قانون ومسَك في البنك المركزي التونسي قسم الموارد البشرية. فهو دراسةً ومسارا مهنيا، ليس بذي صلة بالاقتصاد والمالية .
وقد لا يكون ذلك حاسما في “أمية” الرجل المالية والإقتصادية إذا كان ذا محمول سياسي وفكري، ودربة وماض من النشاط سيايَين يحصّل بهما سعة أفق يتدارك بها على اختصاصه الدراسي والمهني. ذلك أن سعة الأفق السياسية تمكّن صاحبها من الأخذ من كل شيء بطرف ونَسجِه في رؤية متلائمة العناصر.
لكن افتقار الحشاني إلى تلك الرؤية إنما يجعله ذا “أمية” مزدوجة يكون بها غير مرشح لمنازلة المعضلات الراهنة الحادة. ولعل مقاييس اختياره التي حكّمها سعيد ، فضلا على عداء البورقيبية، هي تلك الأمية المزدوجة التي يضمن بها انطفاءه السياسي وصمت لسانه على شاكلة سابقته “بودن”. فلعل المقياس، من هذه الزاوية، هو واحد وهو هيمنة رأس السلطة على كل شيء بما في ذلك الخطاب الرسمي، وهذا بعض ما دفع جريدة “لوموند” المشار إليها سابقا إلى ان تتعجب من رئيس حكومة مصاب بالصمت.
وفي كل الأحوال، هذه مجرد ترجيحات متشائمة تشاؤما غير اعتباطي لا محالة. لكنْ مَن يدري؟!. فقد يُكذّب الحشاني ما نرجّح وينجح أيما نجاح في السيطرة على مصائب تونس الجسيمة. وهذا ما نتمناه
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 15 أوت 2023