الشارع المغاربي: ”الشخصية المهنية” مصطلح يتقاطع فيه مبحثا الفلسفة وعلم النفس. وبيانه، باختصار مُخِلّ، أن الفرد الذي يمارس مهنة مّا بصفة متصلة، إنما تكون لها بصمة على شخصيته وعلى مزاجه. وهي بصمة تتخذ بالتراكم محلُا لها فيهما اتخاذا غير واع غالبا. وإذا قسنا على ذلك رئيس تونس اليوم جاز أن نرصده رئيسا اليوم وأستاذ قانون قبل ذلك. ولا عجب في أن نتوقع انطباع شخصيته رئيسا بعناصر مهنته الأصلية مدرسا للقانون. وهو انطباع جائز متى رشَّده الإعتدال والرقابة الذاتية التي لا تُخضِع اللاحقَ للسابق، لاسيما في المجال العام الذي هو شأن الكافة من المواطنين وليس شأن مزاج فردي خاص.
/ 1المدرس وليس القانوني:
لعل ما يبعث غلى التعجب هو أنّ “شخصية سعيد السياسية” قد انطبعت ، في غُلوّ، بمهنة التدريس، لكنها لم تنطبع، ولو باعتدال، باختصاص التدريس. وإن الأصل هو أن تستوعب مقتضيات المنصب الرئاسي رواسب اشخصية المهنية الأصلية استيعابا غالبا قد يجيز منها الهامش القليل الذي يصعب نسخُه.
من مظاهر هيمنة المدرس على الرئيس لدى سعيد أنه يصرّ على أن يتكلم ويصرّ على ألاَ ينصت. وأنه يخاطب جُلُاسه الرسميون من موقع المدرس، ويجري عليهم موقع الدارسين عليه. ومن ذلك أن استطرادات المدرّس الجائزة، والتي لا تبعات لها، إنما تلازم سعيد رئيسا، فيسقط في عثرات خطابية لا يسمح بها المنصب الرئاسي، فَيَنجَبِرَ على إصلاحها. وقد يكون في إصلاحها إظهارها، لأنّ للإصلاح بدوره مراسمَ رئاسية يفسدها سعيد بخَطَابة المدرس. ومن ذلك أن “سلطة المدرس المعرفية ” إذا جاز الإستئناسُ “بميشال فوكو”، قد ذوّبت في محلولها مقتضيات الرئاسة. ذلك أن الدارسين لا ينازعون مدرّسهم في تلك السلطة المعرفية وإن جادلوه جدالا يسمح به، ولا ينافسون منزلته بمنازلهم، ولا يشاركوه أهليته لاختبارهم وتقويهم بما يسند إليهم من الأعداد.
تبدو هذه العلاقة العمودية المدرسية قد طبعت علاقة سعيد رئيسا بعموم التونسيين وبالمجتمع السياسي والاقتصادي الخ…. فلا علم لهم جميعا بخلاف علمه، ولا قرار بخلاف قراره، ولا قول يشق قوله، ولا سلطة بخلاف سلطته على الكافة، ولا نظام عيش لشعب تونس بخلاف ما يرسم له، وعلى الكل أن يتعلم عليه صامتا، صاغرا، مطيعا. ومن يمرق على ذلك قد يغادر قاعة الدرس إلى السجن الذي يبدو انه ماسك بجل مفاتيحه ا. وقد زاد على احتكار المعرفة باحتكار النقاء. فهو النقي، النظيف، العفيف، ومن لا يتجانس مع رؤاه فاسد ، خائن، مفسود.
لكنّ القانونيَّ في شخصية سعيد قد انقطع حبلُ اتّصاله به رئيسا، حتى كأنه ، من فرط الاجتهادات القانونية، قد جاء الرئاسة مِن رياضة الجمباز. وقد تجلّى ذلك في كامل مسار الخامس والعشرين من جويلية 2021 ، ابتداء من لَيِّ رقبة الفصل 80 من الدستور السابق وإنطاقه بما لم يقل قط، ومن استثمار ما صنع غيرُه لإزاحة حكمُ إخوان النهضة و”برلمانُ شيخهم”، ومرورا بالإنثناء على من عَهَد إليهم إعداد مشروع دستور، وبالقفز بين فصول الدستور السابق بقدم في فصل وأخرى في آخر، فاستراح عالقدمين في الفصل المريح، وباستشارةٍ واستفتاء وانتخابات جرت تباعا حلقات تشبه المساخر، وصولا إلى مرحلة الحكم الفردي المطلق الذي لا تسنده أية شرعية قانونية ، بما في ذلك شرعية القوانين التي سنها هو نفسه.
2/ هل هي مرحلة الإختراق الصريح؟ :
يبدو أن سعيد قد رأى أن كل أجهزة السلطة وكل مؤسسات الدولة قد أضحت طوع بنانه. والراجح أنه استحسن هذه الحال واستمرأ طعمها. فقد كف عن الإنثناء على القوانين، وصار اليوم اختراقُها الصريح متاحا، مستساغا، لا سيما أن كل السلطات المضادة أو الرقيبة لا أثر لها ولا أدوار. صار ذلك الإختراق الصريح غير قليل في هياكل القرار.
فلما قضت المحكمة الإدارية بإرجاع القضاة المعزولين إلى مهنهم، ضرب سعيد بالحكم القضائي عرض الحائط، وذهب بعض القضاة بذنوب البعض، إذا سلمنا بالتهم الرائجه عن بعضهم والتي قد يصعب إنكارها أو تبرئة المتهمين بها منها. لكن الأصل هو في مشكل أن ترفض السلطة التنفيذية أن يعلوَ القانون وأن ترفض أن تعترض عليه بالوسائل القانونية.
ثم إن التعيين الأخير على رأس الإذاعة الوطنية، والذي به صارت” هندة بن علية غريبي” رئيسا لها مديرا عاما هو تعيين لم تتبع فيه الحكومة مقتضيات القانون. فقد اعترضت على هذا التعيين هيئة القطاع السمعي البصري” الهايكا”. وحجتها أن القانون الأساسي عدد 16 المتعلق بتنظيم القطاع ينص في فصله 19 على وجوب “استشارة الهايكا”في كل تعيين على رأس مؤسسة سمعية بصرية عمومية. وجاء التعيين بخلاف منطوق النص القانوني، مما دفع “الهايكا” إلى أن ترفع قضية لدى المحكمة الإدارية، وإلى أن تدعوَ الإعلاميين إلى الدفاع عن استقلاليتهم، وإلى اعتبار ذلك التعيين الأحادي المخالف للقانون هو من قبيل الحرص الرسمي على إعلام عمومي تابع للسلطة.
ولا يختلف هذا الإختراق للقانون الذي شهد به المعنيون به عما جرى في النظام الداخلي للبرلمان التونسي. فقد نظرت فيه”الجمعية التونسية للقانون الدستوري”في ندوة لها ، وارتأى المتدخلون أنه نظام” غير متناسق، كثير الهنات، ويتضارب مع الدستور”شكلا ومضمونا. كما رأوا أنه مُصاغ “بمعجمية قانونية متنافرة” وأن فصوله يضارب بعضها بعضا ولا تنسجم مع منطوق الدستور القانوني. وقد حصر أستاذ القانون الدستوري” عبد الرزاق المختار” الخلل الذي في ذلك النظام الداخلي في التقاء ثلاثة مكونات في نص واحد ، والحال أنها لا تلتقي فيه ، وهي النظام الداخلي نفسه، والتدابير الاستثنائية ، ومدونة السلوك. وخلص إلى أن ذاك النظام “غير مهيكل” وغير دستوري. ثم إنه قد أعفى النواب من التصريح بمكاسبهم أمام “الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد”المغلقة. وقد رأى في هذا السياق”أمين الخراط”عضو منظمة “بوصلة” أن النواب كان بإمكانهم أن يطلبوا بصفة رسمية فتح مقر الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ليقوموا لديها “بواجب التصريح بمكاسبهم”. لكن يبدو أن اختراق القانون، حتى في مؤسسة البرلمان، صار متاحا في الهياكل الرسمية.
كما ارتأى الأستاذ نفسه في ذلك النظام اختراقا آخر للقانون ، والدستور على وجه التحديد، وذلك من جهة أنه يخول لمجلس نواب الشعب أن يقوم بمهام المجلس الوطني للجهات والأقاليم.
ورأى”يوسف عبيد” أستاذ ” القانون البرلماني”، كما جاء في بعض المواقع، أن ذاك النظام الداخلي يُخل بإحدى البديهيات السياسية والقانونية بتَغييبه لدور المعارضة في البرلمان، وهذا ما قد يقتضي أن يستنبط المجتمع السياسي الفاعل صيغة من الصيغ التي بها تُوجَد معارضة للبرلمان ورقابة له ولو من خارجه. ورأى الأستاذُ نفسُه المخالفةَ القانونية نفسها من حيث قيام البرمان الراهن بمهام مجلس الأقاليم”القادم”، فضلا على إهمال النظام المحدد للعلاقة بين الغرفتين من جهة، وبين”السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية” من جهة ثانية.
ثم إن مظهر اختراق القانون الأفدح إنما يكمن في انتفاء إمكانية الطعن في دستورية أي مشروع قانون تعرضه الرئاسة أو الحكومة، أو إمكانية معارضته نظرا إلى غياب الصوت المعارض في هذا البرلمان العجيب. وفوق ذلك ، لم يعرض هذا النظام على أية هيئة دستورية أو محكمة للنظر في مدى دستوريته. فهو بناء شاهقُ الفوضوية” رعواني”. وإنّ من مكملات هذه الرعوانية وتلك الفوضوية أن منحة النواب لم تعرض على الجلسة العامة ، على رأي القاضي السابق في المحكمة الدستورية أحمد صواب. وإن في ذلك إخلالا بالشفافية بما هي إلزام قانوني شامل. فعل هو زمن اختراق القانون في دولة يرأسها أستاذ قانون؟.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 6 جوان 2023