الشارع المغاربي – وأفلست الدولة التونسية / دراسة لخمسة خبراء في الاقتصاد

وأفلست الدولة التونسية / دراسة لخمسة خبراء في الاقتصاد

قسم الأخبار

4 نوفمبر، 2020

الشارع المغاربي: دراسة من اعداد: جمال الدين العويديدي.مختص في الاقتصاد والتنمية -جنات بن عبد الله صحافية مختصة في الاقتصاد- أحمد بن مصطفى – دبلوماسي وسفير سابق -عبد الجليل البدوي . أستاذ جامعي دكتور في الاقتصاد-محمد شوقي عبيد مهندس ومختص في الاقتصاد.

كشف رفض البنك المركزي تمويل ميزانية الدولة في إطار مشروع قانون المالية التعديلي لسنة 2020 انعدام هامش التحرك لحكومة المشيشي لتعبئة موارد خزينة الدولة لتغطية النفقات العمومية للأشهر المتبقية من السنة الجارية. ولئن تأثر الاقتصاد التونسي مثل بقية الاقتصادات العالمية بجائحة كورونا، فقد كشفت هذه الأخيرة عن حقيقة هشاشة اقتصادنا الوطني، كما ساهمت في تعميق الازمة المالية وسرّعت في انهيار جميع المؤشرات المالية والاقتصادية والاجتماعية بما قلص من إمكانيات الدولة في اللجوء الى الاقتراض الداخلي والخارجي.

الخطاب الرسمي حرص على الاختفاء وراء جائحة كورونا لتغطية فشل الخيارات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والنقدية التي تستند الى مرجعية وصفات صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي التي عطلت المسيرة التنموية الوطنية منذ عدة عقود.

فقد أدت سياسة التقشف التي تقوم على النظرية الليبرالية وتتجسد من خلال تخلي الدولة عن دورها الاقتصادي عبر تقليص الاعتمادات الموجهة الى الباب الثاني من ميزانية الدولة المتمثلة في ميزانية التنمية التي كانت تمثل 45 بالمائة خلال المخطط الرابع للتنمية (1973 – 1976) و48 بالمائة خلال المخطط الخامس (1977 – 1981) و38 بالمائة خلال المخطط السادس (1982 – 1986) لتنهار الى أقل من 14 بالمائة في ميزانية الدولة لسنة 2020 مع عدم الالتزام بالإنجاز وذلك في مرحلة أولى، واستهداف الباب الأول من الميزانية في مرحلة ثانية عبر استهداف كتلة الأجور والدعم.

هذه السياسة قضت على المؤسسات العمومية وحولتها من ممول لميزانية الدولة الى، حسب ما يتم الترويج له بهتانا، عبء على الميزانية في خطوة ممنهجة نحو تجفيف موارد الميزانية التي تعمقت بسياسة الانفتاح وإلغاء المعاليم الديوانية عند التوريد في إطار اتفاقيات التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي وبقية دول العالم والتي أدت الى تفاقم عجز الميزان التجاري مع الاتحاد الأوروبي الذي يقدم نفسه كشريك تجاري أول لتونس بالتواطئ مع السلط التونسية والبنك المركزي الذي أخفى نصف الحقيقة الثانية عن التونسيين المتعلقة بحقيقة عجز الميزان التجاري الذي بلغ مستوى قياسيا غير مسبوق خلال التسعة أشهر الأولى من السنة في حدود 17 مليار دينار (وليس 10 مليارات دينار) مقابل نسبة تغطية الواردات بالصادرات في حدود 30.8 بالمائة (وليس 73.1 بالمائة) وذلك بمواصلة البنك المركزي اعتماد طريقة احتساب خاطئة لعجز الميزان التجاري لم تلتزم بما جاء في النسخة السادسة لصندوق النقد الدولي المتعلقة بدليل احتساب ميزان الدفوعات التي تم إصدارها في سنة 2008 والتزم بها الاتحاد الأوروبي منذ سنة 2010 بما يفترض انخراط تونس في نفس المسار الدولي حيث كان من المنتظر أن يطبقها البنك المركزي والمعهد الوطني للإحصاء في بداية هذه السنة.

حول موضوع التوازنات المالية الخارجية الذي يتستر عليه البنك المركزي وكذلك وزارة المالية تحت مسؤولية رئاسة الحكومة سابقا وحاليا نقدم المعطيات التالية للكشف عن فداحة الوضع المالي الداخلي والخارجي للبلاد.

هذا الجدول الصادم يفكك اللّغز الذي دفع البلاد نحو الإفلاس المنوال الاقتصادي تخلى عن القطاعات المنتجة واتجه نحو التوريد والمناولة مما أدى إلى عجز هيكلي للمبادلات التجارية وانهيار قيمة الدينار وارتفاع المديونية والبطالة.

يتبين من هذا الجدول:

– أن التوريد سنة 2019 ارتفع إلى 42,4 مليار دينار مقابل تصدير بقيمة 11,2 مليار دينار فقط. مما أدى إلى عجز تجاري بقيمة 31,2 مليار دينار تغطيته بالعملة الأجنبية بما أنها بضاعة مستوردة. هذه التغطية تتم عبر قروض قصيرة المدى من مزودين سواء كانوا مؤسسات أو دول وهي ديون غير مدرجة في الدين العمومي تسمى «الاعتمادات الدوّارة» «crédits revolving».

– مع العلم أن ميزان الخدمات الذي يشمل اساسا قطاع السياحة والنقل وتحويلات مواطنينا بالخارج وتحويلات الخدمات الصناعية لا يمكنه بتاتا تغطية العجز التجاري.

– أن قطاع «المناجم والفسفاط ومشتقّاته» هو الوحيد الذي يوفر فائضا تجاريا للبلاد منذ عدة عقود. ويبقى محدود القيمة حتى في أوجه رغم أهميتها بالنظر لارتفاع العجز التجاري. غير أن السلطة تعمل على تضخيم دوره لتبرير عقم وفشل المنوال التنموي.

– جميع القطاعات الأخرى تعاني من عجز كبير وفي ارتفاع مستمر خاصة بعد الثورة نتيجة التوريد المكثف والفوضوي الذي أفضت إليه حالة التسيّب التام.

– لذلك بلغ مجموع العجز التجاري في النظام العام المقيم 195 مليار دينار بين سنة 2011 وسنة 2019 أي على مدى التسع سنوات الأخيرة مقابل 75 مليار دينار فقط في التسع سنوات السابقة بين سنة 2002 و2010.

– في هذا الباب وكلمة حق تقال لا بد من التنويه بما قامت به حكومة محمد الغنوشي التي رغم الضغوط التي كانت مسلطة عليها من طرف المقربين للنظام السابق للدفع نحو المزيد من التوريد حاولت تطويق العجز التجاري في حدود أقل خطورة.

– هذا العجز أدى مباشرة إلى انهيار قيمة الدينار والذي بدوره اصبح يُعمّق العجز التجاري والمديونية والتضخم المستورد وانهيار الاستثمار الداخلي.هذا الوضع يستوجب قرارات سياسية سيادية لا جدال فيها.

– كل القطاعات الصناعية تم تدميرها تدميرا شبه كلّي مثلما يتبين بوضوح من ارتفاع العجز التجاري في قطاع النسيج والملابس من 0,171 مليار دينار سنة 1998 إلى 0,333 مليار دينار ستة 2010 ثم إلى 1,040 مليار دينار سنة 2019 تحت وطأة التوريد عبر انتشار العلامات الخارجية.

– هذا الجدول يبين بوضوح الأسباب الأساسية لارتفاع نسبة البطالة خاصة وانتشار ظاهرة الهجرة السرية والهجرة المنظمة لأصحاب الشهائد العليا.

– هذا الوضع أدى إلى تعطيل المسيرة التنموية منذ أواسط الثمانينات وهو في علاقة مباشرة لتداعيات اتفاقيات الشراكة غير المتكافئة التي وُقّعت مع الاتحاد الأوروبي خاصة..

هذه الوثيقة تفند رسميا ادعاء السلطة التونسية والاتحاد الاوروبي حول توازن المبادلات التجارية بين الطرفين.

لمزيد التوضيح حول هذا الموضوع الذي يبين مدى استخفاف السلطات التونسية وبلدان الاتحاد الأوروبي بالشعب التونسي يجب التذكير:

أنه بحكم وجود شركات غير مقيمة ومصدرة كليا منتصبة في تونس منذ قانون 1972 في إطار المناولة فإن قانون الصرف للبنك المركزي يخول بالنص الصريح لهذه الشركات تحويل منتوجاتها خارج البلاد التونسية دون استرجاع عائدات التصدير.

ثانيا منذ صدور «النشرية السادسة لدليل احتساب ميزان الدفوعات» «La 6ème Edition du manuel de la balance de paiement: BPM 6 وصدور «نظام المحاسبة العمومية» من طرف البنك الدولي ومنظمة الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية «OCDE»والمفوضية الأوروبية في سنة 2008 تقرّر احتساب مبادلات منتوجات المناولة للبلد المالك الأصلي فقط. وذلك لتجنب المغالطات في تقييم ميزان الدفوعات نتيجة انتشار المناولة بمقتضى العولمة.

تجاوبا مع هذا الإصدار قررت بلدان الاتحاد الاوروبي منذ سنة 2010 تطبيق «النظام الأوروبي للحسابات العمومية والإقليمية الصادرسنة 2010» الذي ينص حسبما جاء في تعريف التصدير للمعهد الفرنسي للإحصاء والدراسات الاقتصادية «INSEE» على أن «البضائع التي ترسل إلى الخارج لتحويلها في إطار المناولة لا تحتسب تصديرا. والبضائع التي تم إنتاجها وإرجاعها للبلد الاصلي لا تعتبر توريدا. أما عملية المناولة فتعتبر خدمات صناعية وتلغى من الميزان التجاري للبضائع.

غير أن الحكومات المتداولة على السلطة في تونس منذ عدة عقود و إلى اليوم دأبت على احتساب مبادلات نظام الشركات غير المقيمة والمصدرة كليا وضمها مع النظام العام للشركات المقيمة سعيا للتستر على فداحة العجز التجاري الحقيقي. وسعيا للتستر على عمق اختلال المبادلات التجارية مع بلدان الاتحاد الأوروبي.

وقد تورط الاتحاد الأوروبي وبدرجة خاصة فرنسا في هذه المغالطات الكبرى المُدانة اخلاقيا وفكريا ودبلوماسيا حيث استخفت بذكاء وقدرات الشعب التونسي على معرفة الحقيقية إلى درجة ادعائها أن الميزان التجاري متوازن بين الطرفين. بل وزادت عليها فرنسا بافترائها وجود فائض بـ4 مليارات دينار لصالح تونس؟

عجز داخلي وخارجي لتعبئة الموارد المالية الضرورية للميزانية وهو ما يسمى اقتصاديا حالة إفلاس

لقد كنا من السباقين للتنبيه من خطورة إصدار قانون أفريل 2016 المتعلق بما سمي «قانون استقلالية البنك المركزي». وقد اتضح جليّا اليوم والبلاد بل والعالم بأسره يعيش أزمة اقتصادية ومالية لم يسبق لها مثيل أن اللجوء إلى مؤسسات السيادة الوطنية هو من الضرورات للخروج من هذه الأزمات.

المديونية التي وصلت إليها البلاد خاصة أنها مديونية خارجية بنسبة تفوق ٪70 زيادة على الترقيم العالمي السلبي وعلى تعطيل النمو الاقتصادي لانعدام منظومة إنتاجية قوية وفاعلة تتطلب التدخل السيادي للبنك المركزي التونسي لتوفير السيولة الضرورية لضمان استمرارية الدولة للقيام بهامها السيادية الداخلية والخارجية.طبعا هذا القرار يجب أن يتم بطرق مضبوطة تتوفر فيها كل الشروط اللازمة لتجنب أي انزلاق.

غير أن بيان مجلس إدارة البنك المركزي الاخير رفض التدخل وتمسك بدوره في المحافظة على نفس السياسة النقدية التقشفية التي التزم بها كتابيا في رسائله المتواترة لصندوق النقد الدولي بتوقيع مشترك من طرف وزراء المالية والحق يقال وآخرها رسالة افريل 2020.

والأدهى من ذلك أن محافظ البنك المركزي طالب مراجعة الميزانية التكميلية نحو المزيد من التقشف في وقت تشكو البلاد من تداع خطير للمرافق العمومية خاصة الصحية تحت وقع جائحة كورونا. كما اشتعلت حملات إعلامية لشيطنة كتلة الأجور في الوظيفة العمومية والحال أنها تعتبر الأقل عددا نسبيا من عدد السكان مقارنة ببلدان ليبرالية مثل فرنسا وألمانيا.

الغريب أن هذه السياسة التقشفية يتم تطبيقها منذ ثمانية سنوات ولم تجد نفعا حيث أفضت إلى نسبة نمو في حدود ٪1 فقط سنة 2019. وهي اليوم في انكماش رهيب قد يتعدى نسبة ٪12هذه السنة.

دعوة لاتخاذ قرارات سيادية عاجلة وجريئة لإنقاذ البلاد

أمام هذا الوضع الصعب نحن الممضون اعلاه ندعو كل السلطات المعنية إلى التعجيل باتخاذ القرارات الآتية:

1 – ندعو مجلس نواب الشعب بعد التشاور مع كل الجهات المعنية لاتخاذ مبادرة تشريعية عاجلة لإلغاء القانون عدد 35 لسنة 2016 المؤرخ في 25 أفريل 2016 والمتعلق بضبط النظام الاساسي للبنك المركزي التونسي والرجوع إلى القانون الاصلي للبنك. وذلك أولا لأنه يتحمل مسؤولية صدور هذا القانون وثانيا لأن محافظ البنك المركزي علل رفضه التدخل لإنقاذ الوضع المالي للبلاد بأن القانون لا يخول له ذلك.

2 – في حال رفض مجلس نواب الشعب اتخاذ هذه المبادرة ندعو رئيس الجمهورية للتقدم بنفس المبادرة التشريعية إلى مجلس نواب الشعب بمقتضى ما يخوّل له الدستور.

3 – ندعو الحكومة إلى تخصيص ميزانية طارئة للقطاع الصحي العمومي والإذن الفوري بتسخير القطاع الصحي الخاص لمعالجة كافة المواطنين المصابين بجائحة كورونا.

4 – ندعو الحكومة إلى مصارحة الشعب التونسي بحقيقة الوضع المالي للبلاد مع الإسراع في تطبيق نظام الحسابات العمومية الصادر منذ 2008 والتي يتم اعتماده عالميا منذ سنة 2010 حتى يتم احتساب العجز التجاري الحقيقي ومعرفة نتائج التوازنات المالية الخارجية وكشف الحقائق بكل شفافية.

5 – ندعو الحكومة إلى اتخاذ كل الإجراءات المالية والإدارية لتنشيط الاقتصاد المحلي المنتج الفلاحي والصناعي لتحقيق أعلى ما يمكن من الاكتفاء الذاتي خاصة على المستوى الغذائي والصحي في هذا الوضع العالمي المتقلب. 6 – ندعو الحكومة إلى اتخاذ كل الإجراءات السيادية العاجلة لترشيد التوريد الفوضوي والعشوائي الذي بات من الممنوعات الخوض فيه بسبب التدخل الخارجي والداخلي مما دفع إلى انهيار قيمة الدينار وتنامي المديونية وتدمير المؤسسات الوطنية العمومية والخاصة وتعطيل الاستثمار المحلي وارتفاع نسبة البطالة. كما ندعو إلى الكف عن إيهام الرأي العام بأن حل اختلال الميزان التجاري يمر عبر التصدير فقط في وضع تصحر صناعي محلي كامل وتعطيل للمنظومة الإنتاجية في البلاد. مع التأكيد على أن ترشيد التوريد تخوله كل الاتفاقيات الدولية وفي مقدمتها المنظمة العالمية للتجارة في هذا الوضع.

7 – ندعو البنك المركزي لفتح تحقيق عاجل حول تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج.حيث أكدت عدة دراسات موثوق بها أن المبلغ المهرب يفوق 60 مليار دولار أي ما يعادل ضعف المديونية العمومية الحالية. كما ندعوه للكشف عن قيمة التحويلات للخارج التي تتم تحت عنوان الاتاوات لفائدة العلامات التجارية الأجنبية.

8 – نجدد الدعوة إلى عقد ندوة وطنية حول المنوال الاقتصادي والاجتماعي يأخذ بعين الاعتبار كل التحديات الاقليمية والعالمية وكل المسائل المطروحة على المستوى الوطني وفي مقدمتها تداعيات اتفاقيات الشراكة على السيادة الوطنية وعلى الاقتصاد الوطني المنتج وعلى التشغيل.

نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ 3 نوفمبر 2020

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING